طلال سلمان

هوامش

محمد ملص يرسم صنع الله إبراهيم .. قبل أن يأتي ممثلاً عبد الناصر

كتب محمد ملص في إهداء يومياته «مذاق البلح» التي أصدرها متأخرة حوالي نصف قرن عن فراغه من كتابتها:
«تحية.. ولكل منا هوامشه التي قد تبتعد وقد تتقارب كما الكاميرا..
«بالله عليك قل لنسمة إن بين مذاقات النار في سوريا اليوم ثمة مذاق البلح».
باشرت القراءة في تلك الصفحات من «مفكرة موسكو» التي كتبها محمد ملص خلال دراسته بين 1968 و1974 فإذا صنع الله إبراهيم يسكن فصلها الأول بالكامل… فقد كان هارباً إلى الدراسة «لكي يكتب» ربما «لتعذر العيش في مكان آخر، أم أنه الفضول للتعرف إلى التجربة السوفياتية والانغماس في عالمها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنسائي؟! وهل كان لهذا «الفضول» علاقة بالسنوات الخمس التي قدمها صنع الله إبراهيم من عمره إلى السجون المصرية».
يكتب محمد ملص في تقديم صنع الله: «حين التقينا ظل يتوارى وراء ضحك مشبع بالخيبة.. وحين خلع معطفه الثلجي لمحت جمالاً إنسانياً ذا وميض عذب. وكان في مظهره شيء لم يوح لي إلا بالرهبنة».
روى محمد ملص في الفصل الأول من اليوميات المكتوبة قبل خمسة وأربعين عاماً ما يمكن اعتماده مدخلاً لفهم هذا الصعلوك الذي يضم في هيكله العظمي أديباً وفناناً من طراز متميز، والذي أسعدني حظي بأن أستضيفه ذات يوم، قبل دهر، وأن أرافقه كمندوب سياحي في زيارة إلى بلدتي شمسطار، ثم في تجربة «التلفريك» صعوداً إلى حاريصا، فضلاً عن جولة على مقاهي بيروت حيث تجلس الثقافة لتشرب قهوة الصباح قبل أن يباشر مبدعوها إنتاجهم متعدد الوجهة والمقصد.
أما صاحب مشروع الزيارة السياحية فقد كان الفنان المبدع الذي عرفه الجمهور العربي المتذوق فن الكاريكاتور بتوقيع «بهجت عثمان» وعرفناه باسم «بهاجيجو» وأحببناه كصديق نادر المثال في ظرفه الذي يخرجك من وقارك إلى عالم النكتة التي توجعك ضحكاً من نفسك ومن الآخرين، قبل أن «تفتك» بالحكام العظام وأنظمة العسف، وصولاً إلى المنافقين والمداحين من الكتّاب والصحافيين وسائر الذين يزوّرون إبداعهم تودداً لأصحاب السلطان.
ولأنني، لجهلي بالجغرافيا، كنت أتصرف وكأن بلدتي التي تسكن في حمى صنين، ولكن في الخلف، هي عاصمة الكون… لذا كنت أحرص على أن أقصدها مع ضيوفي ـ لا سيما المصريين ـ لكي يروا بالعين المجردة ويتأكدوا أن بيروت، على عظمتها، ليست لبنان كله، وإن كانت عاصمته ـ الأميرة، والمنتدى الفكري والثقافي والمركز المالي والاقتصادي ومطبعة الوطن العربي ومصيفه ومقهاه وملهاه وصحيفة الصباح.
وهكذا فقد صحبت «وفداً» مصرياً ثلاثياً برئاسة بهاجيجو وعضوية كل من «الباشمهندس» الفنان نسيم هنري والروائي الذي كان قد أنتج تحفته الأولى «نجمة أغسطس»، وجاء بيروت يحمل مسودة روايته الثانية «تلك الرائحة»… إلى شمسطار.
كنا في بداية الثمانينيات، والزمن هدنة بين حربين.. وكان الكهول في بلدتي ما زالوا يحتفظون بالزي العربي، أي الصاية وفوقها سترة، والرؤوس مزينة بالكوفيات والعقال، والترحيب بالضيف واجب «يستنفر» الأقارب والأصدقاء فيأتون من دون دعوة «لعلك تحتاج شيئاً.. أو لعل بيتك لا يتسع لضيوفك كلهم فنحمل معك، تدليلاً على الترحيب والإكرام».
كان الجميع يعرفون بهاجيجو الذي سبق أن تقدم بطلب انتساب إلى العائلة والضيعة، وصار نجم السهرات حين يزورنا، وبالتالي فقد اتخذ موقع «المعرف» وصار يقدم «الضيفين» لوجوه البلدة الذين توافدوا للترحيب ودغدغة آذانهم باللهجة المصرية المحببة التي تأخذهم من جمال عبد الناصر إلى أم كلثوم مروراً بمحمد عبد الوهاب وقد يضيفون إليهم أسمهان وعبد الحليم حافظ.
وكما كان متوقعاً فقد أحدث اسم «صنع الله» صدمة، تلقاها البعض بابتسامة مفترضاً أنها «نكتة مصرية»، وتلقاها البعض الآخر بالاعتذار بخلل في السمع طالباً إعادة الاسم مرة أخرى… ولأن صنع الله معتاد على أن يستقبل اسمه بشيء من الاستغراب والدهشة، فقد كانت روحه الرياضية ترسم على وجهه ابتسامة عريضة وهو يقول: الحقيقة أن الوالد وقد فوجئ بوسامتي عند الولادة فإنه قد أحال الأمر إلى صاحب الأمر، وهكذا أعطاني اسم صنع الله ليبرئ نفسه من هذا المولود الذي جاء كما ترون!
… وكان هذا التبرير تأكيداً لخفة دم المصريين الذين جاء الأهل يرحبون بهم، وإن ظلت دهشتهم قائمة وظل افتراضهم صامداً: إنها نكتة مصرية… لكن صاحبها ظريف. يا سبحان الله!
في الصباح كان عليّ واجب الذهاب للتعزية بقريب هو بين وجهاء البلدة، وفوجئت بنسيم يدعو صنع الله إلى المشاركة في الواجب: هكذا ستتعرف إلى جانب آخر من حياة أهل لبنان، لا سيما هؤلاء البعلبكيين.
كان الضيفان يرتديان جلابيتين من إنتاج دير للرهبان في «اخميم»، وهي بلدة صغيرة في الصعيد المصري تنتج أنواعاً مميزة من الجلابيات، رجالية ونسائية، في مشاغل يتولون إدارتها بكفاءة.
قال صنع الله: أنذهب بهذه الملابس؟
رد نسيم: ألا ترى أننا ونحن نرتديها نبدو وكأننا من أهالي الضيعة.. بل أننا من وجهائها، فجلابياتنا أفخم وأغلى ثمناً من جلابياتهم!
ضحكنا ومضينا إلى دار العزاء. كان أهل الفقيد قد أقاموا في حديقة البيت المنفرد بعيداً عن جيرانه، سرادقاً، ووقف «عريف» يرحب بالوافدين لأداء واجب التعزية. وحين أطل موكبنا لعلع صوت العريف: جاءنا الآن وفد من الجمهورية العربية المتحدة لمشاركتنا.. فأهلاً به آتياً من بلاد جمال عبد الناصر، ومرحباً، ولولا حرمة الموت لاستقبلناه بما يليق به!
قال نسيم: انفخ صدرك واعتدل وانتبه إلى خطواتك. إننا نمثل، الآن مصر وجمال عبد الناصر، فلنكن في المستوى.
رفع صنع الله رأسه، ومشى إلى جانب «نسيم» وكأنهما وفد رسمي يمثل دولة كبرى، والعريف يلاحقهما بالترحيب ويسبغ عليهما صفات لم يدّعياها… ووقف الناس إكراماً لهذا الوفد الاستثنائي الذي فاجأهم بحضوره، وأخذوا يشيرون إليّ مؤكدين أن «نفوذي» قد تجاوز لبنان إلى بلاد عظيمة مثل مصر! بادر المنظمون إلى إفراغ الصف الأول في السرادق تكريماً وعرفاناً بالجميل لهذه اللفتة المميزة تأتيهم من حيث لا يتوقعون!
في طريق العودة إلى بيروت قال «الباشمهندس» موجهاً الكلام إلى صنع الله، ألا ترغب في ركوب التلفريك صعوداً إلى سيدة حريصا. لقد وجدت صوراً لسياح وزوار لبنانيين يمتطون هذا المصعد الهوائي من جونية إلى حريصا. إنها متعة لا يجوز أن تفوتنا!
قال صنع الله: وهل سنكون، مرة أخرى، وفداً رسمياً جاء من الجمهورية العربية المتحدة لزيارة السيدة فنلقى الحفاوة والتكريم؟!
قال نسيم هنري: بل سينظر إلينا كفقيرين مصريين وقبطيين شدهما الإيمان إلى فوق، لكي ننال بركة «والدة الله».
ركبنا المصعد تأخذنا نوبات من الضحك، حتى وصلنا إلى نهاية الخط، فإذا بنسيم يندفع خارجاً ويقف «تمام» وهو يقول وكأنه المرافق أو التشريفاتي: تفضل سعادتك! (ثم يضيف همساً: انفخ صدرك، أنت هنا مسؤول أكبر مما كنت في العزاء. هناك استقبلونا إكراماً لعبد الناصر بعد الوفاة، هنا سيستقبلوننا وكأننا من مشردي المرحلة الناصرية، ومن أقباط مصر الهاربين بثرواتهم..).
قمنا بالجولة السياحية تطاردنا عيون الناس المفتوحة بشيء من الدهشة والاستغراب: من هؤلاء؟! ليسوا سياحاً بالتأكيد، فماذا يفعلون هنا؟!
وتقدم أحد المضيفين ليسأل: هل تريدون إتمام الزيارة بالصلاة في الكنيسة؟!
وتدخلت لحسم الموقف: الإخوان فريق تصوير سينمائي جاء يستكشف مواقع التصوير في فيلم سياحي عن لبنان.
أجال المضيف نظره في هذا الفريق، ثم هز رأسه غير مصدق، قبل أن يرفع كتفيه بما معناه: إنهم من جملة المتسكعين. لعل الفرجة قد أتت بهم! في أي حال قلب السيدة كبير!
[ [ [
شكراً لمحمد ملص الذي أتاح لي أن أوجه هذه التحية، ولو عن بُعد، إلى الكاتب المبدع صنع الله إبراهيم، الذي كان يحمل روايته الثانية «تلك الرائحة»، والذي رفض أن أتدخل في سعيه إلى نشرها في بيروت، لأنه لا يريد أن تلعب الصداقة دوراً في إقناع هذه أو تلك من دور النشر لقبول الرواية وإطلاقها.
وستكون لي عودة إلى «مذاق البلح» ويومياته في موسكو التي تتضمن مجموعة من الروايات عن عهد مضى وانقضى ولكن بعض صفحاته ستظل تحفل بالعديد من الإنجازات وبينها أن تلك الدولة التي كان اسمها الاتحاد السوفياتي قد وفرت الفرصة لأن ينال آلاف آلاف الفقراء من أربع رياح الأرض التحصيل العلمي العالي محاطين بمشاعر من الود والصداقة التي كثيراً ما انتهت بمصاهرات تتجاوز القوميات إلى ما يقرب من الأخوة الإنسانية.

حوار بالذكريات والتمني مع رشيد بوجدرة

دخل المكتب كهلاً يكاد يتعثر بظله، لكنه حين جلس وانطلق يتحدث عن الجزائر وعن الأدب الجزائري، بالقصة فيه والرواية، والصراع بين اللغة الأم واللغة الوافدة التي استعمرت اللسان وشوّشت على الوجدان، استعاد طلاقته وبعض الزهو بأنه قد أنتج روايات بالعربية أكثر مما أنتج بالفرنسية… بل انه ترجم بنفسه بعض رواياته مؤكداً قدرته على التعبير عن نفسه باللغتين.
قال رشيد بوجدرة إنه لا يعاني من عقدة لغة المستعمر، فهو قد تغلب عليها بأن درس لغته الأم حتى اغتنت روحه بمضامينها وأجاد صرفها ونحوها فاستعاد ذاته وازداد فخراً بوطنه وبهويته.
تحدثنا عن أوضاع الجزائر، حركتها الثقافية، صحافتها وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، قبل أن نتوغل في السياسة وأهلها. كان الهم الأكبر ما فعله الإسلاميون بالجزائر، وحروب المواجهة معهم وتأثيراتها على الحياة السياسية، بل على المجتمع بأعرافه وتقاليده وضرورات أمنه وسلامته.
استذكرت معه أنني زرت الجزائر لأول مرة، في النصف الثاني من أيلول 1962، وأنني شهدت الجلسة الاولى للجمعية التأسيسية ثم الجلسة الثانية التي انتخب فيها أحمد بن بله رئيساً، والتي وقف فيها واحد من النواب يطلب صرف ثمن كسوتين للرئيس الوطني الأول «لأنني أعرف انه والله لا يملك إلا كسوة واحدة، وهو الآن قد ولى رئيساً وسوف يستقبل رؤساء ووزراء، ولا بد أن تكون ملابسه لائقة..». وقد صوّت أول مجلس نيابي جزائري على تقديم ثمن كسوتين لرئيس جمهورية الجزائر.. المستقلة.
أعجب بوجدرة بأنني أحفظ شيئاً من اللهجة العامية الجزائرية، وبأنني قد التقيت العديد من المسؤولين السياسيين، بمن فيهم الرؤساء والراحلون أحمد بن بله وهواري بومدين والشاذلي بن جديد… وأنني قد عرفت بعض الأدباء الجزائريين الكبار، وبينهم مالك حداد الذي استضفناه في مناسبة ثقافية عشية التحرير، وكيف بكى حين وقف ليرد على خطب الترحيب به والإشادة بثورة الجزائر، لأنه لا يعرف أن يعبر عن مشاعره باللغة العربية… لغة بلاده وأهلها.
تحدثنا عن أوضاع الجزائر، اليوم، فأبدى بوجدرة ارتياحه لأن شبح «الإسلاميين» الذي ظلل الحياة السياسية لفترة قد انزاح عن صدور الجزائريين الذين صاروا أكثر انشغالا بهموم حياتهم، وهي ثقيلة وأقل اهتماماً بالسياسة التي لا تزال رهينة قرار الجيش… وأعرب عن تفاؤله بنهضة اقتصادية شاملة أطلت بشائرها ـ اجتماعياً ـ في حقل العمران.
استعرض بوجدرة الحياة الثقافية في الجزائر، وتوقف أمام أوضاع الصحافة التي لا تزال في طبعاتها العربية متخلفة و«عشوائية» في إخراجـــها بعكـــس الصحف باللغة الفرنسية التي تعتــمد تقليــد الصحـــف الفرنـــسية. في التـــبويب كمــا في الاهتمامات.
ولأنني تهيبت اقتحام المجال الثقافي لأن الزميل اسكندر حبش كان يعتبر بوجدرة ضيفه وأسيره، وأن الثقافة اختصاصه في حين أنني طارئ عليها، فقد اكتفيت بأن أسأل بوجدرة عن الأديبة التي صارت ذات يوم وزيرة، زهور ونيسي التي عرفت زوجها أحمد الصغير جابر في المكتب والمطعم والمقهى ثم في نظارة المحكمة العسكرية… وقبل أن أرسل إلى زنزانة في سجن الرمل، بتهمة التعاون مع هذا الرجل الخطير الذي يعد لانقلابات في البلاد العربية ويزوّر الهويات ويهرّب السلاح وألف تهمة أخرى من هذا العيار ثبت بطلانها، ولكن بعدما دفعنا ثمن الزور والتزوير والنفوذ الفرنسي في دولتنا المستقلة من كرامتنا وحريتنا وفرص العمل في بلادنا.
قال بوجدرة إن زهور ونيسي صديقته وإنه معجب بها كروائية وكناشطة ثقافياً، وانه نادراً ما يلتقي زوجها الذي دفع ضريبة «الجهاد» ثقيلة في لبنان ثم لم يجد من يعوّضه عنها في البلاد التي خدم ثورتها كمناضل حقيقي، فانطوى على نفسه في صمت كما يجدر بالمناضلين الذين يقدّمون شبابهم وكفاءاتهم لنصرة قضية وطنهم ثم يتوارون في الظل مطمئنين بأنهم قد أدوا واجبهم وهذا شرف لا ينضب، ولا يطلبون عليه أجراً ولا أوسمة أو جوائز تقديرية.
وتنحنح اسكندر فعرفت أن «وقتي» قد انتهى، فودعت الأديب الجزائري مشفقاً عليه من حواره مع زميلي الذي يكتب في الثقافة مفضلاً الأديبات على الأدباء والترجمة على النقل.. والكسل اللذيذ على العمل الثقيل الوطأة والظل.

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـــ اترك لحبيبك فرصة للتنفس. ليس الحب سجناً تزينه التنهدات والدموع والتأوّهات وقصائد الغزل. الحب مطلق، كما الشمس، كما الفضـــاء المفـــتوح، إنه يرفعك إلى مرتبة الشاعر وكنــت ترتــبك فــي النــثر. عـــش حـــبك باعتـــباره حـــياتك وليـــس جمـــلة معـــترضة بين الجـــنة والنـــار!

Exit mobile version