طلال سلمان

هوامش

I ـ أحمد الحاج: يستمر “جندياً شهابياً” بعد الديبلوماسية
من الصعب أن تعرف اللواء أحمد الحاج من خارج انضباطه العسكري، ومن خارج التزامه الثابت بالرئيس الراحل فؤاد شهاب و”نهجه” الذي حاول به أن يرسي أسس الانتقال من “استقلال الدولة إلى دولة الاستقلال”. حتى بعد تقاعده وعودته إلى “الحياة المدنية” ما زال أحمد الحاج نموذجاً للالتزام بما نشأ عليه وعاش شبابه وكهولته فيه من رتبة ملازم حتى رتبة لواء.. بل لقد رافقه “الجندي” وهو سفير يجوب بعض أنحاء أوروبا وبالذات بريطانيا ذات التقاليد الملكية الصارمة وإيطاليا ذات الفوضى المحبّبة.
ولقد ارتبط اسم أحمد الحاج باسم الرئيس اللواء فؤاد شهاب، منذ اليوم الأول له في المدرسة الحربية إلى اليوم الأخير لذلك الرئيس الذي تميّز بأنه خاض التجربة الأكثر جدية لإصلاح النظام، ثم قضى يأساً من الإصلاح، وكاد يخرج من الرئاسة لولا الضغوط عليه ـ داخلياً وعربياً ـ ثم خرج من الحياة السياسية تماماً ببيان نعى فيه النظام الفريد غير القابل للإصلاح والتطوير!
تقديم الكتاب الذي يحمل عنوان “من الجندية إلى الديبلوماسية” للرئيس حسين الحسيني، أما الإهداء فإلى “رفيقة العمر هيفاء التي مشيت وإياها مسيرتي الطويلة يداً بيد وكتفاً بكتف، وإلى بناتي الثلاث غادة ومهى وسنا”.
يبدأ السفير اللواء سيرته من مسقط رأسه في “بعاصير” بإقليم الخروب، وقد جاء إليها أهله من “برجا”، أما الأصول فتعود إلى حلب… وهو يستذكر بالذات خاله حسن القعقور الذي يبدو أنه أثّر في طفولته.
مع نكبة فلسطين، وفي صيف 1948 تحديداً، تقدم لامتحانات القبول في الكلية الحربية ونجح، وكان عدد تلامذة الدورة 26 منهم 18 للجيش و8 لقوى الأمن. وكان ذلك اختياراً، بتأثير “النكبة” التي أطلقت موجة غضب واسعة في الأرض العربية جميعاً، والتظاهرات التي خرجت تنادي باستمرار الكفاح لرد الاحتلال.
… علماً أن اللواء يستذكر أنه بعد أن “تخرّج” من مدرسة برجا الرسمية التي كان يقصدها سيراً على قدميه، انتقل إلى “الإنترناشيونال كولدج” التي كانت جزءاً من الجامعة الأميركية، وكان تلامذتها خليطاً من أصول عربية وأجنبية، بأكثرية لبنانية، بينهم يهود من عائلات تبشطو، المغربي، سريانو، لاني، دويك، غليكسمان إلخ.
هائلة ذاكرة أحمد الحاج. إنه لا ينسى أحداً ولا يغفل شيئاً.. ولعل هذه الذاكرة واحدة من الكفاءات التي أهّلته لمهمات دقيقة، يشكّل بعضها جزءاً من أسرار الدولة في لبنان، في حين كتم المؤتمن على الأسرار كثيراً منها لأسباب مفهومة.
يسرد أحمد الحاج مراحل تدرجه في السلك العسكري والدورات التي شارك فيها وتنقل خلالها من سان ميكسان الفرنسية، إلى مدرسة الحروب الجبلية في المنطقة الكردية بشمال العراق.. قبل أن يوفده اللواء فؤاد شهاب، قائد الجيش آنذاك، إلى مدرسة الأركان في باريس لمدة سنة استعداداً لأن يسلمه المدرسة الحربية. ثم عاد فأوفده مرة أخرى إلى مدرسة الحرب العليا في باريس لسنتين.
يقرّر أحمد الحاج ما عرفه الناس، من بعد، أنه كان بين أقرب المقرّبين إلى اللواء فؤاد شهاب، الذي أخذه ـ بعدما تولى منصب رئاسة الجمهورية ـ إلى مقر الرئاسة في صربا، إذ إنه لم يقبل أن يقيم في القصر… وجعله واحداً من اثنين أو ثلاثة يمكن اعتبارهم من أمناء سره، وإن كان الحاج يتميّز عنهم بأنه عسكري ومدني ورقيب على الصحف وموفد خاص ورجل المهمات السرية.. ومن هنا اختياره عندما نزلت قوات الأسطول السادس في بيروت بعد ثورة العراق في 14 تموز 1958، ليكون ضابط ارتباط معها.
يروي أحمد الحاج أن فؤاد شهاب بعدما غدا رئيساً “كان يسلمنا أنا والياس سركيس مسودة كل خطاب باللغة الفرنسية وكنا نستعين بتقي الدين الصلح، صاحب الفكر النيّر والأسلوب الأنيق والبليغ لصياغته بالعربية”.
وقد تكون أبرز المحطات التي يرويها أحمد الحاج، بدقة متناهية، “الخيمة من صفيح” التي بُنيت على الحدود اللبنانية ـ السورية ليلتقي فيها الرئيس فؤاد شهاب مع رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر، يوم الأحد في 18 آذار 1959… بعدما رفض الحاج ـ بوصفه المندوب المفوض إعداد الترتيبات ـ العرض الأول بعقد اللقاء في مركز الجمارك السورية في جديدة يابوس، وأصر على عقده بالضبط على الحد الفاصل بين البلدين حتى لا يكون اتهام بأن شهاب قد فرّط بالسيادة ـ وقد دخل عبد الناصر ومعه وفده المكوّن من أكرم الحوراني وعبد الحميد السراج والسفير في بيروت عبد الحميد غالب من الجهة السورية، حتى لا يقال إنهم دخلوا لبنان، وجلسوا على كراسيّ في الأرض السورية، بينما جلس الوفد اللبناني داخل الأرض اللبنانية. وكانت ذريعة شهاب أنه، في العسكرية، هو الأعلى رتبة، فهو لواء بينما عبد الناصر بكباشي (أي عقيد).
يروي أحمد الحاج “مأساة” فؤاد شهاب من خلال تجربة إصلاح النظام المستعصي على الإصلاح، وبين فصولها استقالته من رئاسة الجمهورية واضطراره للعودة عنها، ثم محاولة الانقلاب التي قام بها القوميون السوريون… وصولاً إلى بيان اليأس.
مع خروج فؤاد شهاب من الرئاسة، ومجيء شارل حلو إليها اعتبر أحمد الحاج أنه قد أدى قسطه للعلى، وآن له أن يرتاح… فلما وصل سليمان فرنجية بأكثرية الصوت الواحد وخسارة الياس سركيس احتمال أن يكون “الوريث”، ارتضى اللواء أحمد الحاج أن يذهب ملحقاً عسكرياً في الأرجنتين، خصوصاً أن النية كانت متجهة إلى “محاسبة” كل الضباط الذين كانوا مقرّبين من فؤاد شهاب، ولا سيما “جماعة الشعبة الثانية”.
ولقد أمضى أحمد الحاج سنوات الوظيفة الرسمية الأخيرة سفيراً في بريطانيا وسفيراً غير مقيم في إيرلندا ثم سفيراً في المدينة الخالدة روما، وهناك حظي بمقابلة مع قداسة البابا.. أما بعد المسيرة الرسمية فقد أنشأ أحمد الحاج مع عدد من أصدقائه وزملائه “منتدى سفراء لبنان”، وكذلك “مؤسسة فؤاد شهاب”… كما صار يكتب مقالات دورية، وكانت أول مقالة كتبها بتحريض من الراحل الكبير غسان تويني بعد حفلة تحدٍ، ثم دأب على الكتابة في “النهار” بانتظام بعدما تقاعد من مهماته العسكرية.
في كتاب “من الجندية إلى الديبلوماسية” يحرص أحمد الحاج على ألا يكشف من أسرار المهمات التي انتدب إليها إلا المعروف… وهو لا يخفي ولاءه الدائم لفؤاد شهاب ومشروعه، حتى وهو يظهر إعجابه بالرئيس الراحل رفيق الحريري.
وهو قد مرّ عابراً على مرحلة توليه قيادة قوات الردع العربية التي سرعان ما صارت سورية بالكامل، في بداية عهد سركيس، والتي كانت مهمتها تأمين الوقف الكامل لفصول الحرب الأهلية.. وهو ما لم يتحقق، وربما لهذا غادر أحمد الحاج الموقع.. ثم لبنان كله الى العمل الديبلوماسي.
لقد روى ما قرّر أن يرويه، وليس كل ما يعرفه… فالولاء للقائد متصل حتى بعد وفاته، وأحمد الحاج الجندي ما زال في غاية الانضباط.. ولعل هذا العسكري المنضبط فضّل أن تموت بعض الأسرار معه لأن اعلانها قد يؤذي أكثر مما يفيد.

IIـ محمد بركات: “والد” الأيتام بالإرادة والعلم و… الشعر!
لكأنه وُلد ليكون ما كانه فعلاً على امتداد واحد وخمسين عاماً: والداً وراعياً وحاضناً، بالرغبة والقرار، للأيتام جميعاً.
ربما لهذا لا يبدو العنوان الذي اختاره محمد بركات لكتابه “إرادة بلا هوادة” تفخيماً أو تعظيماً بقدر ما هو توصيف للرجل الذي ابتدع لدار الأيتام، كمؤسسة خدمة إنسانية جليلة، مجموعة من الشعارات التي كسرت الشعور بالإشفاق الذي يلازم ـ عادة ـ الحديث عن الأيتام.
وبالتأكيد فإنه لم يكن في بال الحاج صالح بركات، التاجر المقترب بتهيّب من الصناعة، أن ينصرف نجله الذي تخصص في علم الإدارة في ألمانيا، ثم نال دبلوم الدراسات العليا في الاجتماع والتاريخ من جامعة القديس يوسف في بيروت، إلى مجال رعاية الأيتام… وهي لم تكن، وليست مهنة في أي حال.
كذلك، لم تكن هذه المؤسسة في بال الشاب الممتلئ حماسة والذي وجد في جمال عبد الناصر بطل الأمة فاندفع إلى الالتزام السياسي في حركة القوميين العرب.
ولقد تربّع محمد بركات فوق إدارة دار الأيتام لمدة نصف قرن أو يزيد قليلاً، وانتقل بها من حال من البؤس وشح التبرعات والمساعدات إلى مؤسسة ذات سمعة عربية ودولية، اكتسبتها من خلال تطويرها منهجاً وأسلوب رعاية وابتداعاً لِما يُسقط الإشفاق عن المنتمين إليها من الأيتام، ليحل محله الإعجاب بما وصلوا إليه وما يمكن أن يحققوه ضماناً لمستقبلهم.
وحين تولى محمد بركات إدارة دار الأيتام طالب براتبين في الشهر: “الأول مقابل عملي والثاني تعويض عمّا سيلحق بسمعتي من أذى”.. ذلك أن معظم الذين تولوا دور الأيتام والأوقاف والكثير من الجمعيات الخيرية قد لاكت الألسن سمعتهم وتناولتهم الشائعات المغرضة في ذمتهم.
يروي محمد بركات في جملة ما يرويه، حكاية اللقيط الذي ظلت دعواه عالقة في المحاكم لمدة 17 عاماً، حتى نجح في أن ينتزع له الحكم بحقه في الجنسية.
يمكن أن نطلق على محمد بركات لقب “النقّاش”، فهو قد نقش مجموعة من الشعارات والملصقات التي كادت “تزين” اليتم، من نوع: “دار الأيتام للأحلام.. لا للآلام” و”الخير عالم من الأخيار”. وكانت هذه الشعارات مع رسومها الجميلة تملأ شوارع بيروت عشية الأعياد. وبالمقابل فقد أنتج بالتعاون مع بعض الشعراء والملحنين، لعل أبرزهم أحمد قعبور، عدداً من الأغنيات والاسكتشات التي كان الأيتام يقدمونها في الحفل السنوي، فتزيد من ثقتهم بأنفسهم، وتحرك المشاعر الإنسانية وإرادة الخير التي تحمي دار الأيتام وتساعد على تطويرها لتقدم خدمة أفضل.
ولقد كتب محمد بركات كثيراً من المقالات والموضوعات الفكرية والسياسية.
ويروي محمد بركات واقع دار الأيتام حين تولى زمامها: فقد كانت خالية من المزروعات والأزهار، ليس فيها إلا أشجار الكزورينا، فرزع ما يبهج، بعدما حصل على ثلاثمئة ليرة من عبد البديع سربيه. لكن الأطفال فرحوا بها إلى حد اقتلاعها ليحتفظ كل منهم ببعضها، فزرعها مرة أخرى حتى اعتاد الأطفال على جمال منظر المكان الذي يسكنون فيه فصاروا يرعونها معه.
كذلك فهو قد نظّم 45 ندوة ومؤتمراً وطنياً وعربياً في الرعاية والعمل التطوعي، وكتب عشرات الأبحاث… “إرادة بلا هوادة” عنوان حصيلة جهود نصف قرن في العمل الاجتماعي العام وفي تحويل دار الأيتام إلى مؤسسة تساهم في بناء هؤلاء الذين حرمتهم أيامهم من آبائهم والأمهات، وتفتح أمامهم باباً من نور إلى المستقبل.
ونحن في انتظار السيرة الكاملة لمحمد بركات التي يقول إنها ستكون أشبه بالملحمة.

III ـ تهويمات/ السماعة ديوانا
كتبت إليه تقول:
ـ أشتاقك طيفاً، أشتاقك حلماً، أشتاقك موعداً، أشتاقك لقاءً، أشتاقك نظرة مختلسة، وأشتاق عينيك مدى مفتوحاً لحب بلا نهاية.
أسكرته الكلمات فغاب مع التمني حتى انتبه إلى رنين الهاتف، رفع السماعة فجاءه صوتها غناء فسافر إلى النشوة حتى أنه لم ينتبه إلى الرنين المتقطع يشير إلى انتهاء المكالمة.
احتار كيف يرد التحية، فلا صوته يطرب، ولا الهاتف موصل جيد للحرارة، ولا هو قادر على الطيران إلى حيث يجمّد الثلج الشوق، وهي ترصد العيون والأجهزة نبضات القلب وهمسات الحنين.
لم يتبق إلا الكتابة، فأخذ ورقة بيضاء وكتب برقية من خمس كلمات: «كفّي عن تعذيبي وإلا تزوجتك..»
بعدها صارت سماعة الهاتف ديوان الحب مفتوحاً على الشعر والغناء، وفي الخلفية قرع طبول.

IV ـ من أقوال نسمة
قال لي “نسمة” الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يحوّلني حبيبي بسحره إلى شاعر برغم جهلي باللغة، وإلى مطرب برغم غربة صوتي عن اللحن، وإلى رسام برغم أنني أخطئ في قراءة الألوان.
آه، الحب. إنه يمنحني، ولو وهماً، مواهب كثيرة، أفرح بها في الفاصل بين لقاءين.

Exit mobile version