طلال سلمان

هوامش

سليمان فرح يجرّب الديبلوماسية الوازنة في الخارج .. وداخل القصر
جمعتني المصادفات، غير مرة، بالسفير الذي عرفته باسم سليمان فرح قبل أن أكتشف ـ متأخراً ـ أنه يعود بنسبه إلى دوحة آل المعلوف الذين يحاصروننا بإبداعاتهم شعراً ونثراً، تأريخاً ورواية، ثم يقتحمون الثقافة العالمية ويحتلون موقعاً مميزاً في بعض مؤسساتها العريقة كما فعل أديبنا اللامع أمين معلوف.
مع الكتاب الذي لخّص فيه السفير ـ المتقاعد الآن ـ سليمان فرح تجربته، اكتشفت «شجرة العائلة» وبعض تاريخها المتجول في الجغرافيا المشرقية كما يقدمه بنفسه:
«بنو غسان، على ما يقوله مؤرخ أنسابهم عيسى إسكندر المعلوف في كتابه «دواني القطوف في تاريخ بني المعلوف ـ المطبعة العثمانية 1907» قبيلة عربية مسيحية من الجزيرة العربية، حاربت مع النبي العربي محمد وحققت انتصارات لامعة، ونتيجة هذا التحالف أعفاها النبي من الجزية. كلمة «معيوف» اشتقاق عامي يعني «معفي عنه»، وليست مألوفة في اللغة العربية، فاستبدل حرف «الـ«ي» بحرف الـ«لام» فأصبحت معلوف… وقد نزح الغساسنة من الجزيرة العربية إلى حوران حيث أقاموا وحيث أنشأ إبراهيم جد العائلة المعروفة حالياً في داما العليا وكان له سبعة بنين هم عيسى ومدلج وفرح وحنا ونعمة وسمعان وسابع غفل المؤلف عن اسمه، ومنهم نشأت الفصيلة الكبيرة المعروفة الآن بآل المعلوف… وهم نزحوا من حوران في اتجاه غوطة دمشق حتى وصلوا إلى سهل البقاع واتخذوا «سرعين» موطناً لهم.. ومنها إلى جبة بشري ثم دوما وفروع أخرى إلى بيت شباب حيث بنوا المحيدية فإلى كفرعقاب إلخ.
ولأنني ابن منطقة بعلبك فقد عرفت العديد من المعالفة في حدث بعلبك وفي شليفا وبيت شاما وفي زبوغا وإيعات والسعيدة ونيحا البقاع.
ولأن سليمان فرح شديد الفخر بنسبه فقد استهل الكتاب بصورة لبراءة الفرمان السلطاني الذي منح أحد أجداده حنا فرح المعلوف ونجله سليمان لقب البكوية.
يستذكر سليمان فرح طفولته في زحلة ـ حي سيدة النجاة ورفاق الصبا بعبثهم ومغامراتهم، قبل أن ينقله قريبه المحامي جوزف أبو خاطر بسيارته إلى مدرسة الآباء اليسوعيين.. ومنها انتقل إلى الجامعة الأميركية ـ المعهد الدولي فإلى معهد الحقوق في اليسوعية، فلما تخرج صار محامياً، ثم خطر بباله أن يدخل الخارجية فصار ديبلوماسياً. وكان أول موقع خدم فيه نيجيريا، وبعدها واشنطن حيث كان مركز السفارة في فندق الشيراتون (1964) فقام بمهمات الملحق العسكري والملحق الثقافي فضلاً عن الأعمال الإدارية والمالية والقنصلية.
من واشنطن إلى اليابان مع السفير الأديب توفيق يوسف عواد، ثم إلى الريو دي جانيرو كقنصل، حيث قدمت الجالية دار السفارة اللبنانية فيها، قبل أن تتركها إلى برازيليا لتتحول إلى قنصلية عامة.. وبعدها إلى كندا سفيراً، وهناك قام ـ مع خمسة عشر سفيرا آخر ـ بمغامرة إلى القطب المتجمد الشمالي، حيث يعيش سبعون ألف مواطن في 4 ملايين كلم2 نصفهم من سكان كندا والنصف الآخر من الأسكيمو والهنود: ولقد تفرجوا على الدب الأسمر يلعب في الحديقة.
بعد المقدمة عن الوظيفة يكتب سليمان فرح فصلاً عن الاغتراب اللبناني متسائلاً: إلى أين.. راجعاً إلى المرحلة العثمانية 1841 ـ 1918 مروراً بالهجرة إلى الأميركيتين، فمرحلة الانتداب الفرنسي، ثم ينتقل إلى موضوع قانون الجنسية والغبن اللاحق بالمغتربين.
عاد سليمان فرح إلى بيروت في آذار 1983 فإذا لبنان غير ما تركه، وإذا دولته مشروخة، وإذا حكومته تفاوض المحتل الإسرائيلي على «الجلاء».. وهو ما انتهى إلى «اتفاق العار» ـ 17 أيار… ثم كانت العمليات الفدائية الأولى ضد القوات الأميركية مع قوات دولية أخرى، التي جاءت إثر مذبحة صبرا وشاتيلا.
وبعد مناوشات مع الأمين العام للخارجية انتدب سليمان فرح ليكون مديراً عاماً للتشريفات والعلاقات العامة في القصر، حيث عاش بعض الأيام الصعبة، خصوصاً أن مدافع المعارضة التي رفضت اتفاق 17 أيار لم تتورع عن قصف مقر رئيس الجمهورية في بعبدا.
بين 1985 و1997 عاش السفير فرح في تونس الخضراء.. وهناك شهد المحاولة البائسة لجامعة الدول العربية التي هدفت إلى مصالحة العماد ميشال عون، رئيس الحكومة الانتقالية التي دمغت بالتمرد، مع الحكومة التي اعتبرت نفسها شرعية برئاسة الدكتور سليم الحص ومعه رئيس المجلس النيابي آنذاك حسين الحسيني، بوساطة كويتية وتحت رعاية الجامعة العربية.. وهي مهمة فشلت وزادت من حدة المعارك في لبنان.
الزحلاوي يحب المعارك، ولهواة المواجهات والمؤامرات والكمائن سيورد سليمان فرح ما يسلي في ليالي السمر.
لكنني أشهد أنه ظل صديقاً وفياً لأمين الجميل، وظل يحتفظ بصورته في صدر صالون الاستقبال في بيته حتى اليوم الأخير لسفارته.
مجلة الرجل الواحد ـ الكاتب الأول ـ الشيوعي الأخير
اصطنع محمد دكروب المعجزة التي لا يجرؤ غيره، ولا يقدر غيره على ارتكابها: أعاد ـ منفرداً ـ إصدار مجلة «الطريق» التي تربت أجيال عليها كدليل فكري ـ ثقافي إلى الغد الأفضل.
وعندما جاءني تتقدمه حماسته التي لا تغادره ليخبرني عن قراره «المجنون» هذا خفت عليه من الخيبة، فقد انفض جمع الرفاق، وغادر الركب مدينتنا إلى المقابر أو إلى التيه الفكري أو إلى الصمت الموجع، وخلفوا «السنديانة الحمراء» تفتقد الحشد ممن كانوا يستظلونها وينطلقون من فيئها بزخم الشبان الممتلئين حماسة نحو الغد الأفضل، الذي توارى ـ مجدداً ـ في الأحلام.
أما عندما دخل عليّ يحمل في يده العدد الأول من «الطريق» الجديدة، برفق، كمن يهدهد طفله، فقد آمنت بأن هذا العجوز الذي لا يغادر الشباب ولا يغادره قادر على اصطناع المعجزات.
قلت في نفسي، وهو يغادرني: إنه العدد الأول وأخشى أن يكون الأخير. وأدرك ما أفكر فيه فعاد أدراجه ليقول لي مبتسماً ولكن بلهجة فيها عزم «الرفيق الأخير»: لن يكون العدد الأول والأخير. ولسوف ترى!
أمس حين وصلنا العدد الثالث من السنة 71 ـ ربيع 2012، أدركت أن محمد دكروب مؤهل لأن يصدر العدد الألف في السنة الأولى بعد الألف الثالثة.
ليكن لك المزيد من العمر أيها السنديانة التي تعزز فينا روح الصمود، لأننا نحب الناس ونتوجه إليهم لأنهم مصدر القوة والأمل ورفاق السلاح في المعركة الصح.

ياسين رفاعية من الفرن إلى الرواية والشعر: قصصي!
عرفت ياسين رفاعية قبل نصف قرن تقريباً، في دمشق. ولقد أصر على اصطحابي مع بعض أصدقائنا المشتركين من الكتاب الشبان، إلى الفرن الذي أمضى فيه سنوات شبابه الأول، في حي العقيبي، وأصر علينا أن نتذوق الكعك الذي كان ينتجه مع شرح واف عن «أسرار» صناعته… وطالت الزيارة حتى كدنا نضيع عن الباب وسط عواصف الطحين ورفوف الخبز، في ذلك الحي الدمشقي العتيق.
ثم كان اللقاء الأول في بيروت، وفي مجلة «الأحد» تحديداً، ولمناسبة إعلان نتائج مسابقة القصة القصيرة التي نظمتها تحت إشراف لجنة رئسها الأديب الكبير الراحل سهيل إدريس… ولقد جاء ياسين رفاعية مع «زميلته» الموظفة في القصر الجمهوري، أيام دولة الوحدة بقيادة جمال عبد الناصر، غادة السمان، وقد فازت بالجائزة الأولى مناصفة مع من سيغدو أديباً معروفاً، القصاص زكريا تامر، وهو من أبدع في الكتابة للأطفال في ما بعد.
ستمضي سنوات قبل أن ينتقل ياسين رفاعية إلى بيروت ليستقر فيها، وليعيش قصة حبه التي أدخلت الشعر إلى نتاجه، مع الأديبة الراحلة أمل جراح… ومن بيروت إلى عواصم عديدة في الغرب، مع محطة أساسية في لندن، ثم العودة للاستقرار في بيروت وسط بحيرة أوجاع «أمل» حتى فارقت الحياة وهي تكتب حبها وهو ينتحب شعراً ونثراً.
ها هو ياسين يجمع نتاجه القصصي في مجلد يبدأ بالمرحلة الأولى، «دمشق ـ الحزن في كل مكان»، ثم الكتاب الثاني «العالم يغرق»، فالمرحلة الثانية ـ بيروت، والكتاب الثالث «الرجال الخطرون»، وصولاً إلى الكتاب الرابع «نهر حنان»، فالكتاب الخامس «العصافير» ثم «رباعية الجوع»… والصدارة للإهداء: إلى أملي، أمير، ولذكرى لينا التي كانت لكم أجمل الأمهات والتي غادرتنا باكراً وتركت في نفوسنا حسرة غيابها».
كتب ياسين رفاعية في القصة القصيرة: الحزن في كل مكان، العالم يغرق، العصافير، الرجال الخطرون، نهر حنان، الحصاة.. وفي الشعر: جراح، لغة الحب، أنت الحبيبة وأنا العاشق.. أما في قصص الأطفال فقد كتب: العصافير تبحث عن وطن، الحطاب وشجرة الأرز، الأفعى والولد السارق، وسلسلة الورود الصغيرة. أما نتاجه الروائي فغزير: الممر، مصرع الماس، وردة الأفق، دعاء بالألوان، رأس بيروت، امرأة غامضة، أسرار النرجس، طبقة شعبية، وميض البرق، الحياة عندما تصبح وهماً، أهداب، من يتذكر تاي… كذلك كتب ياسين «ذكريات» مع رفاق سبقوا، وبينهم الشاعر الكبير أمين نخلة، فؤاد شهاب، معين بسيسو، صلاح عبد الصبور وخليل حاوي.
أما في العشق فقد كتب نصوصاً منها: كل لقاء بك وداع، حب شديد اللهجة، أحبك وبالعكس أحبك.
ابن الفران، صانع الكعك، الذي جاب الدنيا في موقع بين الشريد والطارد نفسه من أجل نتاجه، يقدم عصارة قلمه في مجلد «قصصي» ـ الأعمال الكاملة، في غياب قارئته ـ حبيبته الأولى والأخيرة «أمل الجراح».
لكن ياسين لن يتوقف عن الكتابة لأنها حياته التي لا يملك غيرها.
واصف شرارة يرث «المشروع الأخضر».. والزراعة!

لأنه ابن بنت جبيل فهو شاعر، ولأنه شاعر فقد استعان واصف شرارة بقصيدة نقشت على لوحة على شجرة في مدريد بإسبانيا، وفيها:
«أنا الظل الذي يقيك وهج الشمس/ ثماري وعصارتي تطفئ ظمأك في ترحالك
«أنا الجسر الذي يحمل سقفك/ أنا الباب لبيتك
«أنا مقبض معولك، وخشب مهدك.. وهيكل تابوتك
«والسرير الذي تتمدد عليه/ الخشب الذي يصنع منه قاربك»
كتب واصف شرارة سيرة «المشروع الأخضر ـ ودوره في التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة»… فهو المهندس الذي التصق اسمه باسم المشروع الأخضر منذ أن جاء يحمل شهادة في الهندسة الزراعية من المعهد القومي للعلوم الفلاحية في الجزائر ـ ثم شهادة اختصاص في الزراعة العامة من جامعة الحراش، في الجزائر أيضاً، ودورة اختصاص في اليابان. وبعدها صار مديراً لمكتب وزير الزراعة ثم رئيساً لهيئة إنماء المنطقة الحدودية.
ولأنه ابن بنت جبيل فقد انتسب إلى اتحاد الكتاب ورئس نادي الإحياء العربي… ولأنه شاعر وكاتب فقد أنتج «خواطر للأرض والمقاومة» 2001 ثم «خواطر للوطن والأمة» 2009، ثم «قضايا وآراء في السياسة والإنماء والاقتصاد» وبعده «القطاع الزراعي ـ إنماء مفيد، دعم زهيد، تراجع أكيد»، فضلاً عن كثير من الأبحاث والمقالات في الصحف.
يكشف الكتاب، مثلاً، أن لبنان لا ينتج إلا 20% من المواد الغذائية ويستورد 80% ويعاني من مشكلة أمن غذائي، وفي حين أن النمو السكاني 3% فإن الإنتاج الزراعي لا ينمو إلا بنسبة 2%.
واصف شرارة أمضى شبابه وبعض الكهولة مع الأرض والفلاحين والزارعين في المشروع الأخضر الذي أنشئ مع العهد الشهابي ثم جرى اغتياله ببطء خلال العهود اللاحقة، وكان بين مهماته استصلاح الأراضي وشق الطرق الزراعية، وقد استصلح عشرين ألف هكتار/ أي 200 ألف دونم حتى العام 1985، كما رصف ألف كلم من الطرق.
لكن اللبنانيين «يكرهون» الشجرة التي هي الرئة التي يتنفس منها المجتمع.
يؤشر واصف شرارة إلى الطاقة البديلة وحصاد مياه الضباب كماء، وإلى أن المجاعة مقبلة، فهناك الآن مليار و200 مليون جائع، وهناك التحدي السكاني واكتظاظ الضواحي بما يشبه القنبلة السكانية.
«لكي يبقى لبنان أخضر» كتب واصف شرارة خلاصة تجربته مع الأرض والناس، وحاول استثارة الحماسة بقصيدة الشجرة لمحمد يوسف حمود ونشيد البيئة للعقل سعيد.. لكن ذلك كله لن يهز مسؤولاً ولن يعيد فلاحاً إلى أرضه.. وهذا بعض حزن واصــف الذي شهد مع جيله خيبة نضال الشباب وتهاوت الآمال في انتصار الوحدة بالثورة.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حبيبك لا يقبل مقارنته بغيره، وأنت تراه الأجمل. تقرأ قصيدة الشاعر فتراه فيها، وتقرأ الرواية الجميلة فيطل عليك عبر صورها الأرق…
أما في الشارع فلا بد أن تخونك عيناك بالسفر إلى الجمال الذي تتمناه في حبيبك، ثم لا تتعب من تأمله… عابراً.

Exit mobile version