طلال سلمان

هوامش

أحزان سوريا في معبر لبناني: لن نهجر الوطن، لسنا لاجئين!

الصالة صغيرة، صغيرة، والحشد لجب، على قلة عديدة، تلاقت فيه حلب وحمص واللاذقية وأنحاء أخرى من سوريا وبعض شهود البكاء من لبنان الذين وصلوا عبر مغامرة في زواريب الطوائف واقتحموا المجموعة التي استوطنت شجن الغياب وحزن اللجوء، ولكنها لم تقبل الشعور بالغربة.
بعضهم اعتبر أنهم في إجازة مرضية، والبعض الآخر رأى أنه في دورة دراسية في لبنان يتعرف خلالها على معجزة أن تحفظ الوطن في قلبك بكامل تفاصيله كي تعرف كيف تعيد بناءه من دون أن تطرد أهله منه. آن أن يتعلم السوريون من اللبنانيين بعدما علّموهم طويلاً في الصناعة والزراعة والمسرح والغناء، وفي فن التجارة أساسا.
رحب هذا البعض بالآتين إليه في «مهجره» وكأن الوافدين ضيوفه في حلب، وعانق البعض الآخر الوافدين وكأنهم وصلوا للتو إلى اللاذقية تتقدمهم تلك التي غنى لها شاعر بحر الحب: «يا ماريا يا مسوسحة القبطان والبحرية»… لكن الصبية المتعجلة لم تكن تصغي إلى الأغنية بل كانت تتابع الرسالة النصية على الهاتف فتبدت وكأنها تتوقع المعجزة التي تعرف أنها لن تحصل الآن، ومع ذلك لا تفقد الأمل بأن تقع بعد حين. لعلها عاشقة كانت تتوقع رسالة منه. لعلها كانت تتوقع خبرا من خارج البرامج المركبة. لعلها كانت تتواصل مع البعيد على حساب القريب. لعلها كانت تبتعد عن عالم «الكبار» حتى لا ينفجر صراع الأجيال أمام أغراب، لعلها كانت تتابع ما كانت فيه قبل أن يفرض عليها أن تسهر مع «الكبار».
أما المضيف فكان محرجاً بدوره: لو انه في حمص لتصرف. لو انه في حلب لترك القيادة لزوجته. لو انه في دمشق لاستحضر سوريا كلها. لكنه لا يقبل أن يكون لاجئاً، ولا يقبل صفة الهارب، ولا يريد أن يكون غير ما كانه. وهكذا اندفع يرحب ويدور بالكؤوس والصحون على «ضيوفه» وما هم بضيوف، لكسر شجن البعد عن «البيت» والأهل والأرض، ولو إلى حين. وحين وصل إلى الصبية التي جاءت من خارج التوقع أسرّ لها بأنه يعبر عكار في رحلتي القدوم والعودة فيفتح النوافذ لهواء الربيع المندى بزهر اللوز.
قبل أن نأتيهم كان قد مر بنا ذلك الذي انتدب نفسه لحماية سوريا من النهب ومن التزوير ومن أن تصبح فجأة بلا تاريخ، أو غير ما كانته على امتداد تاريخها الذي تقع بداياته عند تخوم الحرف الأول واللحن الذي يختزن فرح الأيام الآتية حتى في عهد الأحزان اليعقوبية.
ولقد أدخلنا ذلك المهندس الفنان حارس الذاكرة والأصالة في عالم الإبداعات الموروثة التراث، مؤكداً أن مجموعة من الفدائيين قد نجحوا في استنقاذ ما يحفظ لحلب دورها ودور فنونها وإبداعات الأقدمين والمعاصرين التي ولا أغنى، سواء لدى المسلمين أو المسيحيين أو حتى اليهود.
كان المكان أضيق من أن يتسع لحكايات التهجير ومآسي احتراق التاريخ، وكانت النفوس تطلب قدراً من الهواء للتنفس، أما العقول فكانت تبحث عن مواقع للأمل في بعد بعد غدٍ أفضل.
اكتشف «اللبناني» أنه يستطيع أن يتباهى بخبراته… لكنه سرعان ما اكتشف انه ليس محصناً بحب أرضه، مدنه، أهله، تاريخه كما السوري. الطائفة ليست الوطن، والوطن أثقل بكثير من أن تستطيع حمله. حين تقرر أن تغادره فلن يغادرك، بل يلحق بك شاهداً
على تخليك، على استماتتك من أجل جواز سفر لا يحتاج أختاماً وتأشيرات. يصنفك من الخوارج بغير أن يدينك. يحزن عليك أكثر مما يغضب منك.
كان لا بد من الهرب من فكرة «الهرب». كان لا بد من طي صفحة اللجوء. كان لا بد من تأكيد الانتصار على مبدأ الهجرة. كان الوطن أعظم اتساعا من أن تستطيع مغادرته. كان أعظم عمقاً من أن تستطيع القفز فوقه. كان الوطن مصدر فرح.. حضر الوطن فغاب الحزن.
قالوا: لنستحضر حلب.. وتوالت الحكايات لترسم طريق العودة: حلب أعز من أن تغيب وان نهجرها فلن تهجرنا. حمص دمغة ثابتة على الجبين كما في اللهجة والنكتة والتواصل فأين نهرب منها.
من حيث لا يدري أحد هبط علينا الشيخ صبري المدلل بطربوشه وسبحته التي يضبط بها الإيقاع.. كانت ابتسامته الخفيفة أقوى من الموت، أقوى من المدافع والصواريخ وضجيج انهيارات البنيان. كان على وهن جسده أصلب من أن تسكته الكارثة. غنى الذي كان. غنى الذي سيكون. غنى لأحفاد الذين هجروا بيوتهم ولم يهجروا مدينتهم وتلبثوا فرصة أن يعودوا ليستعيدوا وطنهم: سيعيدون بناء المدينة! أخبرهم عن حارس الغد بتراث الماضي، حدثهم عن الرجل الذي يرمم الذاكرة حتى لا يسقط التاريخ في مذبحة القتلة الذين يريدون إعدام الحاضر بالماضي حتى لا يكون مستقبل.
أطل الشيخ حسن الحفار بكوفيته، وبصوته الذي «يفتح» مع أذان المغرب ويصعب إقفاله قبل الصلاة مع أذان الفجر. كان الحاج احمد رمضان يوزع المناديل على الذين سيأخذهم الشجن إلى الرقص. وكان عثمان العائدي الدمشقي يطل من على شرفة فندقه الذي أقيم في حلب الشهباء بعد دمشق وحماه واللاذقية على لحن: «حبك يا شهبا أغلى من الذهب»… مستذكراً رحلته ماشياً أو على دراجة من باريس إلى دمشق عبر أوروبا، ثم رحلة العودة لاقتحام أوروبا من قلبها باريس، عبر معركة مع أشباح الذين احتفلوا في الفندق الذي اشتراه بقيام دولة إسرائيل على حساب عرب الهزيمة.
جاء مع انتصاف الليل حادي حلب وحامل جرحها ليغطي بنزيف قلبه الأرض التي تعيش ليومها. صاح بصوت حمام خيري: لماذا تسيئون إلى الشهباء؟ أحجارها صلدة. لطالما حاولوا هدمها فنهضت من تحت ركامها عنقاء غنية بالخمسة آلاف عام من تاريخها. صنّاعها احترفوا كتابة التاريخ… ظلت تركيا خارجهم. ظلوا أرفع مكانة. ظلت صناعتها أولى.
أطل طيف عصام الزعيم من سجن اضطهاده الطويل الذي أخذه إلى المرض فصمد له دهراً بزخم حلب وحيوية تلك التي يحمل وجهها صورة حلب: أمية الزعيم. جلنا معها في أحياء حلب القديمة. قرأنا الشعر في عماراتها القصائد، ومشينا في مواكب الخالدين الذين بنوها وطابور المحتلين الذين جاؤوها ثم ابتلعتهم بعدما أغنت بهم مطعمها ومقامات الغناء.
وصل عبد السلام العجيلي قادماً من الرقة. قال إن هارون الرشيد يقرئنا السلام ويدعونا لزيارة الواحة التي أنشأها فوق نسمة فراتية دخلت في الصحراء فأنجبت منها مدينة كتب هواؤها اسمها بقصة حب ليست لها نهاية. الحبيب فارس أسمر مهيب يربح المعارك باسمه، ويخسر حكايات العشق عبر التنقل من حبيبة إلى خليلة بينما ابو نواس يغرق خيبته بالخمرة صهباء حينا، حمراء حينا آخر. لا هي تعرف جنسيتها ولا هو وان كان المطر يحمل الخير إلى بغداد… وبغداد اليوم بعيدة، وقد سقطت المنافسة مع دمشق التي تحترق فتجدد نفسها حتى لا ينتهي التاريخ.
فجأة انتصب الحاج أحمد في الساحة الصغيرة فاتسعت حتى لا يمد يده بالمناديل من نافذة الغربة.
كان صباح فخري معتلّ الصحة، همهم فصاحوا: الله، الله، أعد..
تمايلت القاعة الصغيرة بأهلها الكبار طرباً. حضرت دمشق مزينة المرجة، تحاول إزالة حطام السيارات المفخخة، وتنثر الياسمين على العابرين وهي تردد: لقد جاؤوا ومضوا. هدموا الأسوار ولم يهدموا القلب. تعالوا إليّ أيها الذين كانوا يتباهون بترابي. ها هو شادي الألحان يبكي غناءً لكي تنهض دمشق إلى موقعها الذي لا يشغله إلا أهلها.
تجيء اللحى الكثة فتطرد العقول. ويجيء أهل الجاهلية فيحكمون بإعدام التاريخ وقتل العقول واحداً واحداً من غير أن يأتي الجنون. يهدر الدم، ينفجر التاريخ بقتلته، تستعصي الجغرافيا على مزوّريها ـ سوريا أقوى.
لن تتلبنن سوريا. لن تتطأّف سوريا. الوطنية تستعصي على التزوير. يستحيل تزييف التاريخ. من يستطيع إعدام خالد بن الوليد؟ من يستطيع شطب أبي العلاء المعري؟ من يستطيع سجن أبي فراس الحمداني مرة أخرى؟
كل هذا الذي يجري كابوس.
لطالما جددت حلب ذاتها. لطالما اتسعت للذين جاؤوها لاجئين فصاروا منها بغض النظر عن أديانهم وقومياتهم.
مضى الليل بطيئاً، وقمنا ننتظر الفجر على التخم بين الصدر والقلب.. مرجئين الحزن إلى زمن آخر، وكان في وداعنا سعدالله ونوس يغني الأمل فيقهر الضعف ويبقى محرّضاً على أن يكون الآتي هو الأفضل من حلم.

محمود قرني يطلق منشوره ـ المرثية: لعنات شرقية

أتقن محمود قرني اللعبة: اتخذ من ألف ليلة وليلة مسرحاً لشيطان شعره وأعاد صوغ الحكاية متخذاً من «ورد الأكمام» الراوية والبطلة والملهمة، ونسج برؤاه وأشواقه وجنونه ليلة جديدة لا تعرف لها بداية ولا هي تريد ـ حتى لو أراد ـ ان تكون لها نهاية:
«في مثل هذه الساعة / قبل مئات السنين/ تحدثت «ورد الأكمام» إلى حيواناتها الأليفة/ ثم حكت قصة الثعلب الذي خدع الحمار/ وعبر النهر فوق ظهره مضطجعاً / وبين يديه السيجار/ كما تحدثت عن الغراب / الذي ظل يلقي بالحصى المسموم في صحن قائد الجيش / معتقداً أنه سيرث بزته».
وتتدخل الملاكة المسؤولة عن الشجرة التي أنجبت الخطيئة.. فتقول للفلاح:
«أيها الديك/ أسمعني صياحك/ خذني إلى الجسر أيها الرجل القوي وامنحني لوزة/ هل تعرف كيف تنزع عني جوربي وأساري وتنقر بأسنانك بين أصابعي؟
في المدينة، فكت الملاكة رباط سرّتها وصرخت وسط العائلة: «مفاتيح القصر سرقها اللصوص»
يمضي بها القائد ليضع قدما في سمرقند وأخرى في تركمانستان.. ولكنه يضل الطريق:
«تسير ورد الأكمام/ إلى جوار عرائس البحر/ وأسراب اليمام
تنادي عناقيد / اصبهان / وأضواء الفرات/
وعندما فكرت في البحث عن عائلها/ كان القائد قد عقد صلحاً مع ملكة البلاد»
لكن الخليفة بعث له بسيف مرصع وزجاجتين من السم:
«في خيمة على شاطئ النهر جلست ورد الأكمام تحادث المياه/ وعندما قرأت طغراء خاتمها/ اهتزت يد الصياد/ نظر حواليه في ذهول/ ليتبين موقع الضوء/ فامتدت ضحكتها لتغطي صفحة المياه
ستكون الحسرة نبيذاً معتقاً / ونشرب حتى تقع السماء بين أيدينا»
قال الثعلب لصديقه ثم أضاف: أرجوك لا تتهكم من بغلتي العرجاء/ فهي من يعرف طريق الخمارة
عندئذ وقف ديك الأميرة على أطراف أصابعه وصاح كما يفعل الخطباء البارعون: التحية لأخي الثعلب الذي بادر بالسلام/ هكذا يمكنني أن أخدم وطني/ وأنا في عنفوان نشوتي».
لا يترك محمود قرني واحداً من أولئك الذين فرضوا أنفسهم على التاريخ بسيوفهم أو بتزوير الغير إلا ويأتي به مخفوراً:
«قرب تلال نجد/ رفع الباشا سيفاً مرصعاً واختط بئراً/ أسفرت ماء غزيرا/ فدق الأوتاد وأناخ الرحال: هنا / عرف النصل طريقه إلى الأحشاء/ تجلت الأقواس في صيحات الجند/ عبّد الباشا طريقا إلى الخدر/ طريقا إلى المصلى/ ونادى المنادي في الناس فملأوا جروحهم بالتراب ثم ألّفوا من أجلها الأغاني».
ومحمود قرني يقرأ السياسة ولا يقرها، يعترف بالوقائع بعد تصحيحها، ويحاول إنقاذنا مما صرنا اليه:
«هكذا عبدنا آلهة الحر/ عبدنا آلهة الجنون
يا قرص الحلوى أين عسلك يا زين الرجال؟».
وكي يختم فهو يلجأ إلى الشعر الذي تغنيه العامة فتبكي قهراً، وتبكي حباً، تبكي ماضيها وتبكي حاضرها ومستقبلها في ما يشبه الندب الشجي الذي يطرب:
«يا من يساكن ورد الخد والخال / أبكي لحالك أم أبكي لأحوالي/ بنت العصافير تمضي فوق كاحلها/ طير الغصن غنى، طير الغصن خالي/ كل المحبين يشتاقون سكرتنا/ كل المحبين أعمامي وأخوالي».
يذهب محمود قرني مع الذين هاجروا أيضا ليقرأوا تاريخ الذين صنعوا التاريخ ومضوا فجاء من يحاول إخراجهم منه:
«العجوز الأعمى الذي أفنى عمره في المكتبة الوطنية في ريو دي جانيرو
يقلب أوراقه الصفراء بحثاً عن فساتين ورد الأكمام وعن إخوتها
الذين أغلقت شواربهم بوابات المحيط
ولم تمض أيام حتى داس طارق بن زياد سهول ايبريا».
ويسافر محمود قرني مع الوقائع التي صارت أساطير فيعيد إليها اعتبارها:
«حبها الذي قالت انه أبدي ما زال يسكن تحت شجرة كمثرى غرسها العلويون الأوائل/ فقبل عشرات السنين كان يمر من هنا معلم أعمى يقرأ المارة من كتابه آية تلو آية/ ولما تناهت أخباره إلى الديوان أرسل الاتابك في طلبه/ وعندما علقت الأميرة سترته في مشجبها/ غفا في سراب القيلولة».
كذلك فهو يقرأ المستقبل في من كتبوه بالنبوءات:
«السير رابندرانات طاغور يصغي بقلب خافق إلى تلاميذه/ ينام في غرفة يملؤها الرياش/ يستعد لاستقبال ضيوفه/ بينما يسأل نفسه / أي هدية يا رابندرا/ يمكنك أن تقدمها للموت عندما يأتي ليقرع بابك».
في طريقها إلى الآخرة تمضي ورد الأكمام ملفوفة في الخز والطنافس
هناك حيث لا سمر ولا أصدقاء تبعث غلمانها فيأتونها بعرائس البحر النائمات بينما تطل من شرفتها تتأمل الكون الذي صار إلى عدم.
ويطلق قرني صوته في ما يشبه الندب:
«أيها الشرق الحزين لم يسعك العالم الفاني فنم قرير العين في غسق الأبدية».
ويختم محمود قرني قصيدته التي صيّرها ديواناً بمرثية للدولة، وكأنه يحكي عن أحوال مصر، أو أي قطر عربي الآن حيث تنهار الدول تحت سنابك خيول أصحاب اللحى وأساطير الأصولية:
«أما الشعب / فكان في الحقول/ يستمع إلى الإعلان الرسمي عن وفاة الدولة/ بينما يتسلى بزرع المزيد من شتلات الفول والشعير وحبوب البازيلا/ وأما الفتيات فكن يغنين لعراة الأقدام الذين لا يعرفون العواصم / والذين بطبيعة الحال، يعتبرون سقوط الإمبراطوريات / كخراج يفقؤه الحلاق/ثم يطهر آثاره بالقليل من التراب».
«لعنات مشرقية» أقرب إلى منشور ثوري يحتاجه «الميدان» وان كان معظم المحتشدين فيه يفضلون استخدام وسائل الاتصال الحديثة التي تقتل الشعر.

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يقرأ حبيبي خواطري وأحلامي. يقرأني في ملامح الوجه، في التماعة العينين. يقرأ أفكاري المنسية وأحلامي التي ستدهمني متى نمت. ما أمتع هذه المطاردة! انها تخرجني من العاديات وتدفعني إلى اعادة صياغة النهار والليل بمواعيده التي لا تكف عن الرنين.

Exit mobile version