طلال سلمان

هوامش

الأميركيون يسألون العرب: لماذا غبتم فحكّمتم فينا اليهود؟!
قال الصديق القادم من واشنطن:
يهمني أن أطمئنكم، هنا في بيروت… هل تعرفون من تولى مكتب لبنان في وزارة الخارجية الأميركية؟ إنه واحد آخر من »أبناء عمنا« أيضا. لقد اكتمل الطوق: من الأدنى إلى الأعلى، كلهم من اليهود. هم مواطنون أميركيون طبعاً، لكنْ هناك مئتا مليون مواطن أميركي غيرهم، تقريباً، لم يعد متاحاً لهم أن يدخلوا نعيم الخارجية، أو نعيم البنتاغون، كما العديد من المواقع الحاكمة في الإدارات والمؤسسات (الحكومية)، وفي الطليعة منها أجهزة المخابرات.
قال أحدنا يرد على استفزازه بمثله:
أراك صرت عنصرياً. لعل الإقامة الطويلة في نيويورك أخذتك بعيداً عن السياسة، فاتخذت قراءتك للتطورات والتحولات بُعداً عاطفياً، في حين أننا هنا نكاد نكمل انتقالنا من الاحتراق بالعاطفة إلى التحليل البارد… حتى أننا نسينا، أو نتظاهر بنسيان واقع إسرائيل كدولة دينية، ونتحاشى أن نستخدم تعبير »اليهود« ونحن نتحدث عن الإسرائيليين.
قال الصديق الممتلئ حنقاً وشعوراً بالمهانة:
لاحظت أنكم تبالغون في الرقة حتى الانفلاق. أخذكم يأسكم من العرب إلى حد التسليم باندثارهم سياسياً، بقدر ما أخذكم الانبهار بإسرائيل إلى حد اعتبارها المثل الأعلى، في مختلف المجالات، من العسكر إلى الأحزاب الديموقراطية، ومن الاقتصاد إلى احترام حقوق الإنسان، لا سيما في المحكمة العليا!
صمت لحظة تاركاً لنا حيرتنا إزاء ما يرمي إليه، ثم أضاف بهدوء:
جيد أن نتعرّف إلى إسرائيل، بتفاصيلها، قواها السياسية وقواها الدينية ومؤسستها العسكرية ووجوه نشاطها الاقتصادي، ولكننا نكاد ننسى العرب ونهملهم بمجموعهم كما بأقطارهم المتعددة. صحيح أن الأنظمة العربية ألغت السياسة، لكن الناس ما زالوا هنا، ونحن لا نعرف عنهم شيئاً.
ماذا تعني لك، مثلاً، كلمة العراق؟! صدام حسين؟ غزوة الكويت؟ التدخل الدولي؟ الحرب ضد إيران؟ فصل الشمال »الكردي« عن وطنه العراقي، العربي؟ فرض الحماية على واقع مفروض بالقهر ضد العراقيين وليس ضد حاكمهم؟ أما الجنوب فحاله أبأس، لأنه قيد التعذيب اليومي، بذريعة نقص الولاء فيه للسلطان، كما أن حملات التحريض عليه مستمرة، بإظهاره خارجاً على النظام، من دون أن يتكرّموا عليه بحمايتهم المباركة كما في الشمال!
أكمل، من خلال صمتنا الكثيف، نعيبه، فقال:
تقزم كل بلد عربي بسلطان طاغية ومجموعة من المتمردين وأكثرية ساحقة من المهملين، الذين لا رأي لهم ولا صوت ولا وجود.
يقاتل السلطان المتمردين الذين يطلق عليهم التسميات الإسرائيلية: »مخربين«، »إرهابيين« »أصوليين«.. ويقاتل المتمردون رجال النظام وعسسه. يتذابحون لكن بركة الدم تطمس وجود ملايين الناس الذين كانوا مواطنين خارج هذا الصراع الدموي العبثي بين سفاحين على الجهتين.
لم يعد للعشرين مليون عراقي من وجود خارج حاكمهم، ولا قيمة لرأيهم فيه أو في معارضيه الذين لا وجود لهم بينهم، مهما دفعت لهم الولايات المتحدة من أموال، وقدمت لهم من إمكانات لوجستية.
لم يعد للثلاثين مليون جزائري من وجود أو قيمة إلا كضحايا محتملين للمذابح المتبادلة بين الجيش السلطة وبين الجماعات الإسلامية الانقلابية التي لها ملامح سلطة الجيش ذاتها. حتى الاستفتاءات لا تُعامَل ولا يتم الاعتراف بها إلا كخدع ديموقراطية شكلية لتبرير الدكتاتورية القاتلة على الضفتين.
لم يعد للأربعة ملايين ليبي من قيمة. اختُزلوا بشخص معمر القذافي، ووقع عليهم ما قرّره ضده »المجتمع الدولي« المهيمَن عليه أميركياً، من عقوبات بسبب تمرده وتحريضه الآخرين على التمرد.
لا مجال أمام العربي لتمييز نفسه عن حاكمه، أو عن الأجنبي الذي يتخذ موقع المخاصم لحاكمه. أما هو بذاته فلا أحد. محروم من حقوقه الإنسانية وأبسطها حقه في الاعتراف بوجوده.
أنت ضمن حاكمك مخبر أو جلاد أو رعية، فإن حاولت أن تكون خارجه تحولت إلى مشبوه ومطارَد وعميل للأجنبي.
.. والأجنبي أكثر حضوراً من »الشعب«…
بل إن الشعب محاصَر بين العدو الداخلي ممثلاً بالطاغية، وبين العدو الخارجي ممثلاً بالأجنبي الطامع الذي يحارب الطاغية بذريعة عدائه للديموقراطية، بضرب الحركة الشعبية في الداخل عن طريق محاولة ربطها بمصالحه وبمخابراته.
هدأ صاحبنا قليلاً… فتنفسنا الصعداء، وسألناه حقيقة الأمر فقال:
لنعد إلى أساس الموضوع. إن اليهود الأميركيين قد احتلوا الإدارة الأميركية بالكامل. شغلوا معظم المواقع التي يمكن اعتبارها مركز القرار. ومَن لم يخضع لهيمنتهم حاصروه وأحرجوه حتى أخرجوه، سواء باتهامه بالعنصرية أو بما هو أخطر: موالاة العرب بل العمالة لهم.
هذا ليس كلاماً عنصرياً. إنه كلام في صميم السياسة.
فهذا الطغيان اليهودي على القرار الأميركي هو في وجهه الآخر شهادة على الغياب المطلق للعرب كقوة تأثير لها وزنها الدولي.
هل اندثر العرب؟!
إن منظرهم من الخارج لا يثير الشفقة، بل ما هو أدهى.. إنهم مطارَدون بالمهانة ولعنة التحقير.
لقد سمعت كثيراً من الأميركيين يشكون من هذا الغياب العربي المطلق، وانعدام الوزن، ولأسباب أميركية بحتة، بل لعلها »وطنية أميركية«.
إنهم يرون أن الانهيار العربي قد تسبّب في الصعود اليهودي إلى قمة السلطة ومراكز التأثير فيها.
لو كان للعرب شيء من القيمة والوزن والتأثير لما كان تمّ هذا الاجتياح اليهودي الشامل.
إنهم يحاسبوننا في واشنطن على ما أصابهم هم، نتيجة غيابنا. يقولون إننا السبب… فانهيارنا هنا أوصل اليهود إلى سدة السلطة في واشنطن. ومن قبل، عندما كان للعرب قيمة واعتبار ووزن، لم يكن الرئيس الأميركي ليجرؤ على تعيين يهودي أميركي في موقع له تماس، بأي قدر، بالمسائل العربية. اليوم يعيّنون سفراء يهوداً في أكبر البلاد العربية أو في أصغرها، فلا يعترض أحد (بينما في بعض العواصم العربية يعترضون على سفراء عرب بسبب من اختلاف المذهب وليس الدين).
وإذا ما بات العربي يقبل اليهودي (ولو أميركياً) سفيراً في عاصمته، فكيف له أن يحتج على أن يكون وكيل الخارجية في واشنطن، أو المستشار لشؤون الأمن القومي يهودياً، وصولاً إلى أن يتسنم منصب الوزير مَن يتحدر من أصل يهودي؟
ما زالت الذاكرة تحفظ كلمات لهنري كيسنجر قالها وكتبها عن توجسه من أن يرفضه العرب أو يتحفّظوا على التعامل معه لأنه يهودي، علماً بأنه أثبت أنه متطرف في ولائه لإسرائيل أكثر من غلاة الإسرائيليين. لكن العرب قبلوه، بل وسلمه بعضهم مصيره. ولم يكن ثمة ما يمنع من التعامل معه كيهودي.. فقط لو عاملوه باحترام كاف للذات، وبإيمان حقيقي بقضاياهم، لكان أمامه واحد من حلين: إما أن يستقيل، وإما أن يعدّل من آرائه ومواقفه السياسية.
ولو قدّر العرب وزنهم، لفرضوا عليه ما كان مستعداً لأن يعطيه من حقوقهم التي أقاموه عليها فأخذها وأعطاها لبني قومه!
مَن يهن يسهل الهوان عليه.
إن بعض المسؤولين العرب قد قبلوا كيسنجر ورحبوا به وانفتحوا عليه وأودعوه أسرارهم، لأنه يهودي وليس لأنه مسؤول أميركي.
وفي مذكرات كيسنجر والعديد من المسؤولين العرب الذين تعاملوا معه، ما يفيد أنهم قد قبلوه ثم أعطوه أكثر مما طلب وليس أقل مما توقع.
إن انعدام وزن العرب في بلادهم قد يسّر القضاء على المتعاطفين معهم في واشنطن ممّن كانوا يسمون »الآرابيست«.
وختم الصديق حديثه متسائلاً بسخرية:
هل بقي بينكم آرابيست؟! قوموا إذاً إلى طاولة شراب ننسى فيها مآثر حاضرنا، بعدما اغتلنا ماضينا وها نحن نقامر فنخسر مستقبلنا.
وقمنا صامتين إلى حيث هوة النسيان!

قراءات في غياب الوجه ذي الشمس
طوال الطريق كانت تسابق سيارته الأسئلة: هل ستكون هناك؟ هل سيلتقيان، أخيراً، بعد افتراق بمدى عمر؟! هل تعرف؟! هل هي التي دبّرت أمر التقاء طرفي القوس؟
عند بعض المنعطفات اتخذ السؤال صياغات جديدة: هل سيعرفها، إن كانت هناك؟! هل هذه الملامح الباهتة في ذاكرته ما زالت لوجهها؟! وهل ستعرفه وقد سقط الوجه القديم تحت وطأة الزمن والصواعق؟! يصعب عليه أن يستعيد ملامح وجهه القديم، فكيف ستعرفه هي، وكيف سينفض عن وجهها الجديد غبار الأيام ليستعيد ما كانه؟!
انتبه إلى الاختلاف الشديد بين ما يعبره الآن من مشاهد وما يستذكره مما كان في مدخل البلدة. ومع توغله في قلب ذلك المكان الذي يحتفظ منه بنتف من المشاهد الغائمة، انتبه بفرح الى أن »وجهها« كان يتميّز بكثير من النمش، وأن عينيها كانتا صغيرتين تختفيان متى ابتسمت فلا يتبقى فوق صفحته غير »قافلة من النمل تتقاطر من حول بحيرة بيضاء، تحت قبة شعرها الأشقر«.
كانوا في انتظاره، ولم يجد بينهم مَن كان ينتظره، بل مَن جاء لكي ينهي معها الانتظار الطويل. ولفترة، ظل يتحاشى أن يدقق في الملامح تحسباً لمفاجأة قد تسيء إلى وقاره الذي لا يجوز أن يُخدش.
جلس إلى طاولة الكلام، وبيده الرسالة التي افترض أنه إنما كتبها لها وحدها، والتي لن يفهم مضمونها غيرها لأنها تسكن بنمش وجهها كل كلمة فيها.
تأخر اللقاء عمراً. هو لقاء ما بين العمرين، قال في نفسه.
تغلغلت عيناه وسط الجمهور ريفي الملامح والمجتهد لأن يبدو »متحضراً« يتقن أدب الإصغاء لمن يملكون حق الكلام.
أدار بصره يميناً ويساراً، فعبر وجوه الرجال بسرعة لم يلتقط منها إلا الأشكال ليتفحص وجوه السيدات المعدودات اللواتي كن هناك. لم تستوقفه وجوه الفتيات إلا في الجولة الثالثة وبعد اليأس من احتمال »اكتشافها«.
لا بد من أنها قد تجاوزت الأربعين، الآن.. من يهمه أمر أربعينية، بينما الصبايا يملأن المكان بضحكاتهن الخافتات وتجوالهن عبر الصفوف بحجة تنظيمها أو الاندفاع إلى لقاء الأصحاب.
كانت عيناه تعودان من كل جولة تفتيش إلى المدخل لتتخذا منه محطة للانطلاق في جولة جديدة.
فجأة ضبط نفسه في مواجهة السؤال: هل يريدها حقاً أن تأتي؟! هل يرغب فعلاً في رؤيتها؟! هل سيسعده أن يكتشف كم ابتعد عن زمانه الأول؟ هل سيرتاح الى اكتشاف المدى المفتوح بين الذي لا يعود وبين زمن لا نعرف كيف ولا نريد أن نهجره؟ وهي… هل ترغب فعلاً في استعادة تلك اللحظات التي باتت الآن كوردة مخبوءة في كتاب التلمذة، لا طيب فيها ولا رواء، وإن أنت حاولت الإمساك بها تفتتت فاندثرت؟
دع الكتاب مغلقاً. دع الوردة مخبوءة. إقرأ رسالتك على الليل والنجوم والنبع القريب، ولينتشِ بذكراها غيرها، واهرب فلعلها تصل بعد غمزتين.
وعلى طريق العودة كان نور السيارة يخترق الضباب راسماً أفقاً من النمش كغبش ذاكرة تتلفع عباءة من الشعر الأشقر.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أعطِ حبيبك فرصة للتنفس. لا تحوّل حبك إلى سجن تحبسه فيه بعيداً عن الناس. دعه يرَك في الناس، ويحبَّك أكثر مع الناس وعبر الناس. الخوف على الحب قد يخنقه، والخوف من الناس اغتيال للحب. أن تعيش وحبيبك معزولين في جزيرة مسوّرة بالغيرة والقلق وبغض الناس، هو نحر للحب. الناس هم الهواء الضروري للحب. وبالناس يعظم الحب ويعظم المحبون. لا حُبَّ خارج الناس.
طلال سلمان

Exit mobile version