طلال سلمان

هوامش

I ـ اعترافات عاشق لحبيبة في الأربعين من شبابها الأول

هل هو من التجاوز والخروج على الأعراف أن أكتب، هنا، بعض الكلام الحميم عن «السفير» وأهلها والرحلة الطويلة في قلب العذاب والأمل والفرح بالإنجاز الذي يعطي العمر المعنى ويعوّض وجع العيش في قلب الجنون وتحدي المخاطر من أجل وريقات مطبوعة تحمل إلى الناس بعض الأفكار والأخبار والآراء؟
إذن، ها أنت تباشر في «السفير» ومعها عامك الأربعين، مكابراً رافضاً الاعتراف بوطأة الخيبات ومرارة الانتكاسات واختلاف الزمان عليك وعليها، وقد اندفعت مع مشروعها ـ الحلم بحماسة تداني الهوس، وباستهانة بالمخاطر تداني الشروع في الانتحار.
ها أنت تستمد من عشقها شبابك الثاني، ومن نجاحها إحساسك بثقل الدور وضرورة الاستمرار، ومن مسؤولية الكلمة التي تربيت في ظلالها احترام الرأي الآخر، ومن خطورة ما واجهت وعائلتك وواجهت وعائلتها اعتزازك بدور الصحافة عموماً و«السفير» خصوصاً في مقاومة الخطأ ومواجهة الانحراف والتبشير بغد أفضل تؤمن بأنه سيأتي ولو بعد جيل، وتعمل لتعجيل قدومه ما استطعت.
أربعون سنة: أربعون حرباً، أربعون اجتياحاً إسرائيلياً، أربعون فتنة، بل أزيد بكثير، والصحافة هدف أول لرصاص الحروب ومحاولات الاغتيال ومحاصرة المطبوعة القوية، على فقرها، بأدلاء الاجتياح والمُنَصَّبِين رؤساءَ بفضله،
يسقط عليك القرار بالتعطيل القسري في الأيام الأخيرة من العام 1976… وتدفعك زوجتك إلى مغادرة البيت حتى لا يدهمك الجلاوزة فيرعبوا الأطفال. وتمشي هائماً على وجهك حين ترى الملابس الداخلية للجنود منشورة على حديد الشرفات تغطي «الحمامة» التي ترمز إلى شعار «السفير»، جريدة لبنان في الوطن العربي، جريدة الوطن العربي في لبنان… ويتساءل جندي طيب عن الذين لا صوت لهم والذين ستتكفل الحمامة بأن تكون لسانهم فتعبّر عن طموحاتهم، وتقاتل من أجل حقوقهم… وتسعى إليهم في أريافهم المبعدة عن الذاكرة الرسمية، ويذهب الياس عبود لمواكبة «الليطاني ـ نهر المليون فقير» من منبعه وحتى مصبه، وتعطي تحقيقاته ومعها أخبار المناطق الصفحات الأولى، قبل أن يأتي زمن السقوط المريع أمام العدو الإسرائيلي، وقبل أن يحول السادات مشروع الانتصار المصري ـ السوري المؤكد في حرب رمضان ـ أكتوبر إلى سلسلة من التنازلات التي تتجاوز أفدح هزيمة عسكرية، والتي أصابت فلسطين في الصميم.
[ [ [
هو العشق لا الاحتراف المهني أو الرغبة في لقاء النجوم مطفأة أو مشتعلة «بنفط» المصالح، يربطك بهذه المهنة ولاّدة المخاطر لمن مارسها بشرف، ولاّدة الثروات لمن اتخذها شرفة نفاق لأهل الثروة والسلطة،
هو العشق… تدخل «سيدتك» الأربعين فلا ينقص عشقك بل من الأكيد أنه يتعاظم باستمرار حتى بات يشكل دنياك خارج يوميات الآخرين بهواياتهم الممتعة المختلفة.
تتابع «السفير» مغامرة السير، فوق الألغام لا بينها، ومواجهة الطوائف لا مداراتها.
تقابل الملوك والأمراء وشيوخ النفط، الحكّام ـ الأباطرة الآتين من العسكر إلى الدكتاتورية، فلا يتلجلج لسانها وتطرح الأسئلة التي تذهب «بالشرهات» والمكافأة على الصمت.
تفتح «السفير» صفحاتها لحوار المتخاصمين، تذهب إليهم كمحاور لا كفريق، وتناقشهم باسم المواطن في ما تعتبرها أخطاء، تنشر آراءهم باحترام، وإن كانت لا تقبلها، ثم تناقشها متجنبة أن تكون خصماً.
تذهب إلى كبار المفكرين والأدباء والكتاب لتحمي ثقافتها ورفعة لغتها بمناقشتهم. تنعش آمالها بالغد الآتي حتى لا يأخذها اليأس من اليوم إلى الخرس.
أربعون دهراً، 12442 عدداً، عدا التغييب القسري بالرقابة أو بالمصادرة أو بإقفال الطريق للوصول إلى أهلك في مختلف الجهات، وأنت صوتهم، فتتحايل لكي تصل «السفير» ولو مع الغروب فتكون صباحية في بيروت مسائية في طرابلس ومحظورة في المسافة الفاصلة بينهما.
يترصدك القتلة المحترفون عند باب بيتك، وأنت عائد من تعب السهر كي تعطي أفضل ما عندك. يصيبك الرصاص في وجهك. يصيب مرافقك المخلص في صدره. يصيب «ناطور البناية» في عينه. يسيل الدم غزيراً من جراحكم جميعاً، ولا منقذ في تلك الليلة من ليالي الحرب الأهلية التي نجمت عن اتفاق العار، 17 أيار 1983، مع العدو الإسرائيلي.
تنجو فتعود لإكمال ما بدأته وقد تعزز إيمانك. ها هي العناية الإلهية تتدخل فتنقذك من الموت، أو الشلل أو سقوط الطعام في مجرى التنفس، وتُنقِذُ معك المرافقَ والحارسَ… ويعوّضك الناس الطيبون وجعك بازدحامهم امام باب المستشفى أو على الطريق التي طالما سلكتها «السفير» للوصول إليهم، ثم بتوطيد علاقتهم بـ«السفير». تخفف حرارة التعاطف من ألم الجرح ووجع الاكتشاف: أن بعض أهل الحكم لا يتورعون عن اغتيال الأقلام.
في 12442 عدداً من «السفير» التي حازت شرف الصدور وحدها من دون سائر المطبوعات في أيام القرار الإسرائيلي بتدمير العاصمة ـ الأميرة، بيروت التي احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء.
يملأك الزهو وأنت تتابع نجاح الأسماء اللامعة التي تخرّجت من مدرسة «السفير» ثم احتلت مواقع قيادية في مؤسسات إعلامية أخرى، بعضها في الداخل ومعظمها في الخارج العربي، وبعض الأجنبي، صحفاً ومجلات ومحطات إذاعة مسموعة ومرئية، ومعاهد دراسات ومراكز أبحاث.
لا يقول أي ممن تركوا «السفير» واختاروا الانتقال إلى موقع آخر كلمة سوء في حق «السفير»، حتى إذا ما وجهوا النقد واللوم إلى «صاحبها». لا يستطيع أي محرر أو مسؤول في التحرير الادعاء بأن «السفير» قد ضيّقت عليه هامش التمايز أو حتى الاختلاف في رأيه عن خطها المعلن، منذ السادس والعشرين من آذار 1974 وحتى اليوم… بل قبل ذلك بأسابيع، إذ كانت حملتها الإعلامية مباشرة، ورآها البعض صادمة: ضد الظلم والظلام، جريدة مقاتلة من أجل حقوق الإنسان في وطنه، صوت الذين لا صوت لهم.
كثيرون غادروا بلا وداع ثم عادوا «إلى بيتهم» في «السفير».
كثيرون استأذنوا في السفر إلى بلاد الذهب الأسود والصمت الأبيض التي صارت دولاً عظمى، بعضها من ذهب أسود وأفكار سوداء، وبينها الدولة الأعظم التي من غاز يتناثر فيعمي الأبصار والعقول، ويزوّر المواقف، ويحرف الأقلام عن خطها الأصلي، في عواصم بعيدة كما في العواصم القريبة: ينشئ الدول والحكومات (والصحف) ويلغيها بإنتاج يوم أو أسبوع من الهواء الذي كان محبوساً تحت أمواج الخليج… ولقد بقوا في البعيد، وإن ظلت قلوبهم معنا.
اليوم، ومع الاحتفال الضمني بالذكرى الأربعين لإطلاق «السفير» لا بد من استذكار الأساتذة الذين علموني كما علموا سائر الزملاء والذين رحلوا عنا بلا وداع وأولهم إبراهيم عامر وثانيهم مصطفى الحسيني، ثم أسعد المقدم وناجي العلي وتوفيق صرداوي والياس عبود وسعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف وجوزف سماحة وحسن السبع.
كذلك، لا بد من توجيه التحية إلى بلال الحسن وباسم السبع وفيصل سلمان ومعهم بل قبلهم ميشال حلوة، ومحمد المشنوق ومحمد مشموشي والياس خوري وبول شاوول وشوقي بزيع وساطع نور الدين الذين اختاروا مواقع أخرى لمواصلة البشير بما يؤمنون به.
وإلى أربعين سنة جديدة من متعة العذاب مع الخبر والصورة والرأي والفكرة البكر.
وتحية إلى القارئ الذي حمى وجود «السفير» وأسهم في تجنيبها الأخطار والسقطات، وغفر لها بعض الهنات الهينات عبر هذه المسيرة المكلفة، والتي كتبت صفحة مضيئة في تاريخ الصحافة اللبنانية وإلى حد ما العربية، ورفعت مشعلاً إضافياً لكشح الظلام الذي يكاد يسد علينا الطريق إلى الغد.

محمود عثمان يمضي في شفتيها أياماً… ولا مصعد!

درس محمود عثمان اللغة العربية وآدابها، فلما وجد أنها قد تعزز ذائقته وموهبته الشعرية لكنها لا تطعم خبزا، اتجه إلى الحقوق فنال شهادة الدكتوراه… لكنه ظل موزعاً بين الأدب والقانون، وهكذا مارس ـ في وقت واحد ـ المحاماة والتعليم الثانوي… وأصدر ثلاثة دواوين: «قمر ايحا»، «بيضة الرخ» و«الطريق إلى الشمس»، كما أصدر رواية «إبليس في الجنة»، فضلاً عن بعض المؤلفات السياسية، والدستورية.
ولأنه عنيد فقد ظل ينتظرها تحت ضوء القمر:
«ومنذ سنين/ أقول ستأتي التي أشتهيها/ ويتبعها الراقصون المجوس
«أقول ستأتي على شهوتي/ أقبلها تحت ضوء القمر/ وتدخل عرزالها المنتظر…
«ترف الحمائم فوق الهضاب/ وأدفن جثة هذا الغراب/»
وفي انتظار المرأة التي يشتهيها الدكتور محمود عثمان طفق يتجول بين النساء المقدسات، ويهرب من ضجره في الجنة عائداً إلى الأرض التي خلق منها ليترع بالوحل كوبه المقدس، «لأن لون السماء هنا أزرق وهو يشتهي الغيم وحور الخيام على الضفتين بزي الجواري لها نكهة واحدة».
هي زليخا التي تسأل كل صباح هل حواء خلقت قبل أم التفاح؟
ومحمود عثمان المحامي يرافع في ديوانه دفاعاً عن العشق والعاشقين:
«أحك بعطرك نهدي الصغير وأغمد ذاكرتي في المرايا
«وتنهض غرفة نومي إليك وتمشي وراءك مثل السبايا»
يكمل الدكتور في الأدب استعادة بعض الأساطير الدينية ليعيد صياغتها بلغته:
«اقد قميصك عند الفرار/ اقد ضلوعك عند النزال/ واعلن للناس أنت العزيز/ أنت المليك وأنت الملاك العظيم الجلال/ وأحضرت فاكهة للنساء/ وأحضرت حسنك سبحان وجهك».
أما آدم فيعترف:
«لو ربي أعطاني الجنة لمللت كثيراً وضجرت وقطعت جميع دواليها
وحطمت جميع أوانيها وشربت الوحشة وسكرت.
«لو ربي أعطاني الجنة لفتحت جميع معابرها كي يخرج منها من حبسوا
وليدخل فيها من منعوا/ ودعوت الشيطان إليها حتى لا يفخر باللعبة».
وفي يوميات امرأة عاشقة يذهب إلى الحد الأقصى:
«يحدث أن تطردني يوماً من غرفتها حتى أقضي في شفتيها اليوم الثاني
«يحدث أن يتلجلج شوقاً باب المصعد حين يرانا/ يغلق باب الدفء علينا دون سوانا/ نشعر أن المصعد قلب/ ندفن فيه عميق هوانا»
وافترض أن الدكتور محمود عثمان يكتب مرافعاته شعراً، فالعشق لا يحب النثر، وإن أحب أن يمضي في شفتيها أياماً… ولا مرافعات!
… لكن التي يشتهيها ستأتي على صهوة البرق مثل العروس!

عن مناضل يغلف حضوره الصمت: قاسم عينا

ينبثق كالضوء، هو الاسم كما تراب فلسطين، يلتمع على وجهه طيف ابتسامة مشعة كما الإيمان، وتحت ذراعه تلك الحقيبة السوداء السحرية التي تحتوي نصف هموم الشعب المطارد باللعنة.
لقاسم عينا القدرة على أن يكون في أمكنة عدة في وقت واحد، هو يجول بين المخيمات مراقباً ومتابعاً ما يجري لها وفيها، وهو يحاضر في المنتديات البعيدة، وصولاً إلى الاميركيتين عبوراً بإيطاليا وفرنسا وما تبقى من أحزاب اليسار ومن التنظيمات التي اتخذت من فلسطين عقيدة وراية نضال.
لا أبالغ إذا قلت إنه لولا قاسم عينا لكانت مذابح صبرا وشاتيلا قد سقطت سهواً من الذاكرة الدولية، وقبلها من الذاكرة الفلسطينية. فهو على امتداد شهور التحضير لذكرى المجازر دائب الحركة والتنقل بين العواصم، ثم بين المخيمات، يحضر اللقاءات والمؤتمر الصحافي والجولة التي تأخذ هؤلاء الوافدين بزخم الإيمان بالقضية إلى ارض الصمود والنصر في جنوب لبنان. يشرف على راحة الضيوف في الفنادق والمطاعم، ويحفظ أسماءهم جميعاً، يصحح الترجمة ويتدخل لتغطية الهفوات.
يندر أن يتكلم قاسم عينا في مهرجانات الخطابات الفخمة الدويّ المفرغة من المعنى. أهل الكلام كثيرون، أما العاملون بصمت تفرضه الجدية والإحساس الثقيل بالمسؤولية فقلة قليلة، يكاد هذا الأسمر بالابتسامة المضيئة المعبرة عن الثقة يكون أحد أبرز رموزهم.
ليست مبالغة أن نقول إن الدكتورة بيان نويهض قد أنجزت، عبر سنوات من التعب، الوثيقة الدولية التي تكشف بالوقائع والبراهين القاطعة مسؤولية أولئك السفاحين الذين ارتكبوا مجزرة صبرا وشاتيلا من قادة جيش الاحتلال وجنوده، وكذلك من العملاء اللبنانيين… ثم لا بد من أن نضيف إن قاسم عينا قد سعى فنجح في استقدام الشهود الدوليين، ليروا ما تبقى من آثار تلك الجريمة ضد الإنسانية التي كادت تمر من دون عقاب.
أعرف أن قاسم عينا سيغمره الخجل حين يُكرم، فهو يعتبر أن ما قام به هو ابسط واجباته كواحد من الناجين من المذبحة التي لا تزال مفتوحة ضد شعبه.
ولعل جهده في تعظيم حضور الشهود الدوليين، وفي التواصل مع الذين لا يستطيعون القدوم، قد أسهم إسهاماً ممتازاً بتحصين القضية، ومنع سقوط المذبحة والسفاحين المسؤولين عنها في غياهب النسيان.
تحية إلى هذا المجاهد الصامت في زمن الثرثرة التي تحسم من القضية ولا تضيف إليها.

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا يعترف الحب بالمسافات. إنه في الأثير ونور الشمس، في النجمات التي تصير عيون قطط لاقطة للرغبة وهي بعد في النوايا، ومحطات بث متواصل همساً وتنهدات وآهات حارقة.
يخلق الحب عالمه الخاص، ويحاصرك بظل حبيبك الذي يتمدد عبر القارات، فإذا هو بعض نور العيون التي في طرفها حور، وإذا أنت بعض خفقات صدره، تسمع نبضات قلبه مهما اتسع المدى فتجاوز حدود الصدى.

Exit mobile version