طلال سلمان

هوامش

امتحان في الصحافة مع من يملكون مفاتيح معرفة الغد
تقدمت، خلال شهر واحد، إلى امتحانين في غاية الجدية، أمام مجموعتين من الطلاب الجامعيين الذين تجاوزوا سن السذاجة السياسية ولم يسقطوا في شبكة الغرائز الطائفية، ممن اختاروا «الإعلام» طريقاً إلى مستقبلهم المهني.
في الحالتين، وجدت أننا نجلس جميعاً في قلب الخوف من الحاضر على المستقبل، وان كانت البشائر التي أطلقتها الثورات العربية في تونس بداية، ثم في مصر أساساً، قد أشاعت جواً من الثقة بالنفس واستعادة الأمل بإمكان التغيير في أرض أنظمة الخراب التي تظلل الوطن العربي من أقصى مغربه إلى أدنى مشرقه.
تهاطلت أسئلة القلق: عن الطبقة السياسية ولادة الطائفية ووليدتها في آن! عن دور الإعلام الذي انفتحت آفاقه عبر الفضاء فتزايدت خطورة تأثيره، لا سيما ان من «يملك» مفاتيح الأفق هو هو من «يملك» مصادر التأثير على الأرض. وعن العلاقة بين السلطة والإعلام، حيث لا يصلح لبنان نموذجاً، إلا إذا عدنا إلى القاعدة الذهبية: من يملك يأمر!
في لحظة كان ضرورياً أن نجري فصلاً قسرياً بين «الصحافة المكتوبة» والإعلام المرئي والمسموع، لأن المحاسبة بالجملة تظلم من لا يملكون الا أقلامهم وقدراتهم المادية المتواضعة التي لا تمكنهم من الطيران إلى مكامن الأسرار والأخبار في العواصم المذهبة والمسورة بحصون الصمت الأبيض، وتحاصرهم وتحصر انتشار مطبوعاتهم في أوطانهم الفقيرة لأن كلفة الوصول إلى القراء في البلدان الأخرى باهظة، ثم ان عمر الصحيفة لا يتجاوز الساعة أو الساعتين حداً أقصى، فمن يشتري صحيفة بائتة في ظل «الخبر العاجل» الذي يبث ـ صوتاً وصورة ـ فور حدوثه ومن المكان عينه؟
في محطة ثانية كان علينا أن نتوقف أمام حقيقة مفجعة: كيف تصدر صحيفة سياسية في بلاد لا سياسة فيها؟!
أما لبنان فأمره عجب: لا دولة فيه حقيقة، والمناصب أغراض خبيثة مموهة بألقاب مفخمة.. فغالبا ما اتهم وزير المال بأنه يزوّر الأرقام، ووزير الصحة بأنه يتاجر بدواء المرضى، ووزير الكهرباء بأنه يسترهن التيار بصفقات أعدها سلفاً لشراء مولدات أو استئجار بواخر منتجة للطاقة. بين النواب سماسرة لشركات، وبين الرؤساء من اتهم في كفاءته القيادية، وبينهم من اتهم في ذمته المالية… وأحوال البلد شاهدة على عقم النظام، واستحالة التغيير وبؤس الاصلاح. الاحزاب طوائف ومذاهب والنقابات ذكريات من الماضي، والإدارة إقطاعات طائفية مموهة بالسياسة. كيف تطالب نائباً جاء إلى المجلس بالرشوة أو بحمى المذهبية بأن يصير مناضلاً من أجل الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية؟! وهل إذا ما صار وزيراً للعدل ستطمئن إلى القضاء استنادا إلى الرمز العالمي للعدالة بالسيف والعينين المغمضتين؟!
[[[
«من ذا يغني على عود بلا وتر»؟!
كيف تصنع صحافة حيث لا حياة سياسية؟ ومن يدعي انه يكافح الفساد وهو يكاد يغرق في بحر من الفساد بلا ضفاف.
النظام الطائفي أشد دكتاتورية من الاستبداد. قد يُسقَط الاستبداد بالثورة. لكن الطائفية ولادة الثورات المضادة. انها بيت الحرب الأهلية. والخوف من الفتنة يحجر على الرأي فيجمد التواصل بالحوار، ويقمع أي محاولة للتغيير ويفرض الصمت. حتى الثقافة تتوعك أو تهرب من ساحة المواجهة، إلى الشعر أو الجنس أو الحداثة التي تومئ ولا تفصح فتمنعك الصعوبة والرؤيوية من فهم موقعك في مقاومة التجهيل!
وكيف يمكن أن تكون الصحافة مؤسسة ديموقراطية في ظل نظام طوائفي وبالتالي دكتاتوري مهما زيّن واجهته بشهداء الرأي والموقف، ولا يختلف في جوهره عن أقسى الأنظمة الفردية عتواً؟!
«قل ما تشاء… ونحن نفعل ما تشاء»
وهكذا تتحول الصحافة إلى شاهد زور. انها تضفي على النظام شكلا ديموقراطياً لا يمكن ان يموه طبيعته القمعية؟ هل الطائفية أرحم من الدكتاتور؟! هل تشويه المفاهيم أقل خطورة من إطلاق النار على المتظاهرين؟
ان الديموقراطية بالشعوب.
كيف تنصب أميراً وارثاً له الأرض بمن وما عليها، والأخطر بما تحتها وفي بحرها من ثروات، قائداً لمسيرة الديموقراطية عبر فضائية فكرتها بريطانية وهواها اسرائيلي ومحركها أصولي وقيادتها أميركية وجمهورها عربي تمنع عليه أنظمته أن يعرف هويته وأن يشارك في صنع يومه… وأن يحلم بمستقبل يليق بكرامته الإنسانية؟
[[[
الأسئلة نهر متدفق، والواقع المحلي ليل بلا قمر… لكن شهباً من الضوء بدأت تلتمع في الأفق العربي الذي كان مسدوداً بالدكتاتورية. بل هي أكثر من شهب، انها بشارة بزمن الثورة الآتي.
يسأل الطلاب بلهفة عن مصر التي غيبها الطغيان دهراً عن دورها الذي لا بديل منها فيه. انهم لا يعرفون الكثير عن «مصر التي في خاطري»، عن مصر الثورة الثقافية، بداية القرن الماضي وحتى ثلثه الأخير، ومصر النهضة العلمية والقيادة السياسية الشرعية لحركة التغيير والتقدم نحو المستقبل، مصر الجامعة والكتاب والدستور والقلعة الصناعية والأدب والفن الجميل. مع ذلك فهم قد فتحوا عيونهم على ثورة بهية، عفية، أضفت على «الميدان» هيبة صاحب القرار، بالملايين الذين احتشدوا فيه حتى انتصروا على النظام الذي شاخ وتهرأت أركانه وفسد رأسه وبقي يتحكم بالقرار حتى أصدر الشعب الأمر بإسقاطه.
سألوا عن ثورة تونس. عن الانتفاضة في البحرين. عن الحراك اليمني. عن التململ في المغرب. عن مشروع التغيير في الجزائر الذي ينتظر تكامل جمهوره. عن صوت الاعتراض على الجمود تحت رايات الحزب الميت في سوريا.
هنا سادت موجة من القلق على الذات: ماذا سيصيبنا نحن في لبنان إذا ما وقعت سوريا في دوامة الفوضى؟ هل تتجدد الحرب الأهلية؟ هل يتفجر الانقسام الذي يتبارى قياديوه في الترويج لدويلاته الطائفية؟ هل هي الفتنة الكبرى التي نكتشف يوما بعد يوم ان المسرح يعد لها منذ زمن بعيد؟ وأين موقع اسرائيل في خريطة الفوضى الجديدة والكل في شاغل عنها بينما هي تتحصن بقوتها وبالضعف العربي والتواطؤ الأميركي، وقد تعززت قدراتها بشيء من التحالف المعلن مع أنظمة عربية محددة، وبكثير من علاقات الود المستجد على قاعدة المصلحة المشتركة في مواجهة الثورة العربية الجديدة مع أنظمة أخرى كانت تلتحف بالصمت وتموه موقفها بطلب السلام عبر مبادرات مذهبة؟!
[[[
اللقاء الثاني كان تحت لافتة الاحتفال بالعيد العالمي لحرية الصحافة، والذي لا تعتمده نقابة الصحافة في لبنان ولا تحتفي به، مكتفية بما تم تلفيقه من تحويل عيد الشهداء (وكان عيدا وطنيا تعطل له الدولة والمؤسسات الخاصة في لبنان) إلى عيد لشهداء الصحافة لا يحتفل به، إلا أهل المهنة مع بعض المجاملين من أهل السياسة الذين يتزاحمون حيث تكثر الكاميرات.
ومن أين لنا ان نحتفل بحرية الصحافة ونحن نكاد نفتقد للصحافة دورها ويدهمنا الاحساس بأننا نمارس مهنة بلا مستقبل… ثم لكوننا نمتلك من «الحريات» أكثر مما يجب، على ما يقول الرئيس سليم الحص، وعندنا من الصحف والمجلات والفضائيات والأرضيات أكثر مما يجوز، ولكننا نفتقد الديموقراطية فنعوضها بالفوضى الآخذة إلى الحروب الأهلية تحت ألوية العصبيات الطائفية والمذهبية التي تكاد تدمر مستقبلنا.
كان لا بد أن أستذكر العديد من شهداء الصحافة في لبنان، خصوصاً وقد عرض فيلم قصير أضاءت سياقه وجوه بعض من قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل ما آمنوا به.. وهكذا توفرت الفرصة لأن أستعيد أيام تقدمت بطلب الانتساب إلى المهنة. وكان أول خبر كبير سعيت إلى «تغطيته» هو استشهاد واحد من أهم الصحافيين الشعبيين: نسيب المتني، الذي كانت جريدته الفقيرة «التلغراف» صوت الشعب في لبنان حقاً. كذلك تصادف أنني عملت تحت رئاسة تحرير اثنين من كبار شهداء الصحافة وهما رياض طه وسليم اللوزي، وعرفت عن قرب كامل مروه. وزاملت في «السفير» أبدع من ربط الكاريكاتور بالقضية، ناجي العلي، والكبير الذي علمنا الكثير مما يعرف من فن الصحافة ابراهيم عامر، كما صادقت ونسجت أحلاما للتقدم المهني مع جبران تويني… وإذا كنت قد حرمت من شرف الشهادة عندما حاول «مجهولو» اتفاق 17 أيار مع العدو الاسرائيلي اغتيالي فجر 14 تموز 1984، فإن من سبقهم نجحوا في تفجير مبنى «السفير» ومطابعها فجر الاول من تشرين الثاني 1980، وان خاب من حاولوا تفجير منزلي بالسيارة المفخخة ثم بالصواريخ، وان كان أمثالهم قد نجحوا في تنفيذ جرائمهم مع غيري.
ربما من أجل التفكهة أو من أجل قياس المسافة الهائلة بين موقع الصحافة في لبنان حين تشرفت بالانتماء إلى أسرتها وحالها اليوم أوردت بعض التفاصيل التي رأيتها طريفة ومنها:
«كنا كقراء ننتظر الصحيفة يوما لكي نعرف القليل من أخبار أمسنا والأقل عن أحوال العالم. وعندما باشرت العمل في الصحافة كان الهاتف أحدث وسائل التواصل. وكانت وكالات الأنباء الدولية، ومن ثم العربية ترسل نشراتها يدويا وتقفل مكاتبها مع الليل، لأن الزمن كان بطيئاً، وبوسع الناس ان ينتظروا لكي يعرفوا ماذا جرى خلال ساعات النوم أو الغفلة. أما الصور فكانت تصلنا بعد يوم، أو نأخذها بعد يومين عن صحف عربية أو دولية.
«اليوم تتباهى وكالة إخبارية دولية على أخرى بأنها سبقت بثوان في بث خبر جديد، أما بين الفضائيات ـ عربية ودولية ـ فهناك حرب مفتوحة عمادها السبق بالصوت والصورة ولو بلمح البصر.
«وليس سراً أن الصحافة المكتوبة قد منيت بهزائم خطيرة جعلت مصيرها معلقاً على قدرة أهلها على تطويرها، مضموناً وشكلا، بما يحفظ لها قراءها وقدرتها على التأثير في القرار.
«لقد انتصر علينا البرق، من دون ان يمنحنا الفرصة لأن نكون الرعد.
«ومع أنني لا أنوي تحويل هذا اللقاء إلى مندبة الا ان الواجب يفرض عليّ مصارحتكم بأن الصحافة في لبنان خاصة، وفي مجمل الدول العربية تعيش ظروفاً من القلق على المصير.
«إننا نتخلف عن عصرنا، لأسباب سياسية أساسا، ومادية بالضرورة.
«هل أبالغ إذا قلت ان الصحافة قد غدت ـ في العالم ـ مؤسسات راسخة بسبب دخول الشركات العظمى جامعة رجال المال والأعمال في ملكيتها وفي إدارتها كاستثمارات وكمتاريس لحماية المصالح، وليس كمطبوعات يصدرها هواة او متطوعون او انتحاريون من أجل خدمة المجتمع وتعزيز الديموقراطية خاصة وحقوق الإنسان عامة».
أما الخاتمة فهي تكرار ادعاء الدور الذي نكاد نعجز عن أدائه:
«إننا نحاول أن نحفظ للديموقراطية صورة بلا ملامح.
«أنتم تملكون شوقاً عظيماً إلى المعرفة.. ولكننا، بصراحة قد نملك من أسبابها القليل، ولكننا بحاجة لأن نعرف أكثر.
«وعلينا ان نتعلم من أسئلتكم كيف نكون صحافتكم ألستم أنتم الغد.
الخوف أن نبقى مجمدين في أمسنا، بينما أنتم تتقدمون وتتركوننا أسرى الذكريات».

ـ من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحياة أن تحب. كيف لإنسان يستخف بحياته أن يحمي نفسه بحبه؟ ليس الحب أنانية، ففي قلبه كل يجعل لحياتك معنى. أن تحب الناس يعني أن تحب فيهم ذاتك.

Exit mobile version