طلال سلمان

هوامش

بيروت تخرج على ذاتها فتختلف
تبدو بيروت، هذه الأيام، وكأنها أصيبت باللعنة حتى لتكاد تفترق عن دورها الذي ميّزها باستمرار وتغترب عن روحها التي جعلتها قبل أن تحظى بلقب العاصمة الثقافية لعرب 1999 المنتدى الفكري العربي والشارع الوطني العربي، ودار الكتب العربية ومقهى العرب ومشفاهم ومصيفهم ومطبعتهم وجريدتهم، وقهوة الصباح.
وقيمة بيروت، على الدوام، أنها نادي الحوار مع الذات.
لعل عظمتها كانت تكمن في روحها المشاغبة، في الإصرار على المعرفة، في أنها تضخ هواء صحياً يملأ به العربي رئتيه، وفي أنها كانت لا تقبل ما تسمع إلا بعد مناقشة، ولا تمنع ما يصنَّف في خانة المرفوض إلا بعد جدل يتيح للمتهم أن يدافع عن نفسه ويحاول تقديم رؤيته الخاصة.
لكأنما ضاق صدر بيروت، أو ثَقُل الهواء فيها، أو نقص الأوكسيجين فيه.
لكأن مناخ الهزيمة قد أوهن روحها.
لكأنها تشكو من »ربو فكري«، ومن ضيق صدر سياسي، ومن عاصفة رملية أغلقت نوافذها المفتوحة وبدت أنوارها في ظلمة »الطوز«!
لكأنها ضاقت فغدت بضعة شوارع مزدحمة بالسيارات ذات الضجيج، والباعة من ذوي الأصوات الزاعقة بتوتر الخائف من الجوع، والدعاة الذين يروّجون بضاعة مهربة فيتصرفون بنزق المذعور من أن يُضبط وفي حوزته المخدرات أو الدولارات »المبيّضة«!
الكل مشتبك مع الكل في معارك غير مبررة، فلا موضوع لها ولا تأثير على جوهر المسألة: أي على الصراع الحقيقي الذي من شأنه أن يقرر المصائر، مما يتصل بالاجتياح الإسرائيلي المتمدد بغير توقف والذي يكاد الآن يغطي كامل مساحة حرف الضاد من موريتانيا بلد المليون شاعر إلى اليمن بلد الخمسة عشر مليون شاعر!
لكن الشعر، مع الأسف، لا يبني دولاً، ولا يوفر الفرصة لكسب سباق التقدم، وينأى بنفسه بعيدا عن تصادم الرساميل الطائرة تُسقط الحدود ولا تتخطاها فحسب، ولا يهتم بالأنظمة والبرامج الجديدة للكومبيوتر وإن ظل أصحابه يتمنون أن يقرأهم الغاوون على الشاشة الصغيرة عبر الأنترنيت.
يكاد الكل يرفض الكل الآن، في بيروت المهددة بالعتمة!
لا شعراء اللازمان واللامكان يقبلون شعراء الوزن والقافية الآتين من زمان قديم ومن أطلال مكان،
ولا »العلماء« يقبلون »العلمانيين«، ويرفض الأوصياء على العقيدة أن يقبلوا كفر الموسيقى وفجور الغناء الرقيق كما السيف المقاوم.
كذلك لا يقبل السياسيون السياسيين، وتتهاطل تهم الانحراف والزور والتزوير وشراء الذمم والفساد والهدر والتنصت والاختلاس وبيع الهواء وسرقة الكهرباء ونهب غلة المخابرات الدولية، فتصيب برذاذها غير الندي الجميع من أهل السلطة التي كانت معارضة، ومن أهل المعارضة التي كانت سلطة ولا تريد أن تخرج منها بعد!
إن من يتابع حركة الجدل الدائر خارج منابره الأصلية، والذي يتسم غالبا بسمة الأحكام الغيابية، يكاد يجزم أن المناخ المسموم المتراكم في الفضاء العربي الواسع وفي الفضاء الإسلامي غير المحدود، قد جُمع في سماء بيروت غيوما سوداء مثقلة بمطر أسود، يتنزل على الناس قتاما فيسود ثيابهم ووجوههم وأفكارهم (أحيانا) ونواياهم (كثيرا)!
إن أنواعاً جديدة من الخلافات غير المفهومة والتي لا يمكن إنهاؤها بتسويات، تتراكم في الأفق حتى لتكاد تسده!
إننا الآن نختلف على السماء، وكأننا أنجزنا تحرير الأرض التي أخذ منها الإسرائيلي القليل و يبسط هيمنته، فعلياً، على معظمها، كما يصادر إرادة أهلها جميعاً.
نختلف على العروبة، وليس باسم الكيانية أو العنصرية أو الإقليمية، وإنما باسم الإسلام، وكأن العروبة كفر أو تجديف أو كأنها نبت شيطاني أو كأنها سلاح كيميائي أنتجه »الكفار« خصيصاً لمكافحة الدين الحنيف!
نختلف على داخل فلسطين ومن حول فلسطين الخارج، مع أن الداخل ممنوع من أن يبقى فلسطينياً، والخارج ممنوع من أن يعود فلسطينياً.
نختلف على إسرائيل، فيكاد بعضنا يراها فرصة للديموقراطية في مستعمراتها العربية، ونموذجا للتقدم الاقتصادي وللرقي الاجتماعي ليس علينا إلا أن نحتذي به، ولو من موقع »التابع«، بل لا ضير في أن »نلتحق« به ونحمي وجوده القوي لعلنا نستعين بقدراته وتأثيراته للتخلص من »أنظمتنا القمعية«. كأنما إسرائيل هي النصير الأعظم لحرية العرب وحقوق الإنسان في دنياهم الواسعة.
نختلف على فلسطين والفلسطينيين، يستوي في ذلك مَن تبقى منهم فيها، يتلهون بسلطة ذاتية على المخفر الأمامي الذي يتولى حراسة إسرائيل من فلسطينيي الخارج كما من العرب عموما، أو مَن هم خارجها من المحرومين من حلم العودة أو من الحقوق الإنسانية »للأخ اللاجئ«.
نختلف مع الفلسطينيين ومن حولهم، ويختلفون معنا، وينتصب برج بابل فإذا نحن نتحدث بلغات غريبة لا هم يسمعون فيفهمون ولا نحن نسمع فنعي، ويتدرج عدم التفاهم في اتجاه الخلاف ويطل السلاح مقتحما الصورة فإذا أشباح ماضي التصادم والاقتتال تفرض نفسها على العين مطلة مجددا من الذاكرة المثقلة بالآلام والجراح التي ّلمّا تلتئم.
نختلف على الحداثة ونحن نهرب من الكومبيوتر حتى لا نكشف جهلنا بعصرنا، ونختلف على الموروث ونحن نهرب إلى الكتب المقدسة حتى لا نواجه التحولات التي تجعل يومنا غدنا، والتي تسكننا في أحلامنا وتكشف قصور أحلامنا عن حقائقها.
يختلف أهل الدنيا مع الدنيا وأهل الدين مع الدين، ثم يختلف أهل الدنيا مع الدين وأهل الدين مع الدنيا، فتضيع منا الدنيا من دون أن يتسع لنا الدين.
الكل يختلف مع الكل، لأن كل واحد منا يريد أن يكون الكل!
لا أحد يريد أن يكون واحداً.
لا أحد يريد أن يحصر مياهه الإقليمية في نطاق معلوم من الأرض أو من السماء، بل يريد كل شيء أو لا شيء أبداً.
المهم أن نختلف، ثم بعد ذلك نفتش فنجد أسباباً للاختلاف.
إن لم تختلف فأنت لست بصاحب رأي، وبالتالي فأنت إمّعة، لا يُحسب لك حساب، ولست بذاتك أحداً أو شيئاً!
لا أحد يعترف بالآخر، بحقه في الوجود، وبحقه في التعبير عن ذاته، وبحقه في الدفاع عن وجهة نظره.
أنا موجود، إذاً أنت غير موجود… فإن فرضت وجودك إذاً فأنت كافر، أو مرتد، أو مشاغب، بل ربما إرهابي.
»تكون أنا، مثلي وعندي وخلفي، أو لا تكون«.
بعض الأمة يلغي بعضها الآخر. بعض العائلة يلغي بعضها الآخر. بعضك يلغي بعضك، فإذا أنت أصلاً لا أحد لأنك لم توجد قط!
عندما تلغي غيرك فإنما تلغي نفسك.
ولكن، لمن توجه الخطاب ما دام أن كلاً منّا في حكم الملغى؟!

فاضل سعيد عقل يعلّمنا بصمته الكلام!
دخلنا إلى بهو الفراغ نسأل عن الغائب الذي كان دائما كثيف الحضور، فاضل سعيد عقل، فقالت لنا الممرضة المقنعة باسم العناية الفائقة: هو على حاله، لم يطرأ على وضعه أي تغيير.
بقينا في قلب الصمت لفترة، ثم انسحبنا خوفا من أن نخدش الهدأة ونشوش على أحلام القلم الكبير الذي كان، بخبرته الطويلة، بمعارفه الكثيرة، بذاكرته الحية، بعبق الشهادة التي تتوسط اسمه فتنسبه مباشرة الى 6 أيار وتلك الكوكبة ممن أعطونا مجد المقاومة لتوكيد الانتماء القومي.
تغلغلنا في قلب الطيف ونحن نمشي الهوينى متقهقرين الى الحزن الذي يزداد كثافة: ستكون النقابة أعظم فراغا، ستكون الكتابة أكثر قتامة، سيكون القليل أقل!
فاضل سعيد عقل: نحتاج الكثير من صمتك لنتعلم الكلام!

جورج الزعني يبيع النعيم بقروش ذهبية!
في العادة، يغطي الذهب النقد، فيكشف النقد الذهب.
جورج الزعني اختار ملعبا جديدا لعبثه العبقري: انه يجمل الآن الذهب فيبيعك النقد بوصفه فنا، بينما أنت تبحث عن النقد لتجعله خبزا!
ما الذي أخذ هذا المتعدد المواهب بحيث تفترضه بلا موهبة الى تاريخ النقد في لبنان، وإلى البحث المضني عن التواقيع المهجورة للوزراء المنسيين ولحكام المصرف الذي كان فرنسيا ثم بات لبنانياً سورياً مشتركاً كالليرة التي كان يصدرها ويغطيها بعشرين فرنكا فرنسيا قبل أن تنفصل عن فرنسا ثم عن سوريا لتغدو… واحداً على ألف وخمسمئة من الدولار!
»قروش من النعيم«،
هكذا قرر جورج الزعني اسم مولوده الجديد الغالي كاسمه!
جورج يبيع الآن وهج الذهب في وهم النعيم للذين أتعبهم حمل الذهب في الأرض التي طالما حوّلها الذهب إلى جحيم!

الفراغ وحامل الشال!
حين أمسكتْ بيده نسي شروط الرقص، وحين تركت يده نسي أصول الجلوس.
قالت: سأطاردك حتى ثمالة الحلم! لن أدعك تفلت مني مهما تفنّنت في أسباب الهرب، ومهما حاولت استثمار جبنك لإلغاء وجودي! أنا كالضوء في عينيك، أبقى فيهما حتى لو أغمضتهما، وحين تفتحهما مجدداً لن ترى غيري!
دخل الحلبة، مرة ثانية، وقد قرر أن يرد التحدي بتجاهلها، لكنها كانت باهرة الحضور بحيث انه يلغي نفسه إن هو رقص مع غيرها. صارت شرطاً لوجوده.
اقتربت يتقدمها صدرها، وابتعد دافعاً إلى الخلف رأسه.
أحاط بها الراقصون، لكنها لم تكن بحاجة إلى أيديهم.
رقصت وحيدة، إلا من شالها الأسود.
لماذا تنظر إليه كلما هوت بقدمها على الأرض كأنها تريد أن تفتح فيها نفقاً يخفيه عنها، أو تطلب بالضغط ارتفاعاً يخفيها عنه؟!
قال له صديقه: أجب نداءها أيها الغبي!
قال في نفسه: إنها تدوسني بقدميها! إنها تقف فوقي تماماً!
قال صديقه، كأنما يحادث شخصاً آخر: مَن ترك مكانه في الحلبة احتله الفراغ!
انتبه مفزوعاً وهو يردد: لست فراغاً، لست فراغاً أيتها السيدة الممتلئة بذاتها فلا تطلب إلا حاملاً للشال متى سقط عن كتفيها!

تهويمات
جلسا متجاورين في هدأة الصمت، مطمئنين إلى وحدتهما بعيداً عن عيون الشوك وألسنة الحريق.
حلّق طويلاً في سماء التمنيات، وعبثاً حاولت أن تلفته إلى أنها ليست مجرد أذن، وأنها حتى كمستعمة تحب أن تشارك في الجلسة.
حين يئست من احتمال أن يسمع فيفهم، اندفعت تسأله: أليس لك يد.. تعوّدتُ أن تهدهدني أمي على يديها حتى أنام!
لم يعرف بماذا يرد، وإن كان أطال النظر إلى ذراعيه القويتين.
لكنه بعد ساعات، كان يروي لصديقه المغامرة التي انتهت باكتشافه العظيم: لقد أرادت امتحان رجولتي، والتثبت من أنني أستطيع حملها كبيرة كما حملتها أمها صغيرة..
أما هي فكانت تبحث عمن يزيد طول يديه على طول لسانه!
* * *
تأملتْ صورتها في المرآة ملياً قبل أن تقول:
قلة من الرجال من يستحقون مثل هذا الجمال! الشعر حرير والعنق مرير، والشفتان حبتا كرز، والعينان فتحتان على فضاء الدنيا من أقصاها إلى الأقصى، والصدر، لهفي على الرمان، بل المانغو، بل التفاح، بل على المتعة مشطورة نصفين قد يلخصان ما فوقهما وما دونهما، أما الساقان فأعمدة رومانية، لا بل إغريقية، يأخذان إلى الغرق ولا يغرقان حتى في البحر المحيط!
لم يكن معها مَن يكذبها، ولا مَن يصادق على توصيفها بعد الامتحان، فعادت تحدث نفسها بقولها:
لكن الرجال بلا عيون! ومَن كان له نظر لا تستوقفه إلا المرتفعات ذات الثلوج والمنخفضات الحادة كوادي جهنم…
انتبهت إلى لفظة »جهنم« فأعجبتها، فعادت ترددها حتى أثملها الطرب.. ثم استفاقت من رحلة الوهم فنظرت إلى صورتها في المرآة ملياً وعادت تقول:
منذ متى صار كل الناس ملائكة؟! دائما كانوا يجيئون إليّ طلباً للجنة، ثم يغادرونني هرباً من الشيطان!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا يشبه رجل رجلاً، لا تشبه امرأة امرأة. قبل الحب تحسب الكل مثل الكل. كل الرجال رجل مثلك، كل النساء امرأة كالتي تطلب. عندما تعثر على امرأتك تنسى النساء، وتنسى معك كل الرجال، لتكونا من ثم النساء والرجال جميعاً. الحب يجعلك كثيراً ويجعلها كثيرة. الحب يجعلكما العالم كله!
طلال سلمان

Exit mobile version