طلال سلمان

هوامش

I مصر “فوق الصعب ماشيه”.. نحو غدها الأفضل
قبل ثلث قرن، تقريباً، بشّرنا الشاعر الشعبي المصري أحمد فؤاد نجم بصوت مطرب الوجدان الوطني الشيخ إمام، أن مصر عائدة إلى ذاتها وإلى دورها الذي يشكل ركيزة النهوض العربي:
كتب نجم وغنّى الشيخ إمام، وغنّى معه في البدايات شباب مصر ثم شباب الأمة العربية جميعاً:
“مصر يا أمه، يا بهية… يا أم طرحه وجلابيه
“الزمن شاب وانتِ شابه… هو رايح وانتِ جايه
“جايه فوق الصعب ماشيه… فات عليك ليل وميه
“واحتمالك هوه هوه… وابتسامتك هي هي”
ولأن “الصبر طيب” ولأن حركة بلاد بحجم مصر بطيئة، ولأن التغيير ثورة تحتاج أهلها، فقد مرت السنوات ثقيلة الوطأة على مصر وشعبها. كاد يدمرها الطغيان بعدما عمّ الفساد والإفساد حتى خيّل إلى الشعوب العربية أن مصر قد استكانت للحكم الدكتاتوري الذي قمع شعبها وشتت نخبها في المهاجر و”المقاهر” أو المنافي، وشحبت الآمال في ثورة تغير الواقع المزري الذي غيّب مصر عن دورها الذي لا غنى عنه ولا بديل منه، وأهان كرامتها أمام العدو الإسرائيلي وأخضعها للهيمنة الأميركية، وأقطع أرضها ومواردها لعصبته من النهّابين والسماسرة.
… إلى أن جاءت انتفاضة تونس في الأيام الأخيرة من العام 2010، والتي كانت شرارتها إقدام المواطن محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجاً على ظلم طاغية بلاده زين العابدين بن علي وطغمة الفساد المحيطة به والتي تتزعمها زوجته وأقاربها وأعوانها.
وكأن مصر كانت تنتظر الشرارة، فما هي إلا أسابيع قليلة حتى انفجرت بالثورة وامتلأ “الميدان” بالشباب الطامح إلى التغيير الجذري: إسقاط نظام الطغيان واستعادة مصر واستنقاذ قرارها من أيدي أعداء حاضرها ومستقبلها.
لكن الميدان أرض لقاء بين الثوار، أما التغيير فله شروطه، إذ لا بد للحشد من قيادة ومن برنامج يتجاوز محاسبة الطغيان إلى تحديد صورة المستقبل والطريق إليه في السياسة كما في الاقتصاد والاجتماع.
ولأن شباب الميدان لم يكونوا حزباً أو جبهة لها برنامجها للتغيير بقوة الزخم الثوري والاهتياج الشعبي، مع الوعي بالظروف المحيطة، عربياً وإسرائيلياً وأميركياً…
… ولأن نظام الطغيان كان ذكياً بما يكفي فقد لجأ إلى الخديعة المألوفة: حاول افتداء ذاته، أي مؤسساته ودورة الفساد والإفساد والتخريب المنهجي للاقتصاد، والنهب المنظم لثروة البلاد، برأسه ممثلاً برئيس الدولة وبعض معاونيه… مجتهداً لأن يمنع المحاكمة السريعة والعقاب الرادع، ومتوسلاً “الحيل الدستورية” لكي يمد في الفترة الانتقالية، بما يضمن تفرق شباب الميدان أيدي سبأ بعد اختلافهم حول الأولويات…
… ولأن “الإسلاميين” كانوا القوة المنظمة الأساسية، سواء “الإخوان” منهم أو “السلفيون”، فقد عقدوا حلفاً شيطانيا مع العسكر على مصادرة الثورة بالتواطؤ على تقاسم السلطة. وهكذا تم “التعديل الدستوري” في ما يشبه الخلسة، ثم أرجئت الانتخابات بما يكفي ليجهّز الإسلاميون عدتهم للفوز بأكثرية المجلسين (النيابي والشورى)، وميّعت محاكمة الرئيس المخلوع حتى كاد الناس ينسونه مع ابنيه.
فلما أزف الموعد (المتفق عليه بين العسكر والإخوان) للانتخابات الرئاسية كان الطرفان جاهزين: دفع الإخوان بمرشحهم ودفع النظام الساقط بمرشحه، ولكل منهما قوى دعم مادية وسياسية هائلة، فكان بديهياً أن يحصد كل منهما بضعة ملايين من الأصوات تكفي ليكونا المتنافسين الوحيدين على رئاسة “العهد الجديد”.
على أن “الميدان” الذي تنبّه متأخراً لما يدبر له فقد أثبت أنه ما زال حاضراً، وقادراً على الحشد، وهكذا وفّر للمرشح الناصري حمدين صباحي، رافع شعارات العروبة وقضيتها المقدسة فلسطين، المناضل من أجل حقوق العمال والفلاحين والفقراء إجمالاً، وعودة مصر إلى دورها القومي الذي لا بديل منها فيه، بضعة ملايين من الأصوات بحيث حل ثالثاً.
وكان يمكن أن تختلف النتيجة لو أن شباب الميدان تلاقوا من قبل على قاعدة برنامج واضح للتغيير، ودخلوا المعركة، بمرشح واحد، بدل أن يبعثروا أصواتهم على مرشحين عدة، مع وعيهم بأن حمدين صباحي هو الأكثر أهلية للفوز، فتاريخه النضالي يشهد له… وهو كان في الميدان من قبل أن تنزل إليه ملايين المُغضبين الساعين للتغيير.
في أي حال، فالميدان ما زال مفتوحاً… ولقد ضاعت فرص عدة خلال الثمانية عشر شهراً الماضية، لكن ما زال متاحاً استنقاذ بعض أهداف الثورة من خلال المعارضة، والضغط بالميدان، على “الرئيس” الذي سيخرج من المعركة مثقلاً بالوعود والتعهدات التي لن يلتزم بها، قطعاً، لأنها تخالف نهجه وما نشأ عليه وما مارسه فعلاً.
والكفاح دوار…
[ [ [
هتف صديقي من القاهرة وفي صوته رنّة حزن: لقد خسرنا الانتخابات، لكنني أحب أن أفترض أننا قد ربحنا مصر. لقد أكد الشعب هويته، وأثبت أن العروبة ليست طارئة أو وافدة على مصر، بل أصيلة فيها وراسخة…
قلت محاولاً التخفيف عنه: لكننا لم نشك لحظة في عروبة مصر. قد يكون المصريون الأقل كلاماً عن العروبة، وقد لا يجد قارئ التصريحات السياسية أو حتى افتتاحيات الصحف أو أبحاث الدارسين استخداماً واسعاً للتعابير الخطابية التي درجت عليها “أدبيات المشارق” فطغت حتى استهلكت، لكن من يعرف مصر فعلاً يدرك أن العروبة في وجدانها.
بعد أيام التقينا، فاستأنفنا النقاش. قال الصديق كمن يحاسب نفسه على خطأ ارتكبه: لقد أضعنا سنة غنية بالتحرك الشعبي في جدل بيزنطي بينما كان خصومنا يستعدون للمعركة الحاسمة. كنا نجادلهم حول الإسلام السياسي، ونكتب المطولات في التشهير بدكتاتورية النظام الفاسد الذي أسقطه الميدان، لكننا غفلنا عن تنظيم أنفسنا، وشغلتنا الخلافات التفصيلية عن التلاقي على برنامج موحد أو حتى مشترك لمواجهة خصومنا الأقوياء. تهنا في جدل لا ينتهي حول البديهيات بينما كان الإسلاميون وأهل النظام القديم يستعدون متنبهين لأدق التفاصيل الانتخابية. كانوا يتصرفون مدركين أنهم ليسوا الأكثرية، فيحشدون مناصريهم ويتواصلون مع الكتلة المهمة من مصريي الخارج. بل إنهم كانوا يملكون كشوفاً بأمكنة وجود كل ناخب، وكان لهم “ضباط ارتباط” يجولون بينهم، يستكملون أي نقص في أوراقهم، ويوصلون منشوراتهم وتعليماتهم إلى كل فرد منهم.
قلت محاولاً التخفيف عنه: ولكنها المعركة الأولى في مناخ طبيعي…
قال وقد غلبه الشجن: أضعنا أربعة عشر شهراً عبثاً، بينما لكل ساعة مهماتها. لم ننتبه إلى قوة خصومنا، ربما غرتنا الحشود التي تلاقت في الميدان. ربما اعتبرنا أن جماهير الميدان هي كتلة واحدة ستتقدم وصفوفها متراصة نحو صناديق الاقتراع فتحول هتافاتها الثورية إلى أصوات، فننتصر ونرفع عقيرتنا بأناشيد الفخر بينما ينزوي خصومنا في قعر الهزيمة مقهورين…
قلت في محاولة للعودة إلى أصل الموضوع: ولكن تأكيد عروبة مصر، وهي مؤكدة أصلاً، هو نصر سياسي مهم، في هذه اللحظة. إن كثيراً ممّن كانوا قياديين في أحزاب وتنظيمات عروبية الشعار، عندنا في المشرق، قد ارتدوا إلى كيانية فيها ملامح شبه إسرائيلية. كذلك فإن العديد من عروبيي الماضي قد هجروها مع أول عرض تلقوه للمشاركة في سلطة كانوا يتهمونها بالطائفية أو حتى بالمذهبية.
قال بنبرة عتب: وهل كان لديك شك في عروبة المصريين؟
دفعت التهمة عن نفسي فقلت متعجلاً: أعوذ بالله. أعرف أن المصريين لا يكثرون من الحديث عن العروبة لأنهم يعتبرون انتماءهم إليها من البديهيات…
هزّ رأسه موافقاً، وأكملت فرويت له واقعة طريفة.. قلت:
ـ ذات يوم في القاهرة ركبت مع صديق فلسطيني يفضل أسلوب الاستفزاز في المناقشة، سيارة أجرة. وانطلق السائق يجاملنا وقد أدرك أننا من خارج مصر. فجأة طرح عليه الصديق سؤالاً مباشراً: أنت عربي أو أنك مسلم؟! ارتبك السائق للحظة ثم جاءنا جوابه المفحم: ـ لا مؤاخذة يا سعادة البيه.. هو النبي محمد كان إيه؟!
رد الصديق مكملاً استفزازه: وأين دور النبي في سؤالي؟!
قال السائق: سيادتك لا مؤاخذة، نسيت أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي ابن عربي؟!
والتفت إليّ الصديق قائلاً: لقد أفحمني هذا الإنسان الطيب!
[ [ [
عاد الصديق إلى الكلام، فقال وفي صوته رنة أسى: لقد خسرنا معركة كان بإمكاننا أن نربحها. أنت عرفت مصر، قبل النكسة وبعدها. كنت تزورنا في بيوتنا وفي مكاتبنا. لطالما جلست إلينا في مقاهينا المختارة. ولطالما شاركت مع “الحرافيش” في جلساتهم الأسبوعية، كل خميس، تحت لواء أديبنا العظيم نجيب محفوظ. بل لطالما دخلت في مناقشات حارة مع كبار الأدباء ومنهم توفيق الحكيم والحسين فوزي والشاعر صلاح عبد الناصر والكاتب الكبير إحسان عبد القدوس والناقد رجاء النقاش. وأنك كنت تحترم عقلانية أحمد بهاء الدين، وأعرف أنك حاورت أستاذنا هيكل، وأنك “عاركت” الأستاذين مصطفى وعلي أمين.. وربطتك صداقة عميقة مع العديد من رسامي الكاريكاتور وبينهم صلاح جاهين وبهجت عثمان وأحمد حجازي وجورج البهجوري فضلاً عن رسامين كبار مثل أبو العينين وحلمي التوني وجمال كامل والنحات العظيم آدم حنين.. لقد عرفت مصر جيداً، وذهبنا معاً إلى الريف وإلى الصعيد حيث ادعيت أن أهلها “بعلبكيون” مثلك… وبالتالي فإن عروبة مصر خارج النقاش…
قلت: نحن المشارقة خطابيون في السياسة، أما أنتم في مصر فلا تغرقون في مناقشة البديهيات.. وبالتالي فالنعرة الفرعونية، والتطلع إلى التنكر للهوية بالتطلع إلى أوروبا، وكذلك الزعم بأن مصر أمة تامة هويتها من ذاتها لا هي عربية ولا غربية، فأعرق دولة على وجه الأرض لا تستعير هويتها من غيرها.. كل ذلك من الادعاءات والمزاعم التي قد تلزم في المجادلات السياسية ولكنها لا تصمد أمام الحقائق الثابتة في الوجدان كما في الأرض.
وختم الصديق النقاش بكلمات يظللها الحزن: لكنها فرصة ثمينة ضاعت منا… وقد تتعرض مصر لمحنة قاسية سواء وصل إلى سدة الرئاسة الإخواني الذي ينثر الوعود “العلمانية” بلا حساب، ويحاول استدراجنا إلى التحالف من موقع الشريك الصغير ليغطي تعصبه وربما “جاهليته” بنا، في حين يزايد عليه مرشح النظام المخلوع في ادعاء الإيمان بالديموقراطية وبالشراكة في المسؤولية.
وعدت إلى أحمد نجم والشيخ إمام و”مصر يا أمه يا بهية” التي سوف تجيء “فوق الصعب ماشيه” وإن طال السفر…
[ [ [

II عرفان نظام الدين الهارب إلى الحب
يرفض زميلنا الكاتب السياسي المعروف عرفان نظام الدين أن يهجر حرفة الأدب، والأخطر: أنه يرفض الاعتراف بأن شبابنا قد غدا خلفنا، ولذلك فهو يحرص على استعادته في ما يشبه الشعر، هارباً إليه من أخبار الفجائع والمآسي القومية التي تستنفد ما تبقى من أعمارنا.
وهو يكتب نثره الشعري أو شعره النثري في الوقت الفاصل بين مقابلة ملك ولقاء مع رئيس، أو مواجهة مع مسؤول أجنبي.
ولقد “ارتكب” من قبل، جريمة التأليف، فنشر “آخر كلمات نزار” عن الشاعر الكبير نزار قباني، ثم كتب “حرب الخليج وجذور المحنة العربية” التي تكاتفت غصونها حتى حجبت غدنا وهويتنا، وكذلك “ذكريات وأسرار 40 عاماً في الإعلام والسياسة”.
مع ذلك أو بسبب من ذلك يهرب عرفان إلى ما يفترض أنه الشعر وهو، في حقيقة الأمر تعبير عن شعوره.. وهكذا فقد أصدر “ديوانه” بعنوان “خلجات قلب”، ثم أعاد إصدار الطبعة الثانية منه.
وهو قد أهدى “الديوان” “إلى رفيقة حبي وشريكة أحلامي وصديقة حياتي وحبيبة عمري وملكة ذكرياتي”، تاركاً لمن يقرأ الإهداء أن يقدر حجم الخطايا التي ارتكبها ثم جاء يكفر عنها عرفان.
يقول الكاتب الذي تعوّد من يتابعه أن يقرأ له في السياسة:
“في البدء كان الحب/ ثم كانت كلمة أحبك تلك الكلمة السحرية التي وحدت كل اللغات في قواميس العالم واختصرت السعادة بكلمة واحدة”
وفي قصيدة “كل عام وأنت عيدي” يقول:
“كلما أشرقت الشمس تذكرت يوم ولادتك في حضن قلبي، وراحة رأسك على صدري واستمتعت بدفء إشعاعك يا أخت الشمس والقمر”
أما في خاطرة “عطر الربيع” فيقول:
“لم أعشق كائناً كالفراشة أنا الذي أمضيت عمري في التأمل في قدرة الخالق وروعة إبداعه.. وعندما رأيتك وجدت كل فراشات الدنيا مجتمعة في حسنك”
وفي “أين المفر” يطلب اللجوء:
“لقد تعبت من السفر والتسكع في مطارات الانتظار/ فلا تبخلي عليّ بتأشيرة دخول/ وإقامة دائمة في أراضي قلبك ولجوء عاطفي إلى دولة حبك”.
مبروكة قدرتك على الحب أيها الزميل الذي نجح في أن يهرب من المستنقع السياسي إلى حيث يمكن التعويض عما فات من مباهج الكلمات الخضراء.

III من أقوال نسمة
قال لي “نسمة” الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب متعب! إنه يأخذك إلى النشوة فتنسى همومك، وحين تنتبه تخاف من الحب وعليه فإذا همومك أثقل.
ليس عدلاً أن يكون الحب للمترفين، فعش حبك لأنه يجعلك أقوى وأقدر على مواجهة الصعب.

Exit mobile version