طلال سلمان

هوامش

ظبية خميس في منفى الأنظمة الساقطة
«انها منفى! ولم تكن مرة أكثر من ذلك.
«جامعة الدول العربية منفى لقضايا العرب، والقضية الفلسطينية بالتحديد.. منفى لقضايا الشعوب العربية، ومجمع غير كهنوتي للتواطؤ على اللاعمل، مقر للاجدوى، ومبنى تسترخي فيه الأوراق والمذكرات والبيانات إلى ما شاء الله…».
بهذه العبارات تبدأ ظبية خميس حديثها عن الجامعة، وقد يفترضها البعض قاسية وفيها شيء من الوتر، مع وعيه ببؤس الحال داخل هذه المؤسسة العجوز، وبرداءة الدور الذي كاد يأخذها إلى نقيض المقصود من قيامها، أو إقامتها، حتى لو صدقنا جدلاً ان بريطانيا التي كانت دولة احتلال أو استعمار لمعظم الدول العربية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، هي التي عملت على «استيلاد» هذه الجامعة التي باتت علامة على انفراط عقد العرب، وتشتتهم… بل انها صارت أشبه بالمدعي العام على الكثير من الدول العربية لدى مجلس الأمن الدولي، بشهادة تصرفها عند انفجار ليبيا بالانتفاضة الدموية، وشهادة المحاولة البائسة لاقتياد سوريا أيضاً إلى محكمة التأديب الدولية، بعد «طردها» ـ وهي إحدى الدول المؤسسة للجامعة ـ ومحاولة تنصيب المعارضات المختلفة «ممثلاً شرعياً» للشعب السوري.
تبدأ ظبية خميس برواية سنوات المنفى انطلاقاً من بلدها، دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ اغضب السلطات مقال لها نشرته في مجلة «المجلة» الصادرة في لندن بعنوان: «مقبرة النخيل» هو عبارة عن «تأملات امرأة شرقية» فأودى بها إلى المنفى ثم إلى العمل في جامعة الدول العربية حيث بقيت لمدة ثماني عشرة سنة متواصلة… وكانت منفاها الثاني. بعد ذلك أودى بها عرض لكتاب كوكب الريس التي فتحت «جرح الجامعة العربية» إلى لجان المساءلة والعقوبات والإهانة ومحاولات الاعتداء ثم الفصل التعسفي، في عهد عمرو موسى، بعد ربع قرن من المقال الأول.
بعد دراسة العلوم السياسية في بعض جامعات أميركا، عادت ظبية خميس إلى أبو ظبي حيث كانت «الدولة» قيد الإنشاء وعملت لفترة في وزارة التخطيط. لكن ولأن السياسة في دمها فقد كتبت في مجلة «الأزمنة العربية» التي كانت صوتاً صارخاً في البرية تحت قيادة المفكر ـ المناضل ـ الراحل غانم الغباش، وشاركت في تأسيس جمعيات أهلية بينها اتحاد كتاب الإمارات. أغلقت المجلة (المعارِضة) بعد وقت قصير.. وعادت ظبية خميس إلى بريطانيا.. لتعود، مرة أخرى إلى أبو ظبي حيث عرض عليها العمل في تلفزيون دبي فأعدت حلقات ثقافية لم ترض عنها الرقابة وصودرت كتبها. ولما جربت الكتابة في مجلة «المجلة» منعت هذه المطبوعة من دخول الإمارات. ثم جاءتها رسالة فصل من العمل، تبع ذلك ان أفاقت ذات يوم لتجد عدداً كبيراً من المسلحين يرتدون الدشاديش ومعهم امرأة شرطية. وقد اقتادوها من دون أمر اعتقال أو أوراق ثبوتية بعدما عصبوا عينيها إلى مقر المخابرات والأمن. لم تكن هناك محاكمة ولا تهمة جنائية ولا سجن، بل كان اختطافاً واعتقالاً في غرفة داخل ذلك المقر، لا نور يدخلها وثمة حارس أفغاني ملتح يحرسها. وكانوا يهددونها بأنهم سيأمرونه باغتصابها في حالة رفضها «التعاون». وبعد خمسة شهور حفلت بالكثير من التهديدات بالقتل لو عادت إلى الكتابة، أطلق سراحها وأخذوها إلى بيتها في الشارقة معصوبة العينين!
[[[
خلال تلك الفترة عادت ظبية خميس إلى لندن حيث نشرت عددا من الكتب بينها «السلطان يرجم امرأة حبلى بالبحر»، و«خلخال السيدة العرجاء» و«انتحار هادئ جداً».
في العام 1992 عادت ظبية خميس لتستقر في القاهرة، ودخلت إلى جامعة الدول العربية «لتُدفَن» فيها لمدة 18 سنة متواصلة.
تروي ظبية حكايتها مع الجامعة العربية بحلوها ومرّها: «أتاحت لي تجربة العيش والعمل العربي مع موظفين من مختلف أرجاء الوطن العربي، وعرفتني إلى البيروقراطية المصرية إدارياً وكشفت لي بوضوح عن التركيبة الطبقية وسلوك أبناء الطبقة الحاكمة في مصر والذين كان عدد كبير منهم يعمل في الجامعة بجانب مناصبه الأخرى وتجارته وشركات عائلاته…».
أول ما صدمها التمييز بين كبار الموظفين (وهم بأغلبيتهم من المصريين) وصغارهم. وكانت أغلبية الدفعة من المصريين من أبناء الوزراء.. وكان من أبناء المسؤولين المصريين: إيهاب صفوت الشريف، وسلمى مصطفى الفقي، ومنى كمال الشاذلي، ورانيا حبيب العادلي، وهناء سرور، وطارق منير ثابت ابن شقيق سوزان مبارك، وعصام مبارك أخو حسني مبارك ودسوقي أباظة ابن ثروت أباظة وسميحة خالد محي الدين، وإيناس سيد مكاوي، وأشرف محمود رياض.
[[[
كانت الجامعة قد أعيدت إلى القاهرة، وكانت الجهود منصبة على إعادة «تمصيرها».. «وصرت وديعة إماراتية مجمدة داخل مبنى جامعة الدول العربية، تخلي دولتي ذمتها من إيجاد عمل لي في بلدي وتضمن وجودي في مكان تشل فيه حركتي وتعبيري عن آرائي ومشاركتي في الحراك الثقافي والسياسي في دولتي».
«بدأت بالسؤال عن الإدارة الثقافية التي كان قد أسس لها طه حسين، ذات يوم، فقيل لي انه لا توجد إدارة.
«… وكم كان غريباً عمل الأزواج والأقارب والآباء والأمهات مع أبنائهم وبناتهم في الجامعة برغم مخالفة ذلك لشروط العمل.
«… ولقد كانت فترة عصمت عبد المجيد التي امتدت عشرة أعوام أشبه بمصحة ومأوى للعجزة أو فندق ساحلي في فصل الشتاء.
«كان عصمت عبد المجيد شديد الفخر بكونه مهندس اتفاق السلام مع إسرائيل ومؤتمر كامب ديفيد.. أما عمرو موسى فقد اتكأ على خلافاته التي استجدت مع الإسرائيليين، وسرعان ما زادت شعبيته اثر أغنية شعبان عبد الرحيم.. التي تنسي الناس انه كان أحد قادة التطبيع مع إسرائيل، وانه كان لولب مؤتمر التطبيع الشهير الذي عقده في فندق المينا هاوس في العام 1990.. ونسوا صداقته مع شيمون بيريز».
تتحدث ظبية خميس عن نرجسية عمرو موسى التي تغطي على من هم حوله.. ولقد دخل بصحبة أصدقائه القدامى والمتقاعدين، من الخارجية المصرية، وموظفيه الذين جاءوا معه.. ودخل ببدله البراقة وأحذيته الجلدية والصقيلة وربطات عنقه الأنيقة… دخل كوزير خارجية مصر.
تتوقف ظبية خميس أمام ظاهرة التمصير الشديد داخل الجامعة «حتى بتنا نشعر بأننا موظفون نعمل في داخل أروقة وزارة الخارجية المصرية.. وصار للسعاة والفرّاشين سطوة وبعضهم كان يتجسس علينا علناً يومياً».
أما عمرو موسى فهو في تقديرها وبرغم اختلافها مع إدارته «ديناميكي وحيوي وكثير الحركة برغم سني عمره المتقدمة… ولعل الصورة الإعلامية المضخمة التي أحاط نفسه بها وانقلب جزء منها ضده في ما بعد قد حولته إلى ضحية للتضخيم الإعلامي الكبير الذي انعكس على جوانب مهنية من حياته».
وتختتم ظبية خميس ذكرياتها عن تجربتها المرة: «… وهكذا باتت جامعة الدول العربية، أو ما تبقى منها جسداً مهلهلاً وأمراضاً مستجدة وأنظمة ساقطة وهيكلية فاشلة».
لقطات من فرح الفقراء في شارع الحب المستحدث
البيت ضيق لكن الفرح يوسع المساحة. لا بأس بالطريق العام مسرحاً للعرس، فلقد انتهى زمن العراك للاسبب، وآن الأوان لكي يكتشف الناس حقائق حياتهم ويعودون بسطاء وطيبين كما هم في الأصل.
جاءوا إلى «الفرح» عائلات سرعان ما انقسموا إلى «أولياء أمر» و«شباب». في البداية كان لا بد من شيء من الرصانة والتزام موجبات «الرسميات»، مداراة للأغراب، برغم الاطمئنان إلى ان «الجميع» هنا أقرباء أو متقاربون في عاداتهم والتقاليد، ولا مجال للتباهي بالثروة واستعراض الملابس بأثمانها وليس بمدى ملاءمتها الذوق.
… و«الأهل» آباء وأمهات، وفتيان وصبايا وأطفال جاءوا لكي يعطوا الفرح نكهة التجدد مع اختلاف الأزمات.
اتخذ الكل مقاعدهم، بحسب ما أرشدهم «الدليل»، ثم تخففوا من الرسميات، فاندفع الجميع يتعانقون ويحركون المقاعد لكي يجلسوا معاً متجاوزين «البروتوكول».
كانت الموسيقى تبشر بالفرح وتغري الجميع برمي الهموم والمناكفات و«الغيرة» خارج مساحة الانشراح والاشتراك في هذه المحطة القصيرة الفاصلة بين متاعب اليوم وهموم الغد.
غبي من يضيع لحظة تحليق في أجواء النشوة.
الأولاد والفتيان هم الأصدق في التعبير عن حقيقة انهم جاءوا لكي يعيشوا الفرح قبل ان يوزعوه على الجمهور، وليأخذ كل منهم بقدر طاقته أو احتياجه.
لا يباع الفرح في الأسواق المجمعة أو على أرصفة البنايات الفخمة التي يسكنها أولئك الذين يعلنون انفصالهم عن باقي الناس بارتفاعهم عاليا بعيداً عنها، وفي شقة تتسع لسكان حي كامل.
لم يحتل التباهي بأثمان الثياب مساحة واسعة. الكل يعرف الكل بأسراره ومكنونات صدره، قصص الحب ومظالم الفقر والعوز. كانت الفساتين بسيطة، جديدة، لكنها خالية من بهرجة المنافس. للصبايا ان يلبسن «على الموضة» فيبدون كالغريبات، وتتباهى بهن الأمهات، في حين يهز الآباء رؤوسهم دلالة التسليم بالتطور، مع تنهيدة أسى على الزمان الذي مضى وتقاليده الصارمة.
أما الرجال فكانوا يرتدون الملابس التي أعدوها لمثل هذا اليوم من قبل، وذهبوا بها إلى أفراح كثيرة، من دون ان يحسوا بعقدة نقص لأنهم لا يملكون ما ينفقونه على بدلات بعدد أعراس القبيلة. لتكن الاناقة للنساء، هن قد يحتجن إليها للتباهي بقدرات أزواجهن، أما الرجال فيكفي كل منهم ان يتباهى بأنه زوج الأجمل بينهن أو الأعظم حباً.
كان الجميع أكثر عدداً من ان يتسع له البيت المتواضع، لكن الطريق العام، وإن كان ضيقاً، يتسع بما يكفي لأن يتحول إلى صالة استقبال. أما مساحة البيت القديم الذي هدم مع ذكرياته فتتسع لحلبة رقص ينزل إلى ساحتها الفتية من أهل العروس ورفيقاتها فيتبارون في الدبكة، وقد جددوا في خطواتها بالحذف أو الإضافة بحيث قربوها من نمط الرقص الهجين «السائد».
امتد شريط المستقبلين من مدخل البيت إلى نقطة التقاطع بين طريق العروس إلى عريسها وطريق العريس إلى عروسه.
الحدث الطارئ تمثل بالكاميرا التي جيء بها لتخلد المناسبة بكل شهودها، وقد أثارت الفتياتِ الصغيراتِ، فوقفن عند مداخل البيوت المجاورة تجرين تمارين الرقص بتقليد خطوات الشقيقات الكبيرات أو بنات الجيران.. وان كان الأرجح أنهن تلقين الدروس على أيدي الأمهات اللواتي لم يذهب العمر بشوقهن إلى الرقص فرحاً.
كانت أم العروس لا تعرف كيف تعبر عن فرحتها، وهكذا سبقت باللهفة إلى مدخل البيت، وهي تحمل الصينية التي زرعت فيها الورود، وأودعت فيها بعض الجمر لإحراق البخور كي يضمخ الهواء بطيبه.
أما داخل «صالون الاستقبال» فقد جلس الوجهاء وأعيان عائلة العريس ينتظرون انتهاء الزفة بصبر. بيوت الفقراء خزانات للفرح، تستطيع ان تعيش بالقليل من الخبز إذا كان قلبك حديقة عشق للحياة، وان كنت لا تكره نفسك في الناس أو تحبها في أذاهم.
يستولد الحب الفرح. تتهاوى خصومات الماضي ومناكفاته وذكريات «العركات» التي تخلقها المنافسة على الوجاهة بين العائلات التي يأخذها الفقر إلى العراك تثبيتاً لزعامة الوجهاء في كل فريق.
وفي الشارع الضيق، وقف الرجال احتراماً لوداع العروس المغادرة إلى الشارع الضيق المجاور. أما في الشارع المقابل، فقد مشى أهل العريس ليتلقوا العروس ويقدموا الشكر مرفقاً بالقبلات العديدة على الوجوه التي يغطيها العرق.
وكان عناق حميم تهاوت معه «الخصومة» التاريخية التي حرص الوجهاء على اذكاء نارها لتمتد زعامتهم جيلاً بعد جيل، وآن الأوان أن يتواضعوا وقد بات لكل فرد في الرعية عمل يطعمه.
تهويمات
^ قال المتعب بحبه: أرغب في لحظة راحة. أحس أنني أكاد اختنق بسعادتي… تمنيت لو انني أعرف الكتابة إذًا لاستطعت ان أغرف من حبي دواوين شعر…
وردت المتعبة بحبيبها: اتبع قلبك وانسَ غرورك. لست زير النساء. كن واحداً تجد حبيبك. يتسع القلب للناس جميعاً، لكن الحب أناني ونرجسي لا يحب إلا ذاته.. فكن ذاتي.
[ [ [
^ قال من جعل نفسه ديك الحي: تمنيت، أحياناً، لو كنت اثنين أو ثلاثة من الرجال. أخذني التوهم إلى ان لي أكثر من قلب واحد. لكن المحاولة قادتني إلى جحيم افتقاد ذاتي.
تنهد بحسرة قبل ان يضيف: لا يصمد الكذب أمام الحب. تكفي نظرة واحدة، كلمة واحدة، تنهيدة واحدة لفضح الادعاء فتخسر كل من افترضت انك قد «اصطدت» وتصير أنت الطريدة التي يسخر الجميع من غبائها!
من أقوال نسمة
قـــال لـــي «نســـمة» الـــذي لــــم تعــــــرف لــــه مهـــــــنة إلا الحــــب:
ـ الحب ثرثار.. وغالباً ما تضيق اللغة على الشوق، فيهرب العاشق إلى لغات أخرى بينها الصمت، وبينها محاورة العيون، بينها الرسم، وبينها استعارة كلمات المغني.
أما أنا فأحب كل الناس بعنوان حبيبي، وأقربهم مني بأن أعطيهم بعض حروف اسمه لتكون التميمة وطريقهم إلى العشق.

Exit mobile version