طلال سلمان

هوامش

»توكلت على الله« جريمة، ومناقشة الأسطورة جناية!
وبادرني قبل أن يستقر على مقعد أمامي:
هذا ظلم، والله، هذه وحشية، هذا تعد صارخ على إنسانيتنا!
قبل أن أستوضحه، عاد يكمل المدخل إلى شكواه، قال: ها هي دائرة الحصار تتكامل من حولنا حتى نكاد نختنق داخلها… أتريد أمثلة حسية، حسناً، خذ عندك يا سيدي.
مثل أول: إن نحن أظهرنا إيماننا ببساطة واستجابة للسجية ولكن في المكان الخطأ، أو في الظرف الخطأ، صرنا إرهابيين أو انتحاريين بل قتلة نعبث بأرواح الخلق وسمعة الطائرات الأميركية المعصومة من أي خطأ… فها هو الطيار المصري المسكين يصوّر مجرما، بل سفاحا، لمجرد أنه هتف وقد استشعر خطرا داهما يتهدد طائرته البوينغ »توكلت على الله«، ثم تلا الشهادتين تسليماً بقضاء الله وعجزه عن دفع قدره وبالتالي عن إنقاذ الطائرة من السقوط بركابها في لجج المحيط الأطلسي، غير بعيد عن مطار نيويورك، وهو المحيط الذي أسماه العرب حين بلغوا شاطئه في المغرب »بحر الظلمات«..
مثل ثان: إن حاول بعضنا مناقشة بعض الطقوس والشكليات وبعض النصوص المركبة أو المنسوبة إلى أشخاص تختلف مسيرتهم السياسية الفعلية عن صورتهم المثبتة في الأساطير والحكايات الشعبية المبسطة والتي طالما استخدمت في الدعوة أو في الترويج لمذهب أو لنزعة فلسفية أو لبدعة صوفية، بادر المتعصبون والمتخوفون من أن يكشف النقاش انتهازيتهم أو جهلهم، إلى اتهام المبدعين والمجتهدين بالكفر والإلحاد والزندقة وإهانة الرموز المقدسة!
جاء أصدقاء آخرون فاكتملت حلقة النقاش، وهنا محضر بأهم ما قيل فيها:
التطرف سياسة وليس تديناً، المتدين هو، حكما، ضد الإكراه، وضد الأحكام المطلقة، وهو مع المجادلة بالحسنى، ومع حرية الاختيار التزاماً بالنص المقدس.
يتزايد التطرف فيصير خطراً بقدر ما يتناقص الإيمان. يتراجع الدين كعقيدة فتزيد حدة الطائفية كعصبية، أو كمصلحة في أحيان كثيرة.
تتراجع السياسة، أفكارا وبرامج وتيارات ومنابر ونقاشا مفتوحا وحوارا سويا بين أبناء الهمّ الواحد، فيلعلع الرصاص وتتفجر الاتهامات والإدانات متسببة في طمس »العدو« الأصلي، مصورة لكل طرف ان أخاه (المختلف) هو عدوه، بافتراض أنه آخر مؤمن مؤتمن على الدين فوق كوكب الأرض وعليه أن يهزم الكفار وحده..
تتهاوى خطوط الدفاع الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، بعد انهيار السياسات، فلا يتبقى غير التعلق بالخوارق والمعجزات وكل ما هو خارج المنطق، لأن المنطق يفرض اعترافا بالمسؤولية البشرية، وهذا ما يرفضه المهزومون!
عندنا مسلمون أكثر وإسلام أقل، مسيحيون أكثر ومسيحية أقل.
أسباب الهزيمة في الأرض، فلماذا نهرب إلى السماء، بينما يحضنا الدين ويفرض علينا مواجهتها حيث هي وباسمها الصريح.
أسباب التخلف فينا، فلماذا نهرب من مواجهتها إلى المزيد من أسباب التخلف بحيث نخرج من الدنيا كلها من دون أن يكون مضمونا اننا قد ربحنا السماء..
.. وبماذا نربحها طالما اننا لا نستحقها؟!
التعصب ضياع. التعصب عمى. لذا يقتتل المتعصبون أو يقتلون ولكنهم لا يقاتلون.
ليس الدين لباسا وطقوسا.. وليس أبوابا مقفلة في وجه الآخرين. ليس عيونا مخبوءة خلف حجاب، بل هو الرؤية الواضحة، وليس منعا للآخر من الاتصال، بل ان أساسه الاتصال وإيصال الرسالة الى الآخرين.
في نهاية الجلسة نبّه واحد من الأصدقاء الى خطورة ما يجري في بيروت ولها، في ظل هذا المناخ المسموم السائد..
لقد عدنا القهقرى الى حيث كان يرفض الآباء والأجداد أن يحبسوا.
صار الغناء موضوعا للنقاش، وصار تزيين الشوارع مصدر غضب، وارتفعت الأصوات برفض نصب التماثيل للزعماء والمبدعين، وصار جمهور الكرة يعبر عن حنقه لخسارة فريقه بمهاجمة بيوت الله، وصار المعنيون يخافون من »التورط« في القول بانتخاب ملكة جمال للأميرة بيروت!
الطالبان قادمون. الشيشان قادمون. الألبان قادمون،
لكن الذين يحكمون ويتحكّمون بحاضرنا ومستقبلنا فعلاً هم الأميركان وهم الإسرائيليون،
انهم يحاكمون فيحكمون على من يقرأ الشهادتين لكي يبرّئوا طائرتهم ومطارهم وأجهزتهم، بأنه إرهابي أو محتل يتسبب بقتل المئات.. ولولا شيء من التهيّب: بسبب من دينه!!
وهم يحاكمون فيحكمون على مَن يجاهد من أجل تحرير ترابه الوطني، بأنه ضد الإرادة الدولية، وضد السلام العالمي، وضد حقوق الإنسان، في حين انه يقاتل ليتم الاعتراف به كإنسان.
لكننا في شغل عن قتال الأميركان والإسرائيليين والمهرولين الى أولئك وهؤلاء بالمجادلة حول جواز الغناء أو نصب التماثيل أو تزيين الشوارع أو انتخاب صبية جميلة لتمثل بيروت في مهرجان الجمال.
لا تقل »توكلت على الله« فيأخذك الأميركيون بجريمتك!
ولا تعترف بالإنسان فيأخذك التطرف بجريرة الخروج على الإيمان!

فاتني العيد
استولد محمود درويش الربيع في قلب خريف بيروت،
في المطار وجدت وردة وقد تفتحت أكمامها فانتشر عطرها، وقال لي الموظف: لقد فاتك العيد، لكنك ستجد الهواء مطعماً بلوعة محمود درويش، وستجد الصحف مزهرة بصورته، وسيدلك الشعر على مكامن الجمال في هذه المدينة التي تعطي المبدعين وجوههم ويعطونها أرواحهم فتغدو كعبة الحب والجمال، ورحم الإنسان العربي الجديد.
فاتني ان أسمع محمود درويش.. لكنني وجدته نجمة في سماء بيروت وحصانا وحيدا… مثل بيروت، مع فارق: ان الذين تركوه وحيداً لم يتركوها، بل هم يرمونها بماء النار حتى لا تظل شاهداً على جريمتهم.
محمود درويش: نقوى بك، ونستعيد الكثير من صفائنا ومن فخرنا بأننا أصحاب حق، أصحاب قضية حتى لو كنا… يا وحدنا!دخل عليّ صديقي هائجا،

شمعة ليوسف سلامة
اشتريت اليوم شمعة لعيد ميلاد يوسف سلامة الخامس والسبعين الذي سنحييه في 16 كانون الثاني المقبل، والذي سيكون بين حضوره ملاك الموت.
بيت يوسف سلامة فسيح الجنبات بحيث يتسع لانتصار رجل وحيد وأعزل إلا من إرادة الحياة، ومن إبداعه العظيم الذي جعل الموت رواية هزلية، ومن وجعه الذي يذيبه في ضحكته المدوية.
الأبواب مشرعة فلا يستطيع السيد عزرائيل أن يشرفه. أما الخوف فقد خرج من هناك ولم يعد. واتسع المدى بحيث اتصل الحاضر بالمستقبل وحضر الماضي، فلم تعد للزمان حدود، فذهب إلى الحانة القريبة يشرب لعله يستعيد وعيه.
كان يوسف سلامة يقصد الطرف الجنوبي من المحيط المتجمد سعيا وراء الهدوء، لكنه يرفض استقباله هنا في دار الفرح والجنون التي اسمها بيروت، ولا يقبل لكرامته أن يراه وهو ممدد فوق سريره،
أعطوا يوسف سلامة قليلاً من فوضى الصخب البيروتي، لكي يستطيع أن يكتب.. بهدوء!

موعد خارج الزمان!
مع اقتراب الموعد كان خوف العجوز قد بلغ ذروته: ماذا سيفعل الآن حين تقتحم عليه مكمن سره؟! لطالما تشهى، في شبابه، مثل هذا اللقاء الموعود، لكن الموعد تأخر حتى جاء خارج زمانه!
كان قد أعد كل شيء: الزهور، الشراب، الأكل، الفاكهة والهدية… كذلك كان قد حسم نقاشه الداخلي حول ملابس الاستقبال.. لن يخلع ملابسه الرسمية، في انتظار لحظة انتحار الوقار وتهاوي التحفظ وانبعاث الذكرى جسماً من لحم ونار!
هل يعيد الأمس استيلاد ذاته اليوم، وفي هذه الساعة بالذات؟!
هل سيفجع بها فتجالسه بعض الوقت مجاملة ولا تستطيع تغييب أشفاقها، أم ستفجع به وهو لا يعرف كيف يجالسها ومن أين يبدأ وكيف سيختتم الجلسة عند الذروة التي غدا مهجعها الحلم لا تكاد تخرج منه ولا يكاد يقبلها فيه!
قرع الباب فسعى نحوه، ثم انتبه إلى أن السرعة لا تليق به وقد تذهب بوقاره، ولكن ما دخل الوقار الآن؟! ولم يخرجه من تردده إلا تجدد القرع على الباب فتقدم ليفتحه مطمئنا إلى أن كل شيء في مكانه الصحيح وبالترتيب الدقيق.
هيا أيها المشاغب، بادرته وهي تمد إليه خدها، جئت لآخذك إلى حفلة حاشدة ستتنافس فيها عليك الحسناوات!
من قال انه جاهز للدخول في مباريات ومنافسات.. ابتلع ريقه وقال بنصف صوت:
.. وأنتِ؟!
تجاهلت الإشارة الواضحة وهي تضيف: هيا عجل، لا يجوز أن نترك ابن صديقنا الذي تحب، ينتظر في سيارته في مكان ممنوع الوقوف فيه..
تماسك حتى لا يتهافت.. أجال بصره في المائدة الممدودة، ثم ذهب يفتح الستارة وشباك النافذة:
الهواء الطبيعي أفضل من التكييف، دائما..
عاد نحوها من دون أن ينظرها، ثم أشار إلى حقيبة خفيفة وهو يقول: هيا، خذي الشراب والفاكهة هدية مني لأصحابك في حفلتهم، واتركيني أنتظر ضيوفي الباقين.
لم تفهم تماما، ولكنها انصرفت الى حشو الحقيبة بموجودات المائدة، وخرجت بينما اتخذ موقعه على كرسيه في زاوية الشرفة المظلمة، ولبث يراقب النجوم… ثم فجأة انفجر ضاحكا: لقد نجوت من فخ عظيم!

موسم المطر الوردي
عاد موسم المطر الوردي، وانهمر النتاج الجديد للمبدعين قدماء ومحدثين وبراعم واعدة، دراسات وقصة وشعرا وروايات تحكي قصص الناس للناس الذين لا يملكون أن يقولوا.
إنه العيد السنوي لبيروت الكتاب، الذي يحييه كل عام النادي الثقافي العربي، وتعيش معه بيروت مهرجانها الممتع مع الحرف، مع الكلمة والأغنية وسائر مكونات الجمال البهي.
كل صباح أجد مكتبي مزهرية فأفرح، ثم يأخذني الحزن لأنني لن أستطيع أن أقرأ إلا قليلاً.
النادي الثقافي العربي: بعض المعنى، وبعض القيمة، وبعض الفرح، وبعض بهجة الأطفال، في اسم بيروت التي هي هذا كله وأكثر!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
مَن طالب حبيبه بالتضحية دائماً من أجله ونسي نفسه خسر الحب ولم يربح نفسه.. الحب أن نكبر الى حد أن نعطي. الحب أن نمتلئ فتفيض روحنا بما يحتاجه منا غيرنا. وفارغ من الحب ومن المعنى ذلك الذي ليس فيه إلا ذاته.
طلال سلمان

Exit mobile version