طلال سلمان

هوامش

حسين العودات يستذكر شهداء الفكر.. وصداقة الحاكم
لا يتعب حسين العودات، ولا يتوقف عن المشاغبة.. فكرياً! وهو يرفض أن يذهب إلى «التأمل» من قلب سجن التقاعد، ويصر على مواصلة تحدي القيود والعوائق واعتلال الجسد وضعف النظر… ولأنه يئس من العمل السياسي المباشر فلقد اندفع إلى الهواية التي غدت مهنة إجبارية في زمن البؤس السوري: القراءة والمزيد من القراءة، ثم الكتابة ذات المنهج التحليلي في محاولة لفهم الحاضر بالماضي، واستشراف المستقبل بالفكر بعدما دفع ثمن العمل السياسي غالياً من حريته وصحته وصداقاته عابرة الحدود.
متعبة هي الكتابة لأبي خلدون، ولكنها متعته الوحيدة، خصوصا وهي ترضي نزعة الاعتراض ورفض الغلط بالمشي على حد السكين.. ثم ان الأوضاع في دمشق، بل وفي سوريا جميعاً، أقسى من ان يستقبلها أي مواطن بالصمت… ما دامت الصحة ومرارات التجربة لا تسعف في المشاركة العملية في الأنشطة السياسية، فلا أقل من محاولة استقراء التاريخ، والتنفيس عن القلق المصيري باستخلاص الدروس عبر مراجعة التجارب وبالتحديد مواقف المثقفين من الحكام والكلفة الباهظة التي دفعها من تجرأ على الاعتراض ورفض الخضوع والتنكر لما استقر في يقينه من ثوابت الصح… والتي بقيت ثابتة برغم «تغييب أصحابها».
وحسين العودات الذي قرأ كثيرا وكتب قليلاً، يعرف المجتمع السوري معرفة تفصيلية، ثم انه يعرف دقائق العديد من التجارب التي عاشتها سوريا، لا سيما وانه تقلب في مواقع عديدة: مستشاراً لرئيس الوزراء لشؤون الثقافة والصحافة، ومن قبل مديراً لوكالة الأنباء السورية، ومديراً لدار الاهالي للنشر… وهو قد طاف في دنيا العرب وعرف العديد من المفكرين والكتاب والمبدعين نثراً وشعراً، رسما ونحتا… ثم انه كتب قليلاً، وبين مؤلفاته «الموت في الديانات الشرقية» و«وثائق فلسطين» و«العرب النصارى» و«المرأة العربية في الدين والمجتمع»، ثم «النهضة والحداثة» و«الآخر في الثقافة العربية».
قبل أيام، أصدر حسين العودات كتابا جديداً يعرض بشكل مباشر للعلاقة بين «المثقف العربي والحاكم»، التي تقوم الشواهد على انها لم تتبدل جذرياً عبر العصور، وظلت مصدر طعن في صلابة المثقف الذي تبدى في الغالب الأعم «انتهازيا» او هاربا من مسؤولية أفكاره وكلماته إلى نفاق الحاكم… فإذا ما خالف او اختلف انتهى شهيداً بلا قبر أو رثاء!
يعترف حسين العودات، ومنذ السطر الأول في كتابه الجديد بالحجم الهائل للصعوبات التي تعترض دارسي موضوع الثقافة والمثقف، ومحاولة معرفة ماهية كل منهما ووظيفته ودوره في تكوين وعي الناس، وعلاقتهما بالسياسة والسلطة والحاكم والمجتمع، وبالصراعات التي تدور في هذه المؤسسات.
بل لقد حاول ان يرصد عبر التاريخ تجارب للمثقفين الكبار مع الحكام، ذلك ان الحاكم العربي لم يكن يقبل أي حل وسط، فعلى المثقف ان يكون مواليا له مؤكدا شرعيته وشرعية حكمه، فإن رفض اعتبره مناوئاً وتنبغي معاقبته… كذلك لا يقبل أي مدح غير مباشر بل ينتظر دائماً مدحاً مباشراً مبالغاً فيه إلى أبعد الحدود.. حتى كاد مدح الحاكم يصبح في التاريخ العربي تقليدا عاديا مقبولا من الكتاب ومن أبناء المجتمع… فمن يصدق ان الفيلسوف الكندي توجه للخليفة المعتصم قائلاً:
«أطال الله بقاءك يا ابن ذرى السادات، وعرى السعادات، الذين من يمسك بهديهم يسعد في دار الدنيا ودار الأبد، وزينك بجميع ملابس الفضيلة. وطهرك من جميع طبع الرذيلة».

بين الحاكم والمثقف..
يعود حسين العودات إلى تجربة المثقف والحاكم في الحضارة العربية فيرى انه منذ قيام الدولة العربية المركزية وتوحيد أطراف الثقافة العربية وبداية تكون وعي عربي مشترك ونظرة موحدة إلى الكون والحياة، كما جاء بها الإسلام، وقيام الدولة الأموية، نشأت علاقة خاصة وجديدة على المجتمع العربي بين الحاكم والمثقف (…) ولم يؤد الشعراء والكتاب دوراً أساسياً في فجر الاسلام وعصر الخلفاء، ولم يكن لهم تأثير في السلطة ولا في الناس، وباستثناء شاعر الرسول حسان بن ثابت لم يبرز شاعر مهم أو أديب كبير في فجر الاسلام والعهد الراشدي (…) أما بعدما تحول نظام الخلافة في زمن الأمويين الى نظام ملكي وملك عضوض، برغم احتفاظه باسم الخلافة، فقد اضطر معاوية بن أبي سفيان إلى أن يبحث عن شرعية لهذا التحول ومبرر له، و«العمل على إعادة تكوين وعي الناس من جديد لقبوله». وكان هذا يحتاج إلى مساهمة جادة وواسعة وكثيفة ومنهجية من المثقفين والحكماء والفلاسفة فأكرمهم وقربهم وقدم لهم الامتيازات المادية والمعنوية وعدّهم الجيش الحقيقي الذي يثبت أركان السلطة (…) في ضوء ذلك سخرت الدولة الأموية كثيرا من المحدثين والفقهاء لصالحها، وضربت بهم معارضيها من الشيعة والخوارج والقدرية والجهمية، كما ضربت بهم معارضيها من أهل السنة والجماعة من رجال الحديث وأشياعهم… لكن هذه العلاقة الجديدة بين المثقف والسلطة لم تستقر تماماً وتأخذ أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية الا في ما بعد في عهد المأمون العباسي الذي تحالف مع المعتزلة وتبنى أفكارهم ومذاهبهم وتبنوا هم بدورهم، في الجوهر وبنحو غير معلن ولكن تؤكده فلسفتهم، الأفكار السياسية للدولة العباسية. ثم قلب المتوكل ظهر المجن لـ«مثقفي الدولة» من المعتزلة طلبا لود (زعماء العامة) من أهل السنة والجماعة الذين استغلوا الفرصة لأخذ «الثأر» الفكري والايديولوجي، وفي الحقيقة «الثأر السياسي» وعرضوا المعتزلة وأنصارهم لمحنة كالتي تعرضوا لها أيام المأمون والمعتصم والواثق…».
يأتي بعد ذلك استشهاد آخر، وهذه المرة بابن خلدون في مقدمته، حول العلاقة بين السلطة السياسية وأهل الأدب، وقد جاء فيها:
«واعلم ان السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بها على أمره. ولاحظ ان حاجة السلطان في اول الدولة إلى السيف أشد «ما دام أهلها في تمهيد أمرهم». وفي تلك الحالة يكون دور القلم دور الخادم المنقذ للحكم السلطاني بينما يكون السيف شريكا في المعونة.. أما بعد قيام الدولة وتمكينها، فإن هم السلطان يكون في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضبط ومباهاة الدول وتنفيذ الأحكام، والقلم هو المعين في ذلك فتعظم الحاجة إليه، فيكون أرباب الأقلام في هذه الحالة أوسع جاها وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة، وأقرب إلى السلطان مجلساً وأكثر إليه تردداً وفي خلواته نجيا».
«أنت تكتب وأنا أشتري».. بهذا المنطق السلطاني جرى استجرار الشعراء والأدباء والعلماء والأطباء إلى داخل الحريم الثقافي… لكن المثقف العربي كان يعيش قلقاً بين وال ووال هاربا من الحريم الثقافي المركز… وإلا فما الذي جعل ابن رشيق يقول للسلطان «الشعر حيث أنت»!
يقول ابن قتيبة ان «السلطان سوق فما نفعه عنده أتى به».. وأكد الجاحظ ما قاله ابن قتيبة فقال: السلطان سوق، وانما يجلب إلى كل سوق وينفقه فيها.. وقد نظرت في التجارة التي اخترتها والسوق التي أقمتها فلم أر فيها شيئاً ينفق إلا العلم والبيان عنه».
.. أما الذين كانوا ينتقدون الحكم والسلطة ويدافعون أحياناً عن العامة ومصالحها أو يؤمنون بمذاهب دينية أخرى غير المذهب الرسمي فقد اتهموا بالزندقة… وكان المهدي شديداً على الإلحاد والزندقة لا تأخذه في إهلاكهم لومة لائم. وقد جند في طلبهم.

مكافآت سخية للمفكرين!
في الفصل الخامس من الكتاب يتناول حسين العودات مختارات من حياة بعض المثقفين العرب، من مختلف العصور ويعرض الإطار العام لمواقفهم، وموقف الحكام منهم وتوقيع العقوبات عليهم بدءاً من سجنهم وحرق كتبهم وصولاً إلى صلبهم وتقطيعهم وحرقهم وهم أحياء، مروراً بإعدامهم بالسيف، بعد تعذيبهم بيد الخليفة في بعض الأحيان.
مات أبو الحيان التوحيدي فقيراً جائعاً منبوذاً منطويا على نفسه، وهذا ما شكا منه في رسالته إلى أبي الوفاء قائلاً: «إلى متى التأدم بالخبز والزيتون، فوالله بح الحلق وتغير الخلق، الله الله في أمري..» وبلغ به اليأس ان احرق كتبه بنفسه «وكيف اتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من احدهم وداد».
ولقد أمر السلطان علي بن يوسف بن تاشفين بإحراق كتاب أبي حامد الغزالي «إحياء علوم الدين» وأمر المنصور بن يعقوب بإحراق مؤلفات ابن رشد.. وسجن أحمد بن حنبل ولاقى مختلف أصناف التعذيب، كالجلد والسجن والتجويع، وتحمل معاداة ثلاثة خلفاء، واضطهد سعيد بن المسيب، وهو الفقيه المحدث ومفسر القرآن والمحبوب من الناس لأنه رفض أمر عبد الملك بن مروان مبايعة ولديه الوليد وسليمان.. اما سعيد بن جبير فقد ساومه الحجاج على التراجع عن موقفه من دون أية فائدة، فعاقبه الحجاج بتقطيعه إرباً إرباً.. وصلب الحلاج ثم قطعت أوصاله بسبب رأيه وموقفه، وكذلك غيلان الدمشقي أيام هشام بن عبد الملك، وابن المقفع بعد ذلك… ولعل ابن المقفع كان من أوائل المثقفين الذين قطعوا وألقيت أعضاؤهم بالنار امام أعينهم، اما الجعد بن درهم فقد أعدمه الوالي في المسجد تحت المنبر يوم عيد الأضحى.

غيلان الدمشقي نموذجاً..
ويتابع حسين العودات في استعادة المفكرين والكتّاب الذين سفح دماءهم السلطان، خليفة كان او واليا، ويتوقف مطولاً عند غيلان الدمشقي، مستنداً إلى المؤرخين المسلمين الذين اعتبروه واحد دهره في العلم والزهد، والدعاء إلى الله وتوحيده وعدله.. لذلك قتله هشام بن عبد الملك.
وغيلان بن يونس مولى عثمان بن عفان، كان يقيم في باب الفراديس، وهو أحد أبواب دمشق، استتابه عمر بن عبد العزيز، وعده ابن المرتضى من رجال الطبقة الرابعة من المعتزلة، بينما يعده البعض من المرجئة، ويصنفه في الفرقة السابعة (الفرقة السابعة من المرجئة الغيلانية أصحاب غيلان، يزعمون ان الإيمان هو المعرفة الثانية بالله، والمحبة والخضوع والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء به من عند الله سبحانه، وذلك لأن المعرفة الأولى عنده اضطرار، فلذلك لم يجعلها من الايمان». وسبب قتله ان غيلان كتب إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً قال فيه:
«أبصرتَ يا عمر وما كدتَ، ونظرتَ وما كدتَ. اعلم يا عمر انك ادركت من الإسلام خلقاً بالياً، ورسماً عافياً. فيا ميتا بين الأموات! لا ترى أثراً فتتبع، ولا تسمع صوتا فتنتفع. طُفئ أمر السنة، وظهرت البدعة. أخيفَ العالمُ فلا يتكلم، ولا يعطى الجاهل فيسأل. وربما نجت الأمة بالإمام، وربما هلكت بالإمام، فانظر أي الإمامين أنت، فإنه تعالى يقول: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) (الأنبياء: 73). فهذا إمام هدى ومن اتبعه شريكان، وأما الآخر فقال تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) (القصص: 41) ولن تجد داعياً يقول: تعالوا إلى النار ـ إذا لا يتبعه أحد ـ ولكن الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله. فهل وجدت يا عمر حكيماً يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذب على ما قضى، أو يقضي ما يعذب عليه؟ أم هل وجدت رشيداً يدعو إلى الهدى ثم يضل عنه؟ أم هل وجدت رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة او يعذبهم على الطاعة؟ أم هل وجدت عدلاً يحمل الناس على الظلم والتظالم؟ وهل وجدت صادقاً يحمل الناس على الكذب والتكاذب بينهم؟ كفى ببيان هذا بياناً، والعمى عنه عمى».

المثقف العربي والحاكم
اختلف المؤرخون التراثيون في مقتل غيلان الدمشقي (106هـ/ 724م)، فابن المرتضى صاحب كتاب المنية والأمل الذي يتعاطف معه، والذي يبدو انه كان متحاملاً على الأمويين، كتب عنه رواية بطولية يقول فيها:
دعا عمر بن عبد العزيز غيلان وقال: أعنّي على ما أنا فيه، فقال غيلان: ولّني بيع الخزائن ورد المظالم، فولاه، فكان يبيعها وينادي عليها ويقول: تعالوا إلى متاع الخونة، تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع من خلف الرسول في أمته بغير سنّته وسيرته. وكان في ما نادى عليه جوارب خز، فبلغ ثمنها ثلاثين ألف درهم، وقد ائتكل بعضها، فقال غيلان: من يعذرني ممن يزعم ان هؤلاء كانوا أئمة هدى وهذا يأتكل والناس يموتون من الجوع؟ فمر به هشام بن عبد الملك، قال: أرى هذا يعيبني ويعيب آبائي. والله إن ظفرت به لأقطعن يديه ورجليه. فلما ولي هشام خرج غيلان وصاحبه صالح إلى أرمينية، فأرسل هشام في طلبهما. فجيء بهما فحبسهما أياماً، ثم أخرجهما وقطع أيديهما وأرجلهما.
ذهب زمن النقاش وصراع الأفكار، يا ابا خلدون. خلا الميدان للسلاح والمسلحين، للقتل والتدمير والتهجير وإحراق الكتب والمكتبات طمساً للتاريخ وتمهيدا لتمزيق وحدة البلاد..
لمن تكتب أيها العجوز المريض الذي يصر على إبداء رأيه كي يثبت لنفسه، قبل الآخرين، انه ما زال حياً، وقريته دمار، وما حول بيته في دمشق يغلفه دخان الحرائق وأصوات التفجيرات؟!
حقا انك عنيد، ككل الذين يعيشون في المستقبل.
ولأنك «حوراني» بكل فخر، فإنك ثابت على يقينك بأن مأساة اليوم ليست نهاية العالم، وان أجيالاً جديدة ستقرأ فتعرف، فإذا عرفت كانت لها الحياة التي لم يتيسر لنا ان نعيشها بكرامة الإنسان فينا.
…وفي انتظار كتاب جديد تنتج سطوره وأنت تمسك «المكبر» امام عينيك حتى لا يضيع منك السياق ولا تهرب الكلمات من بيت الأمل فتحترق في المذبحة التي تكاد تلتهم سوريا، لك التحية على صمودك، مفكراً وكاتباً ومبشراً بالغد الأفضل.
أما المناضلة الصابرة على المأساة العامة وعلى عنادك كاتباً ومفكراً وقيادياً في حركة الفضوليين العرب، فهي تكاد تكون شريكا في التأليف بعد الشراكة في التفكير وفي التحمل والصبر على المكاره… ولك التحية يا أم خلدون.

من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ النساء صنف خاص من المجانين…
تطلبك إحداهن فإذا استجبت استعبدتك، وإذا حاولت البقاء على مسافة ما اتهمتك بنقص في الحب، أما إذا ذكرت غيرها، مصادفة، تحولت إلى خائن، حتى وان كان حديثك عن واحدة من أبطال التاريخ.

Exit mobile version