طلال سلمان

هوامش

عــودة الــروح إلــى الأمــة
لأول مرة منذ عهد بعيد نتلاقى في أجواء من الأمل واستعادة الثقة بالنفس وبالقدرة على صنع الغد الأفضل، خارج لبنان، أما داخله فنحن نتبارى لنعرف من يمكنه الفوز بقصب السباق في إعادتنا الى جاهلية الحروب بين ملوك الطوائف.
نلتقي لنتسلى، هذه المرة، بأخبار الطغاة، رؤساء وملوكا وأمراء نفط ومشايخ قبائل ومديري أجهزة استخبارات مرعبة وقادة أجهزة مباحث تحصي على الملايين أنفاسهم… نستذكر حكايات خلافاتهم العائلية حول السلطة والوراثة، والنهب وتقاسم خيرات البلاد وتقاذف المسؤولية عن أسباب الانفجار الذي القى بهم الى مزبلة التاريخ… في انتظار ان تنصب المحاكم لمحاسبتهم عما جنت أيديهم ضد من كانوا سبب مجدهم فتنكروا لهم، وضد من رفعوهم الى سدة السلطة فأذلوهم بها، فهبوا يستعيدون كرامتهم بإسقاط هؤلاء الذين أعطوا مجداً فلم يحسنوا سياسته فخلعهم.
اليوم نلتقي تظللنا ابتسامة واثقة مصدرها الشعور بالقدرة، ولو أنها تعني إخواننا الذين أنجزوا تصديهم للتغيير بالثورة او هم في الطريق الى إنجاز المهمة التي كانوا يظنون انها مستحيلة فإذا هي في متناول إرادتهم متى آمنوا بأنفسهم فأقدموا…أما نحن فننتظر ولن نبدل تبديلا !
[[[
بين آخر ندوة شاركت فيها في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، نهاية العام الماضي، واليوم ُقدر لي ان أتحول من نداب بائس يحاول جاهداً استنقاذ ما يمكن ان يبقي ضوءًا في آخر النفق، الى حامل بشارة بغدٍ أفضل كان يعيش بالتمني فإذا هو الآن أمام حقيقة تتكامل أمام عيوننا في قلب الصعوبة.
من اليمن السعيد الذي يحكمه ذلك الرجل الداهية الذي تختلط فيه ملامح شيخ القبيلة والدكتاتور والملك والرئيس بالديمقراطية، الى مغرب الخليفة أمير المؤمنين، تتأكد حقيقة مزدوجة: ان الأنظمة التي كنا نخاف جبروتها ونعتبرها محصنة بأجهزة القمع الداخلي والمساندة الأجنبية المفتوحة ليست قوية قدر ما نتصور الا بسبب غياب الشعب عن ميدانه، بالخوف من الفتنة او الخوف على الوطن، وان الشعب متى حضر لا حدود لقدراته ولا راد لإرادته.
وعندما باشر الأخوة في تونس التي استعادوها وأعادوها بعد غياب طويل، بالتجمع احتجاجاً قمعوا بشيء من العنف سرعان ما استوعبوه فأكملوا مسيرتهم ليواجهوا قمعاً أشد اسقط الشهداء في جهات شتى فما زادهم إلا إصرارا ورفع سقف مطالبهم الى حد الهتاف بإسقاط الطغيان، ثم التقدم اليه في قصره المحصن، فإذا به يهرب مع سقوط الظلام، خصوصاً وان الجيش- الذي كان مستبعداً لأنه غير مأمون- قد تخوّف من ان يغرق في دماء شعبه فرفض الأمر بالمواجهة.
روى لنا الدكتور محسن البوعزيزي، وهو قريب الشهيد الأول للثورة في انتفاضة الصبار في تونس محمد البوعزيزي، ان البداية كانت بسيطة جداً وان احداً من المشاركين فيها لم يكن يقدر أنها ستنتهي بهذا الإنجاز التاريخي… فالثورات لا تحتاج الى شعارات مضخمة بل الى إرادة مؤكدة.
قال: في اليوم الأول تجمع أهالي المنطقة لتشييع الشهيد. لكن التشييع صار تظاهرة، والتظاهرة استطالت حتى بلغت المدينة الأقرب، ومن المدينة الأقرب انتقل الصوت الى الجهة او المحافظة برمتها، ومن المحافظة الى العاصمة كان حجم التظاهرات يتعاظم، والشهداء يتساقطون، فتصير دماؤهم حافزاً إضافياً للآخرين الذين كانوا يتقوقعون داخل خوفهم، او يترددون خشية على مصدر الرزق.
وقال: في قلب العاصمة اكتشف التوانسة بعضهم بعضاً. تيقنوا أنهم شعب واحد، وان لمشكلاتهم السياسية والمعيشية والثقافية متسبباً اوحد. فجأة توحد الهتاف، وذابت الكتل السياسية والنقابية المختلفة في مسيرة واحدة لها شعار واحد: اسقاط النظام!
وفي القاهرة سمعنا روايات متعددة من الذين استوطنوا الميدان أياماً. كنا نتوقع حكايات أسطورية عن البطولة… وأذهلتنا بساطة الشعار الذي أضفى عليه الظرف المصري طابعاً مرحاً. لم يستخدم احد التعابير المضخمة والمعقدة والتي تحيلك على مراجع فكرية او فلسفية تحتاج الى من يترجمها للعامة. قالوا إنهم عندما بدأوا التجمع في الميدان كانوا متهيبين، وقد أعد الكثير منهم نفسه للتوقيف والسجن… ومع تزايد العدد انتقل الخوف منهم الى شرطة النظام.
قال واحد منهم: كنا قد تلقينا من الأخوة في تونس دروساً من تجربتهم مع الأمن، كيف نعطل مفعول قنابل الدخان والغاز، وكيف نعطل العربات المصفحة للأمن المركزي. وان جموعنا اذا ما تحركت فلسوف تنقل الخوف الى رجال الشرطة الذين ينفذون الأوامر فان أحاطت بهم الحشود تراجعوا وليس علينا الا ان نتقدم نحوهم فيخافون من كثرتنا، ويتذكرون واقعهم البائس، وقد يَلمح بعضُهم أخوة لهم او أبناء عمومة فيتراجعون. وصدقاً لقد فوجئنا بكثرة منهم يعصون أوامر ضباطهم فيلقون السلاح ويخلعون البزة الرسمية السوداء ويهرولون هاربين… وقد تزايدت حالات الهرب مع نجاحنا في تعطيل مئات السيارات المصفحة بالتعليمة التي تلقيناها من الأخوة في تونس.
وقال أخر: الشعب خلاق. من الصعب ان نستعيد التفاصيل لكن الأمور تمت بيسر مذهل: كيف تصرفنا مع سقوط الجريح الأول. كيف ظهر من بيننا عشرات الأطباء والممرضات والممرضين. كيف انشأوا العيادات الميدانية. كيف جاء الينا الناس بالأدوية والضمادات وحتى الجبس لمعالجة الكسور.
لقد حولنا الميدان الى عائلة مترابطة متضامنة لا يخلخل تماسكها حتى الرصاص. وحين اندفعت الينا جماهير الشعب فقررت ان تقيم معنا في الميدان زادت عوامل القلق عند المنظمين. لكن عبقرية الناس وتكاتفهم وسخاءهم في تقديم ما يمكنهم تقديمه حلت المشكلات ميدانيا. صارت عندنا لجان للتموين، ومخازن، ولجان للحراسة الليلية، ودوريات تستكشف المناطق المحيطة بالميدان والشوارع المؤدية اليه.
ضحك احدهم وهو يقول: كان منظر الجمع طريفاً ونحن نواجه البلطجية الذين هاجموا بالخيول والجمال. لقد تراجع البعض بفعل المفاجأة ثم كان هجومنا المضاد فإذا بالبلطجية يهربون وقد القينا القبض على بعضهم فإذا هم يبكون ويتوسلون الينا ان نقبل توبتهم متذرعين بأن الفقر مذل، في حين كشف لنا آخرون أسرار العملية ومن أمر بها، وكم دفع للنفر منهم، ومن الذي دفع.. وكل ذلك سيظهر في المحاكمات التي ستجري في الأسابيع المقبلة.
لم يتحدث أي من فرسان الميدان عن إسرائيل، ونادراً ما ذكرت فلسطين مباشرة، ولم يكن عبد الناصر كثيف الحضور، الا عبر الأغاني، لكن المناخ كان منعشاً: فكيف تكون ثورة ولا فلسطين؟! وكيف لا تحضر إسرائيل وهدفنا استعادة الكرامة المهدورة لمصر؟ وبرغم اختلاف الرأي حول عبد الناصر، إلا أن الكلام عن أربعين سنة من الامتهان، كان يرى في حرب اكتوبر المرجع التاريخي وعبد الناصر فيها وثورته هي نقطة الانطلاق والمرجعية الشرعية.
الأبطال في الوجدان، وان غابوا عن نشرات الأخبار. وبالتأكيد فان ظل جمال عبد الناصر يرفرف في القاعة التي يجتمع فيها أعضاء مجلس قيادة القوات المسلحة ليقرروا.
[[[
لا أمل لهذه الأمة الا بالثورة. لا مستقبل لها الا بالثورة. لقد اغتال الحلف المقدس لأنظمة الطغيان إحساس الأمة بقدراتها وحقها في الحلم.
الثورة تسقط الحواجز الوهمية التي يزرعها نظام الطغيان بين أبناء الشعب الواحد كي يستتب له الأمر.
في غياب الثورة فقدنا الإيمان بروح الأمة، بوحدة همومها وطموحاتها، بحقها في غدها الأفضل. صار الانفصال قاعدة حياتنا. كرسنا الانفصال بالمنازعات الحدودية. بتحويل الخلافات السياسية الى أسباب للفتن الطائفية التي تضرب روح الأمة.
أنكرنا هويتنا. صار الإيمان بوحدة الأمة سبّة. صار الحديث عن العروبة هروباً الى الأحلام بل الى الأساطير والأوهام، على حد تعبير بعض المتنكرين لأسمائهم وأنسابهم.
الأفظع: ان أنظمة الطغيان قد ابتدعت في ما بينها أنواعا من المخاصمات والمنازعات سرعان ما استخدمتها كذريعة للهرب من مواجهة العدو الأول والدائم والوحيد للأمة بمجموعها: إسرائيل ومعها وفيها مشروع الهيمنة الاميركية. صارت الإشارة الى العدو المشترك هرطقة سياسية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر: لم نشهد حمية لدول مجلس التعاون الخليجي، ولم نعرف ان لديها قوة ضاربة تستطيع التحرك حتى الى ليبيا البعيدة، إبان الحرب الإسرائيلية على لبنان والأمة في تموز 2006.
كذلك لم نكتشف ان لدى دولة الإمارات العربية ولدى دولة قطر أساطيل مؤهلة لان تشارك مع الدول العظمى في الحرب على ليبيا بطائراتها الحربية، بذريعة إسقاط القذافي الذي لا يمكن الدفاع عن طغيانه حتى وان كنا نعرف ما نعرفه عن حكام دول النجدة هذه التي تكاد تكون بلا شعوب. ومع أننا نعرف ونسمع الكثير عن ثروات هؤلاء السلاطين الأسطورية فلم نسمع أنهم تقدموا لنجدة ثورة تونس او ثورة مصر، تاركين للسيد الاميركي ان يعلن عن معونة بثلاثين من الفضة تلبية سريعة لبعض الاحتياجات في مصر.
ما علينا: لنعد الى ما يفرح.
لقد ألغت الثورة الفواصل التي زرعها الطغيان في قلب المجتمع ورعاها ووظفها من اجل تقسيمه وإضعافه لتظل ممكنة السيطرة عليه.
ألغت الثورة الطوائف والمذاهب. تجاوزت الأديان. شهدنا في ميدان التحرير العودة الى الإخوة الصافية بين المواطنين. وقف الأقباط يحمون ظهر أخوتهم المسلمين من هجمات البلطجية وهم يصلون. انكشف أمر التفجير الإجرامي لكنيسة القديسين في الإسكندرية. تبين ان وزير داخلية عهد الطغيان هو من دبره وأمر بتنفيذه. شهدنا المنظر البهي في الصلاة المشتركة في الميدان على أرواح أولئك الشهداء. لم تعرف أيام الثورة المباركة حادث اعتداء واحد ذي طابع طائفي في أي مكان من مصر… فجأة، مع الانتصار دبرت بقايا العهد البائد مذبحة طائفية في بعض ضواحي القاهرة لإفساد العيد.
عندما تعاظمت حركة الاعتراض ومطالبة البحرينيين بحقوقهم كمواطنين مسالمين لم نكن نعرف من منهم الشيعي ومن منهم السني.
لكن تحويل الاعتراض السلمي الى فتنة كان ضروريا كي يساند الملوكُ الملوكَ ضد شعوبهم ذات المطامح الواحدة… وكان ضروريا استثمار مشروع الفتنة هذا في ما يتجاوز البحرين، وسمعنا في بيروت من يبارك القمع بوصفه استثماراً سياسياً.
للمناسبة: في البحرين نخبة ثقافية راقية سياسيا،ً كانت هي رائدة العمل الوطني التقدمي، بهوية عربية ناصعة، في منطقة الجزيرة العربية جميعاً.
[[[
تعود الروح الى الأمة مع عودة الوعي.
الوعي يعود بالثورة. لا احد يتحدث الآن عن الوحدة. لكننا نحس أننا اليوم أكثر قوة، أكثر إيمانا بأنفسنا، وبالتالي فنحن اقرب الى الوحدة بالموقف السياسي الذي يؤكد وحدة أهدافنا جميعاً.
صرنا اليوم أكثر معرفة بمصر وبهمومها الثقيلة، بتونس التي اعادت اليها الثورة هويتها الاصلية، بليبيا وقائدها الطاغية الذي يريد الانتقام من شعبها بإعادتها مدمرة، مفقرة، مقسمة، الى الهيمنة الأجنبية.
صرنا اليوم أكثر معرفة باليمن. لقد ألغت الثورة الانقسامات الطائفية والمذهبية والجهوية بين أبناء شعبها. نحن نتعاطف الآن مع اليمنيين في محنتهم دون ان نميز بين زيودهم والشوافع.
انتبهنا فجأة الى ان الطغيان أخفى عنا بلاده، بحيث أننا لا نعرف في أي بلد الا اسم الرئيس، وربما مدير المخابرات، وأسماء بعض الفنانين والفنانات.
أما نحن في لبنان فإننا ندفع ضريبة الثورة، ونُمنع من جني ثمارها.
نقدم بعض أطهر شبابنا فداء لتحرير الأرض والإرادة، نهزم حرب العدو على الأمة عبر لبنان، ثم ينتهي بنا الأمر الى تجريم المجاهدين، ويذهب بعضنا الى حد تبرئة العدو الإسرائيلي، ويبلغ به الأمر حد نصرة الطغيان علناً إذا ما لامس امن الخليج. فأمن النفط أغلى عنده من أمن الوطن. وسلامة من رفع نفسه من شيخ الى رتبة ملك، وهو لا يملك القرار في جزيرته الصغيرة، أهم عنده من سلامة وطنه ومواطنيه.
ما علينا: إننا نتابع منقسمين، كالعادة، ما يحدث من حولنا، فاتحاً صفحات جديدة من تاريخ عودة الروح الى الأمة، فنفرح فرحاً عظيماً حتى ونحن نعي اننا- هنا- ممنوعون من إنجاز الثورة.
إننا ندفع ضريبة الثورة، ونمنع من جني ثمارها.
وليس سراً ان بيننا من يرى ان إسرائيل اقل إضرارا بنا من الثورة العربية. الثورة قد تهدم النظام الطوائفي المضاد للثورة وإسرائيل هي بين حماته.
ففي غياب الثورة فقدنا الإيمان بروح الأمة، بوحدتها، بحقها في غدها. صار الانفصال قاعدة حياتنا. كرسنا الانفصال بتحويل الخلافات السياسية الى أسباب للفتنة الطائفية التي تضرب روح الأمة.
أنكرنا هويتنا. صار الإيمان بوحدة الأمة عورة. صار الحديث عن العروبة هروباً الى الأحلام والأساطير. صارت الإشارة الى العدو الإسرائيلي والمهيمن الاميركي هرطقة سياسية.
ها هي الثورة تعيد إلينا الروح.
وسيأتي لبنان، ولو متأخراً، الى الميدان.
([) كلمة ألقيت في ندوة العمل الوطني
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لــم تعــرف له مهنــة إلا الحب:
ـ الثورة تشيع مناخاً جارفاً من الحب. معها تحب أرضك أكثر. تحب شعبك أكثر… لكن حبك الأعظم يظل لمن يجتمع فيه كل ذلك. حبيبك هو الأرض والناس كلهم. وهو أنت. للثورة وجه حبيبك ووهج عينيه.

Exit mobile version