طلال سلمان

هوامش

ـ يوسف الخطيب يغادر منبره الذي غادر زمانه…
بح صوت الشاعر وبهتت كلمات النشيد الذي كان يدوّي في الشارع المزدحم بهتاف الآمال العراض يطلقها الملايين الذين ضاق عليهم الحاضر قبل أن ينجحوا في مغادرة الماضي فارتبكت خطواتهم نحو المستقبل وصار الشعار هو الطريق.
يوسف الخطيب غادر منبره الذي كان صاخباً وانطوى على زمانه الذي كان وانقضى، واستقر في عالم الصمت، هو الذي كان يقاتل بصوته العريض وأبياته المدوّية حماسة، وأحلامه التي كانت ترتسم أمامه شخوصاً ومواقع وساحات فينسج منها قصائده قبل أن تفلت منه عائدة إلى خياله البلا حدود.
عاش يوسف الخطيب بعد زمان شعره، فبات غريباً، لا هو يريد الانتماء إلى «الواقع»، ولا مكان له إذا ظل يحمل وجهه ذاته وإذا ظلت روحه المتسامية في أفقها العالي.
صار غريبا هذا الذي كان يعرفه من لم يره، ويردد شعره من لم يعرفه، ويأخذ ديوانه مكان الصدر في المكتبة الصغيرة للفتية والفتيان الذين أحبوا في الأمة مستقبلهم وفي الوحدة طريقهم إليها، وفي «القائد» فارسهم الأقوى من أي انكسار.
سيسأل كثيرون: ومن يوسف الخطيب؟ وأين شعره من هتافات الميادين وزجليات الانتفاضات التي يستولدها دهر القمع بالشعار الذي جعله شاعراً وكاد يجعله مقاتلاً، ثم اكتفى بأن جلس في ماضيه حتى لا يغترب عن ذاته.
والحقيقة أن يوسف الخطيب قد علق في ذلك الفخ الذي نصبته الهزيمة لكل الذين سحبهم تيار الوحدة إلى الشارع، فلما افترق «الحزب» عن «القائد» وصار «التحرر» منه شرط حياة «للرسالة الخالدة» صار إسقاط العلم هو القضية حتى لا ينكشف المهزوم.
من باب الاستذكار، لتأكيد الود الشخصي وليس بقصد «الانتقام» المتأخر من صديق أخذه الافتراق السياسي إلى الخصومة، أستعيد الواقعة الآتية:
ذات صيف في أوائل السبعينيات، دعاني الزميل الأديب الذي غادرنا باكرا رياض فاخوري إلى منزله في بيت شباب. ذهبت وزوجتي ومعنا الزميل الكبير مصطفى الحسيني الذي كان في زيارة صداقة.
كانت القرية ذات الرأس الأحمر وشبابيك الورد تمد عرائشها طريقاً إلى بيت مضيفنا. وكان علينا أن نصرف وقتا في الاستمتاع بألوان الجمال الذي يطالعك في الدروب المزهرة كما في الشبابيك حاملة أصص العطر والحبق تظللها شجيرات الياسمين ولفتات الترحيب في عيون العابرين الذين كانوا يستنتجون على الفور إلى أين نقصد فيتخذون صفة الأدلاء لتوكيد الترحيب.
إلى شرفة الورد قادنا رياض وعروسه لنجد يوسف الخطيب قد سبقنا. كانت الأسماء تقدم تاريخ أصحابها وهوياتهم السياسية. وجرى الحديث أليفاً، ثم أضاف العرق البلدي شيئاً من الود، قبل أن يصعد بخاره إلى الرؤوس مستدرجاً التعارض السياسي.
وعلى غير توقع استعاد يوسف الخطيب بعثيته ليتهم القيادة المصرية بالمسؤولية عن الانفصال وتدمير حلم الوحدة. ولم يكن في ذلك ما يحرج كثيراً «الشيوعي» في مصرية مصطفى الحسيني. لكن يوسف الخطيب الذي كان العرق قد سيطر على أفكاره وحركات يديه وقدرة لسانه على التعبير، وجد في مصطفى شخصياً هادم أحلامه الشخصية والوطنية والقومية. وهكذا اندفع يطلق الشتائم ضد المصريين بلسان متلجلج وعصبية بالغة.
ولأنني أعرف مصطفى جيداً فقد أدركت ان الخلاف سيتحول عراكاً بل قتالاً مفتوحاً… وبالفعل، فوجئنا جميعا وقد صار مصطفى الحسيني فوق الطاولة والسكين في يده، وقد تهاوت الصحون والكؤوس أرضاً، وصرخت النساء، بينما رياض وأنا نحاول عبثاً إبعاده عن يوسف الذي بوغت فانزوى مرعوباً وقد أكمد وجهه وغاصت عيناه في محجريهما.
بعد جهود مضنية، استطعنا إنزال مصطفى الحسيني عن الطاولة وانتزاع السكين من يده… بينما سحبت النساء يوسف إلى الحمام ليغسل آراءه التي اختفى منها «البعث» لتتكشف الشوفينية كالحة كليل بلا نجوم.
سيمضي زمن طويل قبل أن ألتقي يوسف الخطيب مجدداً، في دمشق. ولم تكن لدى أي منا رغبة في استذكار تلك الواقعة المخجلة. لكن يوسفَ همس في أذني وأنا أودعه: أرجو أن تكون قد نسيت.
قلت مبتسماً: علمني مصطفى الحسيني حكمة تقول ان للصديق على صديقه ثلاثة حقوق أولها الحق في سكره… ولقد مارست هذا الحق، ولكنني أتمنى ألا تمارسه مرة اخرى، فضلاً عن ان «الحقين» الآخرين لا ينطبقان عليك.
ليست حميدة صفة «الحزبي السابق». فكثير من الأصدقاء الذين كانوا حزبيين سابقين صاروا لاحقا إلى أحوال لا تسر العدو.. فكيف بالمحبين.
رحم الله يوسف الخطيب الشاعر وغفر له ولنا أخطاءنا الكثيرة.
ـ عن مقدمات ما قبل إعلان الفرح
جاءت بشائر الفرح من البعيد البعيد. همست بها النساء للنساء عبر الهواتف المخصصة للأسرار، قبل أن تصل إلى الرجال خبرا مؤكداً يشيع السعادة في محيط الأصدقاء الذين سيأخذهم أبناؤهم إلى دوحة التشابك بالأنساب.
لكن للترخيص بالفرح أصوله التي تنبع منها أسئلة لا تنتهي: متى، وأين، وكيف، ومن يذهب في المقدمة، وماذا عليه أن يقول، وكيف يكون التصرف بعد انتهاء الكلام المستعاد من بطن التقاليد العتيقة؟!
عممت التعليمات على أفراد القبيلة، مع التشديد على الانضباط والتقيد الحرفي بالمواعيد وتراتبية الجلوس وتوقيت لحظات التصفيق (للرجال) والزغردة (للنساء) والمدى الزمني للقاء الخ..
ما زالت التقاليد الموروثة أقوى من شهادات الكفاءة العالية، تضغط على المشاعر العفوية فتمنع تفجر المكان بالفرح المدوّي.
دخلنا البيت المشع سعادة متهيبين، على الصداقة أن تخلي مكانها الآن للواجب. وعلى «الكلام» أن ينتظر اكتمال وصول الفريقين وانتظام الجلوس. كان الشركاء في الفرح في حالة ارتباك، كما لو انهم يلتقون لأول مرة ويدخلون معاً إلى امتحان في مراعاة الأصول.
الوجوه تشع نضارة وحبوراً وان خالطها بعض الخجل الكاشف نقص التجربة، برغم الخزين الموروث للعاملين الذين تركوا الكثير من تقاليدهم في البلدات التي جعلتها المواجهة مع الاحتلال عواصم للجهاد، في حين حبس البعلبكيون هيصات حماستهم التي يصعب إطلاقها في قلب شقة في بناية متعددة الطبقات، متنوعة السكان، في حي مزدحم بالعمارات المتوازية ارتفاعاً والحرس الذي يتفحص الفراشات المحومة حول قناديل النور في الشارع ليتأكد من أنها لا تحمل جراثيم الخطر على الحصن المجاور.
الصالة بستان من الورود يضفي بمهرجان الألوان بهجة غامرة على المتوافدين الذين يدخلون تسبقهم كلمات التهاني وقبلات التبريك.
لا بد من فاتحة لكي تنقلب رهبة اللقاء الرسمي التي يخالطها شيء من الفضول، إلى فرصة لتفجر الفرح زغاريد مغلولة بشروط التمدن. يحتاج الفرح إلى فضاء مفتوح.
يغرق الجمع الذي صار الآن كوكبة من الأقارب بالعروسين، شرعاً، في موجة من القبلات التي تثبت صلة الرحم العتيدة… ثم يفترقون على موعد للقاء حيث يمكن إسقاط الرسميات بغير حرج.
[[[
انتظم المدعوون بملابس البهجة صفوفاً في الصالة التي سوف تضيق بفرحتهم قبل اكتمال عقدهم. توالت المصافحات والمعانقات حتى تعب المصورون. في البدء كان الكل يراقب الكل. وكان بعض النسوة يتغامزن عند مرور الصبايا الآتيات في طلب العدوى من العروس. وفي حين انصرف الكهول يكملون أحاديثهم السياسية المفتوحة منذ دهر فقد أنشأ الشباب والصبايا شبكات تواصل مباشرة، ومشى بعضهم إلى بعض أمام عيون الأهل الذين استقدمتهم الألفة والرغبة في مشاركة الانسباء والأصدقاء هذه اللحظات الحميمة.
ما زال للفرح متسع، في وطن الحروب الأهلية. والذين يرفعون هاماتهم بفخر الانتصار على الحرب الاسرائيلية لا يهدرون لحظة واحدة من أعمارهم الجديدة التي استحقوها بشرف الصمود. يعرفون كيف يشربون ماء الحياة ابتسامات وضحكات صافية وقبلات ود، في حين يتغامز عرسان المستقبل ويتقاربون في ظلال عيون الأهل التي تحيطهم بهالات من الحنان.
الطعام مهمة ثقيلة، ولكن لا بد منه، مع أن الموسيقى الخفيفة ترخي جواً ناعماً يأخذ إلى الرقص. فلنفرغ الصحون بسرعة، إذن، ولترتفع الصيحات تطالب العروسين بالنزول إلى الحلبة.
في ظلال الموسيقى ارتفعت العروس لتداني وجه عملاقها الذي تعلم أن يحب الحياة، وأن ينتقل من نجاح إلى نجاح بغير أن ينتفخ بالزهو. لم يكن عليه أن يخوض امتحان الجدارة. من لم يعرفه سمع عنه ما يكفي لكي يسعى إلى التعرف إليه.. عن بعد!
صدرت عن الجمع همهمات التبريك وهم يتأملون هذا التلاقي بالمصادفة بين الذين كانوا تلاقوا بالقصد في المواقف، وان تمايزت الساحات.
فاضت روح الشباب حتى غمرت الجميع، فأحاطوا بالعروسين يشربون قطرات من السعادة، بينما يهتز الكل على إيقاع النغمات الراقصة، ويتطاول الشباب لكي يقاربوا «العملاق» فينحني لهم كمن يهامسهم، في حين انه لا يستمع إلا إلى همسات هذه التي صار معها واحداً، فهي منه وهو منها، والكل شهود فرح.
اختلط الآباء والأمهات، الصبايا والشباب، وهم يحيطون بالعروسين ليستمدوا منهما شيئاً من سعادة التلاقي من فوق البعد ومباشرة بناء المستقبل بالإرادة… ونشر الحب مظلته فوق تلك القاعة التي تخففت من أحاديث لقاءات الصفقات والمكائد والمساومات السياسية.
صار العروسان نجمتين مشعتين. وسرى في الجمع شعور بالغبطة يداني الخدر. للفرح نشوة تستولد حباً عميقاً للحياة وللآخرين.
[[[
هبط الحب على الجميع بمظلة الفرح. كنا فرادى يهرب كل بهمومه بعيداً عن الآخرين. والوحدة ولادة شكوك بالذات وبالآخر، تجعلك حذراً، والحذر يستدرج الريبة، والريبة غرق في الغربة، والغربة عزلة، والعزلة سور من الخوف يحاصرك في قوقعة الوحدة.
إياك أن تدع الحب يغادرك يأساً منك. إياك أن تؤلم الحب بعزل نفسك داخل أوهام قاتلة ليقينك وإيمانك بأن الناس حضن مفتوح لك. كيف يعيش واحدنا حياته في قلب الخوف من مصدر الطمأنينة؟ كيف تكون إنساناً وأنت تهرب من وجهك وعينيك حتى لا تكتشف أنك تغير ذاتك، بالقهر، حتى لا تكون أنت؟ كيف تهرب من الأصل إلى الشبيه المستولد من الخرافة؟!
من أين يجيء الشجن ليفسد مهرجان الفرح؟
هيا تقدم إلى مراقصة العروسين، واستقدم الأهل الذين يعيشون التجربة الأولى فيتهيبون الفرح… حرصاً على أن يدوم ويمتد أعماراً، وشكراً لأبنائنا الذين يجددون علاقتنا بالحياة.
(إلى طلال وكارين)
[[[
ـ من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ على الحب أحياناً أن يسحب إنساناً من شعره إلى جنته. البعض يقتل حبه خوفاً من أعباء الحب، والبعض يربح حياته بالقفز إلى الحب من فوق المشكلات والهموم والأعباء والوشايات الآخذة إلى البغض.
الحب الحياة.. كيف تكون لك حياة وأنت تقاتل حبك؟

Exit mobile version