طلال سلمان

هوامش

مساحة للفرح مع الماضي الذي لا يمضي.. في مصر!
يستحق الموعد بين عمرين يرفضان ان يذوبا في ذكريات الماضي مساحة للفرح تمتد من «الحرانية» عند سفح اهرامات الجيزة، في ظاهر القاهرة، إلى شرم الشيخ التي كانت مهبط الوعد بالنصر عبر حراسة مضائق تيران فحولتها هزيمة 5 حزيران إلى «شرفة اسرائيلية» على البحر الأحمر ومنتجع للرئيس العجوز الذي كان يكره الشوارع المزدحمة بطوابير الفقراء من أبناء البلد الذين أخذتهم الثورة إلى الانتصار بإسقاط النظام.
وقفنا متقابلين للحظات يتأمل كل منا الآخر كأنما يقرأ في عينيه صفحات من الزمن الجميل، قبل ان نندفع إلى عناق مغسول بدموع الشوق إلى أيام كنا فيها كثرة، كأننا أمة، بآمال عراض وأحلام تتجاوز المستحيل… وها هي وجوه الذين غابوا فأنقصوا الضوء في عيوننا تندفع من الذاكرة لتحوم من حولنا كأنهم شركاء في هذا اللقاء الذي استعاد «الجميع»: بهجت وبدر، آدم وفاطمة، ناجي وعنايات، حجازي واللباد، ابو العينين ورعاية، وحلمي وبهاء الذي أسهم في رفعهم حتى غدوا من العناوين المشعة.
لم تنقص السنون من وسامة «نسيم هنري»، بل لعل إكليل الشعر الأبيض الكث قد أضفى عليه مسحة من الرصانة تقوم على حراستها «انطوانيت» بصرامة الحرس البابوي السويسري المنشأ مثلها… أما متى ضحك فيعود ذلك الطفل الذي يدهشه شروق الشمس كل يوم، ويفرحه الاكتشاف بان البحر ما زال أزرق اللون، وبأن قلب الإنسان هو مركز حياته.
تكتشف كم تغيرت أنت في قراءتك ملامح الصديق الذي غاب عنك دهراً فتغير ظاهره وتوغل قلبه عميقاً بين جوانحه، واختلفت عليه صروف الحياة من دون ان تغادره سذاجته وإحساسه المرهف بالجمال في الكائنات جميعا، بشراً ونباتاً وأسماكا…
ليس لنا الآن إلا الذكريات التي يطويها الزمن على ذاتها ويدفعها إلى الخلف لأن هموماً عدة وثقيلة تشغلنا في يومياتنا حتى لنكاد ننسى ان نعيش حياتنا.
[[[
كان الباشمهندس الحديث التخرج قد تلقى أمر التكليف، ككل زملائه، للذهاب إلى منطقة قناة السويس للمشاركة في بناء خط الدفاع الذي سيتحول، بعد حين، إلى حائط للصواريخ الممهدة لهجوم التحرير.
وكان عاشقاً، والمعشوق بعيد بعيد كأنه معلق في الاستحالة. بكى واستبكى واشتكى واستنصح وحاول القفز بجناحين من حلم ووهم فسقط من شاهق. عندها فقط استفاق وتحول إلى ناصح للمغرمين. قال: «أخذت استدعي من مخيلتي صور ما بعد الزواج، وكيف ستكون عليه حبيبتي التي ستغدو رفيقة عمري. تخيلتها عند نهوضها صباحاً، بشعر منكوش ووجه بلا ماكياج… ثم ذهب خيالي إلى تصورها في المطبخ، وهي تتأفف وتتذمر من انها لا تعرف من فنون الطبخ الا سلق البيض والبطاطا. تصورتها وهي حامل بكل مشاكل الوحام والعلل المصاحبة للبطن المنتفخة… وتصورتها كذلك أُماً تحاول تهدئة طفل غاضب بينما تهدهد طفلها الأصغر وقد دهمها الوقت فلم تستطع إعداد الغداء أو العشاء. ثم وهي تكنس أو تغسل الصحون فتكسر بعضها وتفح منها رائحة البصل والثوم… اجتهدت في نبش ما أعرف من عاداتها التي تزعجني. ودأبت على تثبيت الصور التي لا أحبها عليها حتى كادت تصبح حقيقية. وساعدني الأهل الذين كانوا «محايدين» في الايحاء بأن نهاية الدنيا بعيدة، وانني في شرخ شبابي وانهم مع قراري كائناً ما كان. وذات يوم اتخذت قراري الذي كنت أفترضه مستحيلاً: لن أموت من أجلها (مع ان فكرة الانتحار خطرت في بالي مراراً ثم شدتني الحياة بإغراءاتها إلى حضنها). قلت لنفسي: انها تخيرني بينها وبين الوطن.. والوطن أغلى على عقلي وقلبي وفكري من حبي!
مع القرار الذي كنت أعتبره ذات يوم انتحاراً شعرت بأنني رميت أثقالاً كانت تنهكني وكشحت غيوماً كانت تسد عليّ الطريق».
… ستمضي سنوات قبل ان ألقاه، مرة أخرى، في بيته في الحرانية، وعند الباب فرن تخرج منه إبداعات «انطوانيت» من الفخار: كان قد وجد في «الحب الثاني» كل ما يطلبه في الزوجة والحبيبة والصديقة والملهمة، والأهم انها قد جاءت إليه في أرضه ولم تشترط عليه ان يخرج من جلده كي يستنقذ حبه: لقد أحسست انني ربحت عمري مجدداً. الحب قرار أيضاً.
[[[
المدخل إلى الحرانية رمسيس ويصا ومشغله الذي سرعان ما اكتسب سمعة عالمية بسجاده الذي ينسجه الأطفال بأمزجتهم وبأخيلتهم: يأتي إليهم بكتل من الخيوط ويحضر آنية الألوان تاركاً لهم ان يلونوها بحسب رغباتهم، وبعد ان يعلمهم مبادئ فن النسيج يترك لكل بنت او ولد ان ينسج اللوحة التي يتمثلها في خياله، وبالخيوط التي لونها برغبته، فيبدأ الولد بأصل الشجرة مثلا ثم يرتفع بنسيجه ليضع على ذروتها الديك بينما الدجاجات تناديه من تحت… أو ترسم البنت والدها وهو يعمل في الحقل ترفرف فوق رأسه بضعة طيور، أو يشترك ولدان في انجاز سجادة يمكن اعتبارها من الفن الحديث، أو ربما من فن اللامعقول كأن ترسم الشجرة بالعرض ومن حولها رف حمام، ومن آخر اللوحة يطل رأس جاموسة… الخ.
لكن «نسيم» لم يكن أول من ابتنى بيتا في الحرانية، بل ان رمسيس ويصا قد نجح في استدراج «الأخ الكبير»: آدم حنين. وقد أبدع هذا الفنان الذي سيغدو واحداً من أهم النحاتين في العالم، في تصميم البيت البسيط، مستفيداً من خبرات الأجداد في استخدام الطين النيئ. أنشأه على الطراز التقليدي مع شيء من التعديل: القاعات المفتوحة، والسقف عقد، ولكل غرفة نصيبها من الشمس والهواء. النوافذ واسعة بمشربيات. السلالم أنصاف دائرة وغرف النوم تكاد تكون بلا جدران.
«آدم» لم يتعلم الكلام. الرسم لغته، فإذا ارتقت اللغة صارت نحتاً. وهو الآن منهمك في إعادة بناء بيته الذي ذهبت به السنون. وسيكون البيت الجديد المدخل إلى «متحف آدم» الذي سيضيف جديداً إلى الكنوز الفنية في مصر التي علمت العالم ان الفنون الجميلة هي ما يبقى، وأما الفراعنة فيذهبون إلى النسيان.
[[[
من أين نبدأ الحوار المقطوع منذ دهر أيها الصديق الذي تعلمت منه كيف ننتصر على النزوة، وكيف يصير وطننا بصر عيوننا ومصدر إلهامنا والصمود؟
جلسنا نستذكر أيام الهوى والشباب والأمل المنشود.
ـ هل تذكر الرحلة التي صحبتني فيها إلى اخميم، في الصعيد، حيث نمنا في ضيافة الرهبان في الدير، وقد صحونا مبكرين مثلهم، وأفطرنا إلى مائدتهم البسيطة، ثم صحبونا إلى الجسر المهدد بالسقوط كي تعيد بناءه، وأنت المهندس… وقد أسقط في يديك، فاضطررت الى ان تكون مهندساً تتساقط عليك البركات بينما أنت تقاوم السقوط في مياه الترعة وأنا أتبرع بأن أكون «مساعدك» قبل ان يكتشف الآباء انني لا أتقن هذه المهمة فيطلبوا مني بلطف ان ارتاح تاركا لهم مهمة التخطيط والتنفيذ والتشييد من دون ان يحرموك شرف الادعاء أنك أنت من أعاد بناء الجسر.
ضحك طويلاً فضحكت انطوانيت التي باتت تعرف العربية وانما باللهجة المصرية، وان ظلت تفضل ان تتحدث بالفرنسية او الانكليزية او الايطالية كجميع السويسريين… ثم جاء دوره ليروي رحلته الى لبنان بصحبة «بهاجيجو» الذي يحيا بفنه كأنه يسكن في الغد ضاحكا ممن يعتبر ان الفنان عموما ـ ورسام الكاريكاتور الذي يدخل وجدان الناس بغير استئذان خصوصا ـ يمكن ان يرحل عن دنيانا بمجرد ان ينام ليرتاح.
كان مع «نسيم» و«بهجت» الكاتب المبدع صنع الله ابراهيم، الذي استغرب ان يجد نفسه في الصعيد اللبناني، فالرجال بالجلابيات والعباءات مثل أهله في الريف، وان غيروا الحطة بالكوفية والعقال. والنساء بالمناديل على الرأس والثياب الطويلة، لأن الشعر عورة. ولقد استعادوا ذكر اسمه وهم يتعارفون، فرفع يديه وهو يقول ضاحكا: كان أبي قد استهول الصورة التي ولدت فيها، فتنصل من «التهمة» واحال الأمر على خالق الأرض والسماء والبشر وأصناف الحيوانات والأسماك جميعا، ومن هنا فقد اطلق عليّ اسم من ابدعني على هذه الصورة: صنع الله!
ولقد اصرا على ان يصحباني الى التعزية بفقيد، فتم الترحيب بهم على انهم «وفد من الجمهورية العربية المتحدة»، وما كان من صنع الله إلا ان قال لنسيم: هيا انفخ صدرك وارفع رأسك كي نمثل بلادنا كما يليق بمواطنين مخلصين لدولتهم العظمى!
أما حين صحبتهما الى «التلفريك» في جونية، وكان بعد في عهد صباه الأول، فقد فوجئا بمصور محترف يلتقط صور الزوار، فالتفت نسيم الى صنع الله يهتف به: هل ننفخ صدورنا هنا أيضاً؟! انهم يروننا فلاحين بؤساء ممن عزت عليهم التغذية في طفولتهم فكبروا وتطاولت قاماتهم كأنهم عصي.
قال صنع الله: بل لنقل اننا رماح سمهرية!
وبحلق نسيم في رفيق الرحلة واخذ يحاول ان يتهجأ كلمة «السمهرية» لعله يدرك من فكفكة مقاطعها الوصول الى عمق المعنى.
[[[
كان «نسيم» مهموماً بالمخاطر التي تتهدد الثورة في مصر، وبينها الفوضى الأمنية وظهور الجماعات السلفية وغيرها من المتطرفين، إضافة الى عصابات «البلطجية» التي استخدمها النظام الذي أسقطه الشعب، ثم توارت عن الأنظار، لكنها لا تزال موجودة تبث الذعر في الأحياء الداخلية، وفي بعض المدن والقصبات التي غاب عنها رجال الشرطة وتركوا أهلها في مهب القلق.
كان سعيداً بسقوط جدار الصمت، وتوالي القبض على النهابين من رجال النظام السابق الذين استولوا على مصادر الثروة الوطنية وهربوا المليارات الى الخارج، او تلقوا منحا هي عبارة عن مئات الدونمات لكل منهم ابتنوا عليها مدنا سياحية وفرت لها الدولة ـ على حسابها ـ المياه والنور وشبكة الطرقات، ثم تركتهم يجنون منها الثروات الطائلة… ولا ضريبة!
لكنه كان يخاف ـ مثل أي مواطن مصري آخر ـ تفجر المطالب جميعا دفعة واحدة: بعضهم يفترض ان الدولة سوف تستعيد الأموال التي هربها أهل النظام السابق الى الخارج، فيقف المواطنون في طابور طويل كي يتلقى كل منهم نصيبه من الثروة المضيعة! وبعض آخر يفترض ان مصادرة أملاك المرتشين والفاسدين والمزورين تعني مباشرة انه سوف ينتقل من العشوائيات والمقابر الى بعض الشقق المصادرة كي يهنأ ـ أخيراً ـ بالعيش في بيت نظيف غرفه واسعة وله شرفات على النيل!
[[[
ـ هل تريد ان تتحدث الى آدم الذي يعيش الآن لمشروعه العظيم، المتحف؟! أنت تعرف البيت القديم. لقد ازيل، وبنى آدم مكانه بيتاً صغيراً ليترك المساحة جميعا لإبداعاته في الغرانيت والصخور السوداء. سأطلبه لك في الهاتف، لكن لا تدعه يتعب في الكلام. انه الآن في الرابعة والثمانين لكنه يعمل في مشروعه الجديد كأنه فتى على عتبة العشرين. انه حلم حياته؟ متى التقيته آخر مرة؟
قلت: التقيته مرة في باريس، كان يقيم معرضاً لبعض إبداعاته، وقد زرته متباهيا بأن واحداً من بلادي يعرض في عاصمة النور، كما يسمونها. ثم التقيته مرة اخرى في بيروت حين جاء في رحلة قصيرة ومن اجل معرض لم يعدّ له الاعداد الكافي او ان الظروف الأمنية يومذاك لم تكن تسمح بالتمتع بالفن عموما، فكيف بالنحت؟!
رن الهاتف طويلاً ولم يرد آدم: لعله نائم! لا يحمل هاتفه. لعله لم يسمع. سنطلبه بعد حين.
[[[
كانت شرم الشيخ التي تتنافس فنادقها فخامة واتساعاً، تكاد تكون فارغة من السياح الذين يأتونها مواكب مواكب من أوروبا، وبالذات من روسيا (ما بعد الاشتراكية، أي في عصر تبييض الأموال)، وكذلك من ايطاليا، ثم من ألمانيا وبريطانيا، وفي رحلات منظمة بأسعار مخفضة للمجاميع.
سألت مديراً في الفندق عن «السواح» العرب، فتنهد وهو يقول: ان أغنياءهم يملكون قصوراً، او ينزلون في قصور شركائهم من المصريين. يأتون بطائراتهم ليوم او ليومين ثم يغادرون.
ثم غمزني وهو يقول: أفضل زبائننا هم اللبنانيون، انهم يأتون بدافع حبهم مصر، وهو اقوى من فضولهم للتعرف الى كنوز هذا الخليج وأخطرها المرجان ثم الأصناف النادرة من الأسماك ومن اشجار البحر.
عدنا مع الفجر، وكانت شرم الشيخ التي يحاول من فيها نسيان ذلك «السجين» في مستشفاها، وكذلك الشارع الطويل الذي يحمل اسم «السلام» والذي تتصدره صورة ضخمة لصناع الصلح المنفرد الذي لا يريد أحد الحديث عنه الآن… فتلك من مهام الغد!
وكان «بهاجيجو» حاضراً عبر هشام ووليد كما عبر ملامح الجمال في وجوه الأحبة الصغار الذين يعتبرونه واحداً منهم مع انهم لم يلتقوه.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب يأخذك الى الخوف. تحس دائماً انك مهدد في حبك. تصير حكيما تعتني بكلماتك عنايتك بهندامك، ويدهمك الإحساس بأنك تنطق باسم التاريخ.
ما أصعب الخيار بين الطفولة والحب.. لكنني حسمت أمري بالحرفين السحريين!

Exit mobile version