طلال سلمان

هوامش

محمد بركات: من الإدارة إلى الوزارة، من اليتيم إلى الزعيم!
من حق محمد بركات أن يلقى التكريم.. فهو قد ناب عن مجتمعنا في أداء خدمة إنسانية نبيلة يعود علينا ريعها سمعة عطرة يمكن ان تعوض بعض التشوهات التي ضربت مجتمعنا وأساءت الى صورته.
كاد محمد بركات يجعل من اليتم «امتيازاً» لمن ُنكبوا بفقدان الأهل او افتقاد الرحمة في قلوب من رمى «وليداً» ليتخفف من عبء خطيئة أو من ثقل الفقر أو من ظلم الأقدار: حاول فنجح في تحويل دار الأيتام التي صارت دوراً إلى مزيج من المدرسة الداخلية والمنتجع السياحي، ومختبر المواهب الفنية.
بل انه قد اجتهد فانتصر على اليأس، الذي يفيق عليه اليتيم عند إحساسه بفقدان أهله ويشعره انه متروك للريح… وصحيح انه لم يستطع أن يكون أباً للآلاف ممن نشأوا تحت رعايته لهذه المؤسسة، لكنه نجح في أن يشعرهم بأن الدار يمكن أن تكون بيتهم ومدرستهم والحضن الدافئ لرعايتهم وهم يتقدمون من قلب حزن الفقد نحو الأمل بمستقبل يليق بكرامتهم الإنسانية عبر تأهيلهم لان يكونوا بشراً سويا، محمية كرامتهم الإنسانية بقدرتهم على أن يبنوا حياتهم بأهليتهم وليس بالسخرة او بتصدق المتصدقين الذي لا يمكن ان يدوم او يوفر لهم المكان اللائق في مجتمعهم.
ولقد يسرت لي مهنتي أن اقترب، ولو على فترات متباعدة من دار الأيتام التي حوّلها الدكتور محمد بركات إلى مؤسسات مؤهلة وقادرة على رعاية من ظلمتهم أقدارهم، وعلى تنشئتهم وتعليمهم وتدريبهم بما يمكنهم من ان يبنوا مستقبلهم بجهدهم وكرامتهم الإنسانية محفوظة من نظرات الإشفاق او ما هو أقسى: الامتهان.
أما حين باشر محمد بركات بإبداع حملاته الإعلامية التي تعودنا أن تزين شوارع العاصمة وساحات المدن والبلدات، فقد حمدت الله ان هواية الكتابة التي كان قد باشر ممارستها ثم أبعدته المسؤولية عنها، لم تدفع به الى مزاحمتنا في مهنتنا، وهكذا نجونا من قلم منافس خطير، يبدع صك الشعارات، وتنظيم حملات الترويج والتسويق، ويستنفر الحمية الإنسانية حتى عند البخلاء فيستدرجهم ثم يجعلهم يدفعون وقد آمنوا أنهم إنما يخدمون أنفسهم في دنياهم قبل آخرتهم…
وهل اشطر ممن يدفعك الى أن تدفع، مع شعورك بأنه صاحب فضل عليك؟!
وربما لأنه يعرف كثيراً فقد استطاع محمد بركات أن يجني مكافأة عظيمة عبر الدعم الذي نجح في توفيره لهذه المؤسسة التي تحتوي الكثير من أسرار الناس وخفايا حياتهم الخاصة.
لم يكن في بال الحاج صالح بركات، التاجر المقترب بتهيب من الصناعة، أن ينصرف نجله الذي تخصص في علم الإدارة في المانيا، ثم نال دبلوم الدراسات العليا في الاجتماع والتاريخ من جامعة القديس يوسف في بيروت، الى مجال رعاية الأيتام… وهي لم تكن، وليست مهنة في أي حال.
كذلك لم تكن هذه المؤسسة في بال الشاب الممتلئ حماسة الذي وجد في جمال عبد الناصر بطل الأمة فاندفع إلى الالتزام السياسي في حركة القوميين العرب.
وحين تولى محمد بركات إدارة دار الأيتام طالب براتبين في الشهر: «الأول مقابل عملي والثاني كتعويض عما سيلحق بسمعتي من أذى»… ذلك أن معظم الذين تولوا دور الأيتام والأوقاف والكثير من الجمعيات قد لاكت الألسن سمعتهم وتناولتهم الشائعات المغرضة في ذمتهم.
يمكن أن نطلق على محمد بركات لقب «النقّاش»، فهو قد نقش مجموعة من الشعارات والملصقات التي كادت «تزين» اليتم، من نوع «دار الأيتام للأحلام… لا للآلام» و«الخير عالم من الأخيار». وكانت هذه الشعارات مع رسومها الجميلة تملأ شوارع بيروت عشية الأعياد. وبالمقابل فقد أنتج بالتعاون مع بعض الشعراء والملحنين، لعل أبرزهم أحمد قعبور، عدداً من الأغنيات والاسكتشات التي كان الأيتام يقدمونها في الحفل السنوي، فتزيد من ثقتهم بأنفسهم، وتحرك المشاعر الإنسانية وإرادة الخير التي تحمي دار الأيتام وتساعد على تطويرها لتقدم خدمة أفضل.
ويروي محمد بركات واقع دار الأيتام حين تولى زمامها: فقد كانت خالية من المزروعات والأزهار، ليس فيها إلا أشجار الكزورينا، فزرع ما يبهج، بعدما حصل على ثلاثمئة ليرة من عبد البديع سربيه. لكن الأطفال فرحوا بها الى حد اقتلاعها ليحتفظ كل منهم ببعضها، فزرعها مرة أخرى حتى اعتاد الأطفال جمال منظر المكان الذي يسكنون فيه فصاروا يرعونها معه.
ظل محمد بركات يكرر «وأما اليتيم فلا تقهر» حتى أشعرنا جميعاً بالذنب ونال هو الأجر والدعاء.
لقد خرّجَ محمد بركات أجيالا من الشبان والشابات لا يستشعرون نقصاً في إنسانيتهم، ولا ينتظرون رزقهم من طالبي الأجر عند الله.
لم يتسوّل محمد بركات لدار الأيتام، ولا هو دار على القادرين يأخذ منهم القليل ويحجز لهم أمكنة في الجنة، التي لما يملك مفاتيحها، وإنما كان ينصحهم ويقنعهم بأن تبرعاتهم تساهم في حماية مجتمعاتهم فضلاً عن أنها تُظهر فضل الله عليهم… وهكذا استطاع أن يستولد من المؤسسة الواحدة خمسين فرعاً منتشرة في معظم أرجاء لبنان، لا سيما المجهولة من سياسييه.
وحين كنت احضر مع ذلك الجمهور الغفير مآدب الإفطار الرمضانية التي تقيمها دار الأيتام، كنا نخرج منها يداخلنا إحساس مكين بأن كرامة هؤلاء الذين قست عليهم أقدارهم قد حفظت فعلاً… إذ كان الفتية والفتيات يظهرون موفوري الكرامة، وأصحاب مواهب وقدرات، وقد تخلصوا من عقدة اليتم والإحساس بأنهم مكسورون لن يجدوا سبيلاً الى الحياة.
ها هو محمد بركات يباشر حياته مرة أخرى، ممتلئ الخبرة، ناضج التجربة، عميق المعرفة بمكونات البلاد والعباد. وقد تخطى في حملاته لإنقاذ دار الأيتام ولتأمين استمرارها مستقبلاً حدود هذا الوطن الصغير فطاف في العديد من الأقطار العربية يستنخي أهلها ويطلب دعمهم متوجهاً الى مشاعرهم الإنسانية وإرادة الخير في نفوسهم. ثم انه أحسن في استثمار ما جمعه من تبرعات وصدقات لتحديث المباني والمناهج وعصرنة أسلوب التنشئة والتعليم والإحاطة حتى «يتخرج» اليتيم وقد تكامل شعوره بإنسانيته فلا يحس بعقدة نقص تخجله من نفسه وتشعره بأنه أقل من غيره… بل لعل كثيراً ممن خرجوا من هذه الدار قد حققوا نجاحاً لم ينل مثله المرفهون والمغنجون من الأبناء الشرعيين لأسر لم تعرف كيف تنشئ أبناءها وبناتها ليكونوا من أهل المستقبل، بل ومن المساهمين في صناعته.
انه خريج متميز من تجربة سياسية عريضة، انطلاقاً من الشارع وصولاً الى دواوين الحكم.
ثم انه خريج نادر المثال في غنى تجربته في العمل الإنساني، مكنته من أن يخترق المجتمعات فيعرف دخائلها وأحوالها، بأسرار الرجال والنساء فيها… بل انه صاحب خبرة عريقة في أبناء الحلال وأبناء الحرام.
هل ثمة اكفأ منه ليكون حيث ينبغي أن يكون
من الإدارة للوزارة، من اليتيم الى الزعيم؟
انك أب أسطوري لقبائل من الأبناء والبنات، وهكذا حققت أعجوبة تسجل لك، فواحدنا يضيق بأبنائه الشرعيين وقد يغضب منهم او يغضبهم…
هنيئاً لك بالمجتمع الذي أنشأت… برغم انفك!
بركاتك يا مولانا… في الدنيا والآخرة.
«كلمة ألقيت في حفل تكريم محمد بركات
لمناسبة تقاعده… المبكر».

رســالة إلــى الغــد
تمهل! احفظ مقامك بالرصانة! لست أول من صار جداً، وليس هذا حفيدك الأول، ثم انه لن يغادر مكمنه الزجاجي ليلاعبك الغميضة!
تمهل! لست في طريقك، كما في ذلك الليل الماطر في الزمن البعيد، إلى بيت الداية، تخترق عتمة الخوف وأشباح الغيلان وتسابق لهفتك لأن تثبت أنك قد صرت «رجلاً» يمكن الاعتماد عليه، في غياب والده، ومؤهل لحمل مسؤولية البيت والأسرة جميعاً، لا سيما في الحالات الطارئة.
تمهل! لا داية هنا، ولا جارات ودودات تدفعهن العاطفة لمساعدة «الجارة الغريبة» التي ستضع وليدها في غياب زوجها «المأمور» والموفد إلى مهمة في البعيد.
تمهل! ستخترق هنا جمعاً من الأطباء والممرضات قبل الوصول إلى الغرفة مكيفة الهواء التي يزدحم مدخلها بسلال الورد، في حين ترتاح «هبة» فوق سريرها تحمل وليدها والزهو يخالط الفرح في عينيها: لقد أنجزت وعدها، وها هو الحفيد السابع بين يديها، و«علي» يدور من حولها وتدور معه حيرته: ماذا عليه أن يفعل بالضبط؟!
انه الآن والد الفارسين! ولعله كان يفضل ان يكون أحدهما، متخففا من مسؤولية ثقيلة أعظم ما فيها انها تكمل إنسانيتك.
كان «نسيم» الأعظم فرحاً، يتأمل هذا الوافد الجديد الذي يحتل مكانه على صدر أمه، ويحاول التخفف من غيرته التي سوف تتكامل لاحقاً بضحكات قصيرة، مفترضاً ان هذا الوليد لعبة ستسليه وتمتعه أكثر من أكوام ألعابه الإلكترونية، وانه سيغادر بعد قليل متخوفاً من ان يبقى ليغدو شريكه، وقد كان على العرش استوى لوحده والكل تحت إمرته.
أما الجدة فقد أمسكت نفسها في اللحظة الأخيرة مرجئة زغرودة الفرح إلى حين يعودون إلى «البيت» حيث تمارس حريتها وسط «قبيلة» الأبناء والأحفاد الذين صاروا الآن أكثر توازنا وأعظم سعادة، إذ سيتاح لهم أن ينشئوا علاقة جديدة مع طفل سينظر إليهم، غداً، على أنهم بعض مثله الأعلى.
الحفيدات في فرح، والحفيد الأول بات يعتبر الآن انه قد غدا زعيما وصارت له «عزوة»، ولم يعد «أقلية»، مطمئناً إلى أن مكانته محفوظة.
أما الجد فينسى «الأخبار» ليقتنص لحظة فرح، ويهرب إلى الأمل في أن تتبدل «الأحوال» ليحظى الأحفاد بغد أكثر إشراقاً من يومه.
أهلاً أيها الوافد إلى عالمنا المضطرب، وعذراً إذا نحن لم نستطع ان نوفر لك حياة أفضل من التي عشناها… وهذا حديث في السياسة وليس في شؤون المعاش.
على أننا ما زلنا نفترض أننا على ذلك قادرون والمسؤولية بقدر الأمل…
«إلى يامن الذي جاء بشارة في الزمن الصعب».

تهويمات/ ثرثرة فوق الثوب الأبيض
يصعب أن تكتب قصيدتك على جناح طائرة، ويسهل أن تقرأ غدك في كتاب عتيق.
آن للصمت أن يذهب في إجازة قصيرة، مقدار لفتة، مقدار لمسة، مقدار همسة.
ألم يأت زمن الشعر بعد؟! أما آن للخوف ان يتهاوى في طيات الحكايات التي تروى لاغتيال الصمت الذي قد يغري بالاعتراف؟!
من يفتح باب الكلام؟ العينان، أم الشعر المنسدل كستار يحجب التاريخ السري المغري باختراق الاستحالة؟! أم هي الكتابة المعتقة التي تضيء الطريق إلى غد اللحظة التي استولدها الجنون؟!
كانت القاعة مزركشة الجنبات بتنهدات العابرين الذين استودعوها قصصهم، باللوعة واللهفة، بفرح الانكسار ونشوة تخطي المحرمات، قد أفرغت جنباتها كي تتسع لدوي صمت الاعتراف. الذي تأخر موعده بالخوف من طوفان الشجن الذي سيتدفق فيجرف التردد المنهك بين الإفراج عن التمني وبين حماية السر في قوقعة القهر المريح!
لا تتوقف الأسئلة عن الطرق على جدران الذاكرة محذرة من خطر النسيان. المكان عيون، المكان آذان، المكان حرس، المكان محكمة مفتوحة. الماضي يدوي في جنبات الفراغ. الحاضر أخرس. لكن العيون ثرثارة.
لنترك للعيون ان تكمل ما طرزته على الثوب الأبيض.
لنترك المسار للطائرات العائدة مثقلة بجنون الشوق إلى العذاب الذي يستعد بألحانه الشجية للحظة النطق بالحكم ضد مارقين ضبطا متلبسين باغفاءة حلم.

مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب ضرب من الجنون، ولكن ليس كل جنون حباً. أعرف كثيرا من المجانين، لكن واحداً منهم ارتضى أن يحملني إلى نعيمه… عساك تحظى بمجنونك.

Exit mobile version