طلال سلمان

هوامش

من الحرب الأهلية إلى الثورة… بعنوان مصر!
ها نحن ندعي أننا غادرنا الحرب الأهلية خلف ركام من ست وثلاثين سنة من الحروب الأهلية، وأمام مشاريع جديدة لحروب أهلية مستجدة ستستهلك الشمس والقمر والورد والياسمين وابتسامات الأطفال وتنهدات العشاق بوتيرة تصاعدية: المئات من الشهداء سيغدون آلافاً، والآلاف عشرات ومئات من الآلاف، في حين يضرب التشوّه الملايين الآتين بزعم أنهم سيبنون الغد الجديد بحجارة الماضي الذي أغرقته دماؤنا.
من على هذا البعد، يتبدى وكأن غدنا سوف يأتي على ظهر الطائرات الحربية للحلف الأطلسي وعبر رصاص الأخوة الذين اكتشفوا ـ فجأة ـ أن من يشاركونهم الرغيف والفراش والحلم هم من الكفرة الذين حقّ عليهم العقاب حرقاً في نار الوطن الذي لا بد أن يصير جحيماً لكي يستعيد طهارته الأولى.
… ولكننا كنا نوقف أحلامنا، بالكاد، عند حافة الأطلسي الذي أساء أجدادنا فهمه فاعتبروه «بحر الظلمات» فصنعوا الأمس وغادروا ليأتي من خلف الظلمات من صنع لنا بعض يومنا وهو ينهمك الآن في صنع غدنا الأفضل وبلغات شتى ليس بينها لغة قريش!
بإعادة نظر بسيطة في مسلسل الأحداث التي توالت علينا وعلى من حولنا ولا تزال تتوالى، منذ ذلك اليوم الذي خلّده الدم في ذاكرتنا، الأحد في الثالث عشر من نيسان 1975، يمكن التوقف أمام بعض الظواهر التي يصعب تحليلها في ضوء ما كان، لأنها سبقت ولكن نتائجها تتبدى اليوم أوضح.
فلم تكن مصادفة أن تتفجر الحرب الأهلية في لبنان بصاعق «فلسطيني»، في مثل هذه الأيام من نيسان 1975، وبعد شهور قليلة على قرار الرئيس المصري الراحل اغتيالاً، أنور السادات، بإخراج مصر من الصراع العربي ـ الإسرائيلي بالصلح المنفرد مع العدو، متخلياً عن فلسطين ـ القضية والشعب والأرض، وعن شريكه السوري في الحرب الوحيدة بقرار عربي.
… وها هي تلك «الحرب الأهلية» مستمرة، بأشكال أخرى، في لبنان كما في العديد من الأقطار العربية. وليست الانتفاضات التي تتوالى مشرقاً ومغرباً، وبغضّ النظر عن الشعارات المحلية والأعلام المزركشة التي تعجز عن طمس وحدة المضمون والوجهة، إلا تفجرات بالاعتراض على سياسات الأنظمة التي انسحبت من فلسطين بذريعة الاهتمام بالداخل، أو أنها قمعت الداخل بذريعة الاهتمام بفلسطين صموداً واستعداداً لمواجهة لم تأت، ولا يراد لها أن تأتي.
أما لبنان فكان نظامه الطوائفي أرضاً خصبة لتوليد أسباب الحرب الأهلية ولإدامتها، خصوصاً أنه يحمل في جيناته دولاً عدة قادرة على الادعاء أنها أسهمت في استيلاده أو في رعايته أو في تحصيــنه بحيث لا يسقط بسقوط الدولة فيه، ولا يؤثــر عليه أن تشترك في حمايته مجموعة من الدول متناقــضة التوجهات والمصالح وعلى قاعدة «لكل منه نصيب» و«له في كل منها حبيب»!
ولقد عاش اللبنانيون الحرب الأهلية أجيالاً حتى أدمنوها، وصار من قواعد التربية المنزلية تهيئة الملاجئ والمواقع الآمنة في المنزل أو في الحي، وخريطة المعسكرات الصديقة والمعادية (مع تعديلات تفرض نفسها بين جولة وأخرى)… بل إنهم باتوا يصدّرون «خبراتهم» إلى دول أخرى، حتى باتت «اللبننة» مرضاً معدياً كالجرب والكوليرا والسل إلخ.
في هذه الأيام بالذات، حيث تتفجر الأرض العربية بثورات الياسمين وورود الميدان، تزهر الأحلام مجدداً، وسط غابة المخاوف والشكوك ومكامن القلق.
ذلك أننا نسينا فعل «الثورة» لكثرة ما ثرثرنا عنها، فأطلقنا التسمية على مغامرين ومقامرين، بعضهم اغتال حلم «الثورة» من أجل السلطة، وبعضهم الآخر زوّر هويته علناً وفرض على شعبه المقهور بمن قبله عهداً جديداً من القهر باسم «ثورة الشعب» محرّفاً مضامين الكلمتين معاً.
ربما لهذا يواكب الإنسان العربي بقلبه وعينيه وعقله وثقافة تجاربه حركة الانتفاضات التي هزّت الركود الطويل الذي فرضته «الانقلابات» التي اجتاحت المنطقة باسم فلسطين ذات يوم، ثم اشترت السلطة بما ضيّعته من مستقبل الفلسطينيين، إضافة إلى الشعوب التي حكمتها أو تحكمت بها، فأغلقت عليها أبواب الماضي ومنعت عنها نور الشمس ومعها الثقافة والعلم وما استولده التقدم من أسباب التواصل والمعرفة وفهم ما يجري في العالم من حوله.
إن تاريخاً عربياً جديداً يولد عبر الصعوبة. وبديهي أن تنشب «الحرب» بين إرادة التغيير التي لا «قائد» لها إلا الشعب بطلائعه المستنيرة، بالناس البسطاء الذين يعرفون ـ بالضبط ـ ما يريدون، ويستطيعون التمييز بين متسنّم أحلامه طلباً للتغيير وبين من يحاولون إطفاء الشمس بالطيران الحربي الأجنبي وبالمذابح المنظّمة للي عنق التاريخ نحو ماضي القهر باسم الدين أو باسم الهيمنة الأميركية أو باسم إسرائيل، وهذه جميعاً يجمعها حلف غير مقدس هدفه إجهاض الثورة ولو بدعوة الاستعمار إلى احتلال جديد حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم الوطن الواحد دولتين أو دولاً.
إنها مواجهة هائلة يستحقها الغد الذي نحلم به، بين قوى الردة والاحتلال من جهة، بكل ما تملكه من سلاح وذهب، وبين الناس البسطاء الذين لا يملكون ثمن أكفانهم ولكن إرادتهم وإيمانهم بحقهم في أرضهم وحبهم لأطفالهم تجعلهم الأقوى.
إنها حرب بين من يحاولون إطفاء الشمس ومن سكنوا أشعتها فباتوا يعرفون، والمعرفة طريق الانتصار على الحرب الأهلية التي يحتشد في معسكرها كل أعداء الإنسان العربي في كل أرضه.
وأول الطريق إلى الغد: مصر وشعبها الذي دفع دمه ثمناً للمعرفة.
روز شوملي مصلح تعبر إلى فلسطين… بالشعر!
كأنما ظلها الذي يسري في اتجاه اليد الممدودة للمصافحة بينما «أصله» ما زال موزعاً على أنحاء فلسطين كافة، وإن تبقّى بعضه في بيروت وبعضه الآخر في عمان وبعض ثالث مشرد يلملم أشلاء وطنها ويجمعها بصمت يليق بالشهداء في أنشطة متعددة من بينها الشعر…
«كيف أعبر إليك؟». ليس كثيراً أن يكون الجواب على هذا السؤال الذي يبدو بسيطاً ديوان شعر متواضع الحجم مثلها وإن اكتظ بالأشواق والأسئلة المعلّقة في فضاء العجز والحزن الذي نكتب به تاريخنا المعاصر، لعلنا بحبره الصارخ فينا نخرج إلى الفعل بالتغيير الذي لن نكون إلا به.
روز شوملي مصلح، الولادة في بيت ساحور التي ـ كغيرها من البلدات التي بدأ بأسمائها التاريخ ـ لا تتعب من استيلاد فلسطين في بيوتها وحقولها وأشجارها وعصافيرها والفراشات وظلال العشاق المختبئين في ثنايا المعابر السرية للقمر الذي يباغت الاحتلال كل يوم.
ولقد ولدت روز شوملي مصلح موهوبة: في سن الرابعة مثلت في مسرحية في المدرسة، وشاركت بعد ذلك في فرق الغناء والرقص والتمثيل في مراحل دراستها التالية، وكوّنت فرقة مسرحية من الأطفال بالتعاون مع النادي الثقافي العربي في مدينتها: كتبت النص ودرّبت الأطفال وحاكت الملابس من الورق.
من بيت ساحور إلى بيت لحم للدراسة في ثانويتها، فإلى كلية بيرزيت بمنحة دراسية واختارت الرياضيات وتخرجت بجائزة الطالبة المثالية والبكالوريوس معاً… ويسّرت لها المصادفات أن تفوز بمنحة دراسية لمدة عامين في الجامعة الأميركية في بيروت… وهنا كانت نقطة التحوّل الأهم.
خليل حاوي كان هناك بتدفقه الشعري المعبر عن زخم إرادة التغيير في مختلف مجالات الحياة والإبداع. ومع خليل حاوي تمكنت بنت بيت ساحور من أن تبلور شخصيتها وأن تنتبه إلى أن الشعر فعل ثقافة أيضاً وليس مجرد موهبة. وهكذا ولدت روز شوملي مصلح مرة أخرى… خصوصاً وقد دهمتها، مع كل أمتها، هزيمة 1967، وهكذا تخففت من اليأس بالاندفاع إلى نجدة المهجرين الذين وصلوا عبر الأردن. كان معها ندى يشرطي وجيهان الحلو وعبلة نصير. أخذن يصنعن الكعك سوياً ويبعنه للتبرع بثمنه للجنة القدس في بيروت.
قُصف البيت في بيت ساحور، في جملة ما قصف الإسرائيليون من البيوت في مدن فلسطين وقراها العربية. وانتقل أهلها إلى بيت آخر في البلدة ذاتها كأنما بتخطيط قدري لتتزوج روز ابن أصحاب بيت اللجوء الأول داخل الداخل.
في غمرة الانشغال بهموم كثيرة وثقيلة خلال الإقامة شبه القسرية في بيروت لمدة ربع قرن تقريباً، نال روز شوملي نصيبٌ من الجوانب المأساوية للحرب الأهلية في لبنان والتي استدرجت المقاومة الفلسطينية لتكون طرفاً فيها… وهكذا عرفت المخيمات المنكوبة والمخيمات المستجدة التي آوت المشردين من تل الزعتر وجهات أخرى الشاعرة ـ الأستاذة ذات الهوايات الفنية المتعددة في دور المسعف الاجتماعي… حتى وهي على وشك الولادة:
«رائحة الفراش المبلل بالدم ما زالت
على جسدي منذ أيلول.
«ورائحة الكبريت بلا زعتر/ في تل الزعتر
وهديل الطائرات يخترق جسدي أين ما ذهبت
كأنما نلد ليقطف أطفالنا قبل الحصاد
فنعيش الموت مرات ومرات
ست مجموعات شعرية، حتى اليوم، حتى وروز شوملي مصلح مشغولة بأمور كثيرة، ولكنها لا تفقد الأمل وتستقر في موقع الداعية:
«سوف تعود الحمامات يوماً/ كما فعلت في عهد نوح
غابت طويلاً/ لكن أتت/ تحمل غصن زيتون وبعض أمل
فلا تقتلوها/ حين تطل عليكم
لا تقتلوها وإن عادت إليكم في الخريف».
واضح أن روز شوملي تمارس الشعر حين يقصر النثر عن نجدتها للتعبير عن كوامن الوجدان، خصوصاً أن حياة الفلسطيني ـ كل فلسطيني ـ هي محطة بين شهادتين أو بين تشردين أو بين اغتراب داخل هويات مستعارة عديدة.
في ديوانها «كيف أعبر إليك» تتوجه روز إلى هاني الشوملي مباشرة:
«أسائل نفسي: أيهما أجمل؟ البدايات أم النهايات؟
وكل جواب يسقط أمام الصدفة المؤجلة
هو شرط الدهشة؟ أم معادلة الحزن والفرح؟
وما مصدر الدهشة:
«يدهشنا خارجنا/ وحشة الغابة ورقة الأشجار
يدهشنا داخلنا/ جمل المحامل ونزق الصغار
هل يحمّل الله نفساً غير وسعها؟»
ولأن جناحي روز شوملي مصلح مكسوران فهي لا تعرف «كيف تصل إليه والموت لا ينتظر».
وأخطر ما يعنيها ألا يغترب ابنها بروحه، فالوطن حنون، والقهر قهر القيد… ولكنه «لم ينتبه/ طار يبحث عن فضاء/ عن جسد بغير ألم ولم يكن يدري أن الموت يسكن حيث يؤتى الحذر.
الوطن، الوطن، الوطن، ينزع منها فتبقى فيه، تنزع منه فيبقى فيها:
«من آخر الكهف أتى/ كل شيء تغيّر كمن تاه أربعين عاماً
واكتشف لحظة التحامه بالوطن/ أن الذين أحبهم غابوا
لم يعد إلينا هذا المكان/ ليس فصل خريف يعبر ذات نهار/ ليس طيوراً مهاجرة لا تلبث أن تعود/ لا شهادة له سوى ذكرى بعيدة/ لا شاهد له ليعرف أنه هنا يتلمس بالأربعة حوافر الخيل/ بحثاً عن المجد المشع في حذوتها/ عن المنارة في التقاء الأرض والبحر كي ترسو سفينته».
ولكن ابنتها تعد النجوم سرقها النوم وكانت تتمتم: مليوناً وواحد.. لو كان لي قلب طفلة هل كنت أعد النجوم؟!
يقول أحمد دحبور عن روز شوملي مصلح: «لقد استقلت بمشروع شعري مركب يجدل الذات مع الموضوع ويكرز بالفرح من عميق الجناز الأليم، فإذا بالشعر شهادة في صالحها، ولكنها شهادة لا تمنح العزاء».
أما روز فتقول:
«عندما أطلقت الطائرات صرختها/ قفزت بحثاً عن دمي
الطائرات تحدق والغيم دخان طائرة/
الموت يسقط عبابا/ يمزق الصمت
حجارة فقدت ظلها/ وتصايحت من حولها»
روز شوملي مصلح تواصل نضالها بلا ادعاءات، بلا زجل ثوري، لكن عينيها المشبعتين بصورة الأرض وذاكرتها التي تحفظ تاريخ الإنسانية جميعاً، كل ذلك يأخذك إلى الشعر… أليست فلسطين هي ديوان الجرح والأمل، الأمس واليوم والغد، الأرض والإنسان والأنبياء الذين لا يتقنون الدفاع عن أنفسهم فيقتلون ثم يصفح العالم عن القتلة؟!
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا تعنيني السياسة، وطالما سخر مني أصدقائي لأنني لا أهتم بكل ما يتصل بها. لكنني الآن أعيش أيامي في حمى الثورة التي تفرد جناحيها فوق أرضنا.
مؤكد أن الثورة ولاّدة حب… ألم تلاحظ أنني صرت أكثر شغفاً وأسخى عطاءً وأعظم حناناً!

Exit mobile version