طلال سلمان

هوامش

إطلالة على الحوار المفتوح حول الغد في «المحروسة»

… ولقد عثرت، أخيراً، على القاهرة، قاهرتك التي أمضيت عمراً تبحث عنها فلا تجدها، تستوثق من أسماء الشوارع والساحات والمساجد والزوايا وكنائس الأقباط، والمباني التي كانت منارات يحتشد في بعض مكاتبها عدد من «الخالدين». استسلمت أخيراً بأن قاهرتك التي تعلمت منها وفيها قد جرفها الغبار أو أغرقها طوفان نيلها في غير موسمه. لم يعد يجدي استحضار الذين غابوا ممّن عرفت فصادقت وأخذت عنهم العلم فمكنوا إيمانك بذاتك: لست واهماً ولست حالماً، وإنما كان أولئك هم المصابيح التي أنارت أمامك الطريق إلى غدك؟!
لم تعرف من القاهرة إلا الملايين من ناسها الذين يتزايدون بأسرع من دورات عقارب الثواني في الساعات التي تطلق إنذاراتها عبر الثواني… وعرفت معهم من اتخذوا القاهرة دار أمان بعدما عز عليهم أن يبقوا أحياء في عواصمهم، قريبها والبعيد… وعرفت أكثر من ذهبوا إليها لينصبوا قاماتهم التي حاول كسرها الطغيان والتغريب والتهجين والخجل بأسمائهم والانتماء… الفاضح.
ولقد غابت القاهرة دهراً، وغُيِّبت عنها عمراً، وها هي تفتح لك ذراعيها بغير دعوة، وتفتح لك قلبها بغير طلب.
[ [ [
القاهرة فسيحة جداً، مزدحمة جداً ليس بالملايين من سكانها، بل أساساً بالمناقشات المفتوحة على القلق والأسئلة التي لا تنتهي حول اليوم وأكثر منها عن الغد، حول النظام بإخوانه وسلفييه والمعارضات التي تلاقى شبابها في «الميدان» ثم فرقت بينهم لعبة الاستفتاءات المتواترة على التعديلات الدستورية وبعدها على الدستور الموقت، والانتخابات النيابية ثم الانتخابات الرئاسية والمحاورات المفتوحة بالوقت والموضوعات البلا نهايات واضحة… قبل الحديث عن الانتخابات المقبلة وموقع المعارضات منها وإمكان توحيدها في معارضة مجمعة وفاعلة.
للآتين من «الخارج» حق السؤال، وكل إجابة تفتح الباب لمزيد من الأسئلة، ثم أن الأجوبة ليست موحدة، وهكذا تتوسع دائرة النقاش وتتوالى الاجتهادات والتبريرات وقد اختلط فيها نقد الذات مع نقد الآخرين، قبل أن ينتبه «المنظم» إلى ضرورة التركيز على الغد والاستعداد لتعويض الخسائر بدلاً من جلد الذات حول المسؤولية عما كان من فرقة ومن تنافس بين رفاق «الميدان» مما سهل على «الإخوان» اقتناص النتائج كغنيمة حرب من قبل أن يستعد لها شباب الميدان بالوحدة أو بالجبهة الموحدة.
ليست السيدات «ضيفات شرف»، بل لهن حق الرأي بعدما وفرت لهن رياح الثورة الفرصة للمشاركة الفاعلة ورفع الصوت عالياً وتأكيد الأهلية كقيادات مؤثرة بالعمل الجدي والثقافة الواسعة والوعي بخطورة المرحلة والاستعداد للبذل والتضحية من أجل الغد الأفضل. وقد أثبت «الميدان» القدرة على صياغته، فكراً وعملاً في ما يتجاوز التظاهر والاعتصام وتأمين احتياجات المعتصمين والمعتصمات، وقد وحّد بينهم الهدف والصمود في وجه محاولات الإيذاء التي تعمدها «الفلول» وتغاضى عنها الجيش وتواطأ بعض الشرطة مع مرتكبيها.
خلال سهرتين طويلتين استمعنا إلى مناقشات صريحة شاركت فيها أعداد من أهل الرأي والصحافيين والممثلين والمثقفين وبعض من نسبوا أنفسهم إلى أحزاب جديدة ومجموعة من النساء والفتيات اللواتي أسقطن عن أنفسهن الحرم أو الابتعاد عن السياسة أو المشاركة السلبية، بمعنى الإصغاء إلى ما يقوله «الرجال» ثم الاختلاف حوله أو الموافقة الاضطرارية لحسم الجدل بالدعوة إلى مائدة العشاء… أو الاعتصام بالجلوس أمام الشاشات في انضمام بلا عضوية إلى «حزب النكبة» الذي سرعان ما جرفه تحدي السلطة الجديدة الآتية من الماضي الذي تريد إعادة مصر إليه.
إنها قاهرة جديدة. إنها مصر جديدة. من المطار إلى المطار تطالعك الشعارات المكتوبة أحياناً بتعجل المطارَد، وغالباً بأناة من يرى نفسه صاحب الحق بإعلان رأيه صريحاً بعدما أسقطت ثورته «هيبة» رجال الأمن، ظاهرين بلباسهم الأميري أو متخفين بجلابية «ابن البلد».
الشعارات إثبات قاطع على سقوط الفرعون من وعي الناس البسطاء ومن أذهانهم: «ارحل يا مرسي»، «لا للإخوان»، «لا لحكم العسكر»، «لا للسلفيين»، «لا للطغيان باسم الدين»، «لا للدستور الأشوه»، «لا للتزوير» إلخ…
والمناقشات تؤكد سقوط الخوف: فالأصوات عالية لا يخشى أصحابها أن يسمع «المباحث» ما يقولون… ثم أن النكتة حاضرة «تترجم» التحليل السياسي ضحكات مدوية. لا حرمة للرئيس، أو للجيش، أو للحكومة، أو للشرطة خاصة… وإن كان النقاش يطول حول دور الجيش الذي استولدت قيادته عبر سلسلة من مناورات التكريم للقيادة السابقة التي يتوافق الجميع على اتهامها بالقصور إن لم يكن بالتواطؤ، والحرص على الامتيازات التي يتمتع بها الضباط عموماً والضباط القادة خصوصاً.
النكات بحر: ما أنتجه الميدان وهو يتجاوز الإحصاء، أو ما أضيف إليه عبر المرحلة الانتقالية التي شهدت أحداثاً خطيرة بدلت في صورة مصر ومكانة الحكم فيها.
الهموم مصرية خالصة. لا مكان للعروبة في النقاش. لا مكان لفلسطين.
أما الحديث عن إسرائيل فمرجأ إلى ما بعد «ترتيب البيت»… ولكن أين البيت إذا ما ظلت إسرائيل تسترهنه؟! الجواب: همومنا في الداخل ثقيلة. أعطونا قدراً من الوقت. الأولوية المطلقة الآن لمنع قيام نظام قمعي يسترهن المصريين باسم الدين. إننا نقاتل على جبهات مختلفة، وأخطر المواجهات مع هذا السرطان السياسي الذي يتلطى خلف الشعار الديني. إن حكم الإخوان خطر على وحدة مصر، وحدة شعبها وأرضها… ألا تسمع هذه الأحاديث المريبة عن سيناء؟ ألا تقرأ مثلنا ما يصدر من قرارات وتصريحات حولها و«طمع الفلسطينيين بإقامة دولتهم فوقها»؟! ألم تلفتكم هذه الاشتباكات التي لم يُكشَف عن مدبريها والمشاركين فيها برغم فداحة الجرائم التي ارتكبت خلالها؟… ثم تلك الزيارات المتتالية لكبار المسؤولين، بمن فيهم الرئيس، وقادة الجيوش لينتهي الأمر بالادعاء على مجهول؟
النقاش مفتوح. وثمة دائماً المجادلون والذين يهربون إلى النكتة التي تشكل جزءاً حيوياً من أي نقاش.
أما وسائل الإعلام، وقد كان بيننا بعض أهلها، فتلعب دوراً حيوياً شديد التأثير. واضح أن الإخوان قد خسروا هذه المعركة، برغم أن لهم فضائياتهم وصحفهم، إلا أنها متخلفة وقاصرة عن التأثير إلا في جمهورها، وهو جمهور عريض، لكنه بأغلبيته الساحقة «ريفي» و«فلاحي» و«أمي» في كتلته العظمى، قد يؤثر فيه الاستغلال المنهجي للمنطق الديني مسيساً، لكن النخبة في مكان آخر. والنخبة بعشرات الملايين، بالمعنى السياسي، كما دلت نتائج انتخابات الرئاسة ثم الاستفتاء المقررة نتائجه سلفاً على الطبعة المنقحة ثم المعدلة للدستور الموقت.
يصعب في مصر معرفة «القبطي» من اسمه، كما في لبنان مثلاً حيث أكثرية الأسماء مستعارة من القديسين، ليس فقط أولئك الذين كانوا مع السيد المسيح في فلسطين أو أوائل شهداء التبشير بدينه، وإنما هناك أيضاً عشرات الأسماء المستعارة من بلاد الفرنجة، فرنسية أساساً ثم أميركية… مراعاة للتطور.
يرفض الأقباط التعامل معهم بدينهم. هم مصريون، مواطنون طبيعيون في وطنهم الذي أعطوه اسمه وفي دولتهم التي غالباً ما تتعامل معهم كأقلية. لكن الثورة حسمت الأمر مع اللحظة الأولى للنزول إلى «الميدان»: الكل مصريون، لا فضل للمسلم على القبطي.
في الميدان وُلد المواطنون المصريون. وفي الميدان وجهت الضربة القاضية إلى الطائفية. ولقد سرّع انتصار «الإخوان» دفنها… فإذا كان هؤلاء وشركاؤهم من السلفيين ينكرون على المسلم إسلامه فكيف بالقبطي؟!
القضية سياسية أولاً وأخيراً… والاتهام بالولاء للغرب، أوروبياً أو أميركياً يطال أول من يطال «الإخوان» و«السلفيين»، ولا مجال للمزايدة هنا.
الثورة ولاّدة الشعر. ولقد استولدت الثورة شعراء ممتازين أو هي أعطت الفرصة لمواهب كثيرة كانت مطموسة أو مغيّبة أو عاجزة عن الوصول بفنها إلى الناس، فإذا قصائد الشعراء والشاعرات الجدد على ألسنة الثوار… وهي قد وجدت من يجمعها ويسجلها على شرائط وكاسيتات، ثم وجدت من يجعلها بعض تجارته.
ها هي الثورة تعيد خلق قاهرة المعز. ها هي المحروسة تنهض من تحت الركام إلى الميدان. ولسوف يمر وقت قبل أن تعود القاهرة إلى دورها الذي لا تعوضها عنه أية عاصمة عربية أخرى… ولكنها بالتأكيد عائدة إليه، بعد سنة، سنتين، ثلاث سنوات.
القاهرة تعود عبر مخاض قاس ومواجهة شرسة مع «الدين».
من يستطيع أن يتهم مصر في تدينها ليأخذها بعيداً عن الدين من أجل السيطرة فيها على الدنيا، وهي «المحروسة» و«أم الدنيا».
«بهية راجعة… فوق الصعب ماشية» إلى دورها الذي ينتظرها.

عبـد الغنـي طليـس وحصـاد النـار…
بنبرة عتو أو تحد يليق بمن يرى نفسه مضطهداً صدر لعبد الغني طليس ديوانه الجديد «فوق رؤوس العالمين»:
«مزاجي/ حصار النار/ أو خوف وردةٍ/
وفي ما روى الراوي فإني لممسوس…
ودربي شيبة الغيب/ صعب دخوله
ومفتاحه/ في عنق عنقاء/ محروس».
الديوان ثلاثة أقسام: الأول يحمل عنوان الديوان، والثاني «مشاهد من الدنيا والآخرة» والثالث «شانسونيات لبنانية»… أما الغلاف فلوحة للفنان المبدع رفيق شرف في ذروة صداقته مع عنترة.
وهكذا، فإن الديوان «بعلبكي» غلافاً ومضموناً، وبعلبك هنا تعني كل ما يميزها ويجعلها أميرة في التاريخ، صلبة في طباعها، مجروحة في كرامتها بالحرمان وإن ظلت انفتها غالبة على سلوكها ولو مجوعة:
«إذا المتنبي كان أشعر من مضى
فإني له عند الزمان بمرصاد
سيغلبني صبحاً… لأغلبه مساً
ونقتسم الشمس المقيمة في الضاد»…
ويوم عبد الغني «الذي ابتدأ، انتهى خبراً ليعبر مسرعاً جداً ويحملني إلى أعلى فأقرأني من الأعلى… كسطر في جريدة».
وابن بريتال الذي تؤذيه السمعة التي تسبب فيها بعض أهلها وبعض الدولة فيدفع بما يرضي عقله، حسه ،وقلبه سيكتفي «بدمع يكفكف…» فالحسن مرسوم على الوجه خافياً… وهو سجين وحر، مطلق، حالم، على حدوده يحل البرق، وهو الرقص، وهو لا يطلب إلا مفاتيح لحظة تمر وتبقى ثم للعمر يحلف…
والشاعر الذي نصف اسمه عبد ونصفه غني يرى في لون يرتديه الحبيب مهرجان الألوان، حيث نراه…
… وهو يصدق نفسه لا يصدق غيرها فيخلي دروباً كان غيره بها أولى.
وهو يستوقفه «الفشاط» اللبناني فيتعالى:
فليُعلِم الحاضرون الغائبين إذن/ أني وضعت بجيبي جدهم طيئاً!
ثم يكمل على «الشاطر» اللبناني الذي «إن لم يوفق بالنفاق فصحن كبة»
وهو يفترض أن قد أوحي إليه أن اسمه ينسم على ورق الصفصاف «فإن رمت حباً لن أحب سوى التي تهز فلا تهتز»… وهي التي يزجيها اللقب السامي شمس النساء، «لي أمامي كون يعانق قلبي/ لن أبالي بمن يكون ورائي».

آهــات العمــر الثالــث
… ولكنك غادرت مضارب «كنزه» منذ عمرين، فمن أين تأتي بعمر ثالث لتواجه اجتياح عاصفة الطيب الوافدة التي تذروك مطراً معطراً بشميمها؟!
تخترق الليل بعيني القطة، وتتغلغل بين حناياك لتتفحص موقعها فيها. تريدك كلك دفعة واحدة وأنت المتناثر في فيافي القلق.
يأتي البعيد إلى البعيد فتجتمع الدنيا في راحة كفك يحرقها البرد. المسافة وهم. كم دقة قلب بينك حيث أنت وبينها في الأقصى من الأرض؟ كم وردة في الطريق بين همسة الاعتراف وهسيس احتراق الذكريات؟
أطرد الأسئلة الآن. الأسئلة خطوات متلاحقة تأخذك إلى جحيم الواقع، فلماذا تضيع لحظة إغراقه بياسمين اللقاء؟! عش اللحظة، فاللحظة عمر.
لا تسأل عن سر المصادفة. المصادفة هي السر. هي السحر. السؤال يغتال السحر. أمتع ما في الحياة مصادفاتها التي تمنح أيامك معنى لم يكن لها. دع التخطيط للأعمال وعش روعة المصادفة. أنت الآن غيرك بالأمس، وهذا أمر عظيم. دع الأمس لغيبوبته وعش اللحظة.
فلتنطلق الأحصنة مطلقة صهيلها موجات من العواصف المطرزة بالزنبق، ولتشعل الآهات حريقاً في الأرض البور التي نسيها الحصادون.
يدخل الشمال إلى الجنوب. يدخل المشرق إلى المغرب، فإذا النجوم المتلفعات بالغيم تمطر سندساً، وإذا الزورق يتهادى فوق أمواج الهمس الحميم فلا يحترق، ولا هو يتوه عن مرفأ الأمان المحروس بأدعية الأمهات.

مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا يذهب الحب بالنسيان. يعبر به الزمان فيطوي أجنحته ويتغلغل عميقاً منتظراً غده. تتراكم السنون فتلتهم الذاكرة وتمحو ملامح الأهل والأصدقاء والخصوم… ثم عبر لفتة، عبر همسة، عبر ضحكة فرح، عبر تفجّر الحزن جارفاً، يحضر الطيف فيغمر دنياك بالبهاء.
الحياة أجمل مما نظن، فبادر إلى الاعتذار إليها بأن تعطيها ذاتك.

Exit mobile version