طلال سلمان

هوامش

عن «وحش المسرح» الذي يتفرج على جمهوره: نضال الأشقر
حافية القدمين، بجلابية عتيقة، وشعر مطلق السراح، وفي اليد مكنسة طويلة العصا، ومن خلفها فتية جاءت بهم عدوى الحماسة يتناوبون على سكب سطول الماء لتنظيف ما يصعب تنظيفه من آثار ماضي الارتهان والتبعية في ذلك الشارع الفرعي الممتد رابطاً بين كليمنصو الفرنسي صانع الكيان، وسبيرز الإنكليزي جنرال دولة الاستقلال.
تلك أجمل صورة تحتفظ بها ذاكرتي لهذه التي ترفض كل ما هو سائد ومسلّم به من قواعد السلوك واللباس والحديث والعمل وتذهب مع اسمها إلى أصوله ومع اسم أبيها إلى مضامينه ومع حزبها إلى التحدي المفتوح دائماً: نضال الأشقر.
الوقت ربيع المقاومة وشهداء الانتصار على الحرب الإسرائيلية في نيسان 1996، والفرح يتفتّح وروداً حمراء، ومسرح المدينة المركز، وكان القرار إقامة أسبوع احتفالي من طراز يليق بشرف الصمود… وهكذا تنادى جمع من الرسامين والنحاتين والمبدعين لإقامة معرض فني يمتد أسبوعاً تشع لياليه بالنشوة طرباً وموسيقى. وقد لبى الكبار جميعاً، فجاءوا ومعهم فرقهم لإحياء العيد يتقدمهم حامي الوجدان الشعبي زكي ناصيف تحفّ به كوكبة ممّن غنوا الأرض وأهلها: ماجدة الرومي، جورج وسوف، راغب علامة وغيرهم كثير.
[ [ [
صعب هو الحديث عن نضال الأشقر بمقدار ما هو ممتع، فهي كاسحة ألغام، لا تداري ولا تجامل، إذا ما حضرت، أما إذا غابت فعليك أن تكون حذراً لأنها ستعرف ـ بالسليقة ـ ما قلته فيها وعنها.
ثم إنها جمعت فأوعت ثقافة وفناً، كتبت ومثلت وأخرجت، خلقت مسرحاً دائماً وهي مفلسة، وأنشأت فرقاً مسرحية وهي مهجّرة، مشرّدة، وقاتلت بالسلاح والعلم والكفاءة مستفيدة من هيبة الأسود ومن رقة الأنثى ومن إبداع صاحب الموهبة، فإذا مسرح المدينة كحلم لإنسان ومجتمع يصير بعض معالم بيروت، المركز الكوني للثقافة.
ذلك أن المسرح هو مرضها الذي لا تريد أن تشفى منه. قصدت إلى دراسته في لندن، ثم أظنها الآن لا تتورّع عن تدريسه لمن أخذت منه علم الوقوف على خشبة. بل أظنها في لحظات كثيرة تمنت لو أن شكسبير كان حياً لتجادله فتقنعه بعبثية بعض ما كتب وتقنعه بتعديلات تناسب العقل والعصر.
بدأت وحيدة تماماً. كان والدها سجيناً بتهمة مشرّفة: لقد أراد إسقاط النظام. وكانت المخابرات تطاردها. وكانت هي تطارد الطائفية وتنتصر عليها بوعيها، وفي عملها، وفي بيئتها. ولقد اختارت ميدان المواجهة: المسرح، واختارت عدته: قافلة من المبدعين الذين كانوا قد فقدوا الأمل في الوصول إلى الناس، فإذا بنضال توفر لهم فرصة التلاقي من حول خشبة تشع بنور الكلمة وتطرح الأفكار وروداً وتخترق الخوف من التغيير فتعيد إلى الإنسان إنسانيته المقهورة وتمنحه الإحساس بالقدرة على الفعل.
[ [ [
بدأت الرحلة مبكرة: في السنة 1968 أسّست مع روجيه عساف محترف بيروت للمسرح. وكانت «مجدلون» نقطة الانطلاق ـ التحدي، وقد جمعت نقولا دانيال وجان شمعون وسارة سالم ورضا كبريت إضافة إلى روجيه. وقد استفزّت المسرحية السلطة فأوقفتها وطردت الممثلين وفاتت على نضال فرصة أن تقدمها في المخفر استكمالاً لتقديمها في الشارع.
كرّت السلسلة: كارت بلانش، إضراب الحرامية، مرجان وياقوت وتفاحة، أزار والمتمردة، البكرة… ثم أضافت إلى المسرح التلفزيون فقدمت جارية من نيسابور، زنوبيا ملكة تدمر، صبح والمنصور، شجرة الدر (مع زوجها فؤاد نعيم) المعتمد بن عبّاد والحلبة لبول شاوول الذي أغوته فانحرف نحو المسرح.. وبعدها حرب البسوس ونساء عاشقات، والسلسلة لا تنتهي.
هي وحش مسرحي، كما تقول عن نفسها، عالمها سعد الله ونوس، وغيمة النور التي تظللها محمود درويش، وفي قائمة أصدقائها كبار كالطيب صالح ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب أما الصدارة فلفيروز والرحابنة.
درّبت كثيرين وعملت مع كثيرين، فالممثل يتكوّن على الخشبة، وحيث لا مسرح لا ثقافة مهما تعاظمت ادعاءات الزجالين: الأمر يشبه أن تنثر قصيدة ولا أحد يسجلها إلا الهواء.
نضال الأشقر تحب أن ترى نفسها دودة قز، تنسج الحرير، ولكنها ترفض أن تختنق في شرنقته فتصير فراشة… ولكنها لا تعرف أن تطير إلا في المسرح، على خشبته وفوقه، ومن حوله.
والمدير في نضال أقوى من الممثلة والمخرج. فإنّ تدبّر المال لإدارة المسرح عمل يتجاوز في عبقريته الكمال في الأداء المسرحي أو الإبداع في النص. وهكذا كان عليها أن تؤسّس تلك المدرسة التي تأخذ المال من الرأسمالي لتشتم البرجوازية التي تشتري تذاكر المسرح.
والمسرح أن تكونه بالصوت والجسد واللغة، أما الشعر فهو الأبقى، ولعل نضال الأشقر قارئة الشعر بين قلة تجعل القصيدة تنبض حياة، يتقافز من داخلها العشاق لينثروا حبهم على الناس فيأخذونهم إلى الأحلام التي أجمل ما فيها أنها قريبة إلى حد الاستحالة وبعيدة بُعد العين عن العين.
لا يستطيع أن يتعامل مع الإبداع من لا يتذوّق الشعر، ولا يمكن أن يقتحم الفكرة من لم يلامس وجدانه روح اللغة ولم تنفتح أمامه كوامن الجمال ولم ترف حوله الفراشات ترميه بألوان المعنى بينما هو مشدوه بهندسة المبنى.
[ [ [
ذات ليلة التقينا في دبي، على هامش اللقاء الأول لجائزة الصحافة العربية.
كان الجو بهيجاً، ومئات الإعلاميين يساهمون في إحياء العيد، كان الوطن العربي هناك، عبر أجياله الصحافية جميعاً شيوخها والكهول ورفوف الفتيان والصبايا المتوغلين في أحلامهم حتى الثمالة.
وكان مع نضال الأشقر خالد عبد الله وعوده.
وكان معي بعض رؤساء التحرير في كبريات الصحف في المشرق والمغرب.
ولست أدري كيف حوّلت نضال الأشقر برج العرب إلى دار فرح وكيف توهجت المواهب في سهرة مرتجلة حتى لقد بهت الذهب المرمي كرمل على واجهة الفندق ـ الشراع ومقابض حنفيات المغاسل والحمامات.
فحيث تكون نضال الأشقر يحضر المهرجان. وهي استطاعت أن تحوّل القاعة الفخمة إلى مسرح وأن تحوّلنا جميعاً إلى كومبارتس في فرقة تقدم ما يشبه المسرح الغنائي بإدارتها المفردة.
هي ظاهرة خطيرة ليس لها مثيل في حياتنا الثقافية.
وهي لا تكف عن اجتراح العجائب والمعجزات. وحدها استطاعت أن تنشئ المسرح في بيروت، وأن تديمه، وأن تخلق له جمهوره.
لا تسل كيف وفّرت المال لمثل هذه المهمة المستحيلة! على أنها فرضت ولم تتسوّل، وأخذت الجزية ولم ترهن أرادتها أو الأعمال الإبداعية التي أرادت تقديمها.
وأفترض أنها ستتقاضى منكم الضريبة على تكريمها المتأخر، فهي كانت أجدر من كثيرين سبقوها إلى هذا الشرف.
ولكننا في أنطلياس، أي في حمى ديك المحدي، وفي دير مار الياس الذي يستمتع بزئير الأسد الذي ثبت على عقيدته سجيناً ثباته وهو يحلم ويعمل للثورة، في وطن تستحيل فيه الثورات، وتتراجع فيه الأسود أمام سرطان الطائفية والمذهبية آكلة الشعوب.
مع ذلك فنضال مثل كثيرين منا تقاتل من أجل أن نهزم المستحيل. من أجل أن يكون لنا وطن بدل الكيان، وأن تكون لنا دولة بدل النظام الذي يفرض علينا أن نغتال أحلامنا في التغيير.
[ [ [
أعترف في ما يعنيني أنني لولا نضال الأشقر لما تذوّقت الفن المسرحي، ولما اكتشفت مكامن الإبداع في النص الأدبي، الذي يجعلك ترى الكلمات تستحيل نساءً ورجالاً وصراعاً بالضوء والظل والأفكار والنوايا تعبّر عنها حركة الأجساد وهي تستحيل عواصف ورعوداً وصداماً يزرع النجوم في سماء أحلامك.
لقد عرفت سعد الله ونوس من خلال مسرح نضال الأشقر، أكثر ممّا عرفته صديقاً وزميلاً ورفيق سلاح وشريك أحلام من أجل إنسان عربي أكثر صدقاً مع نفسه، وأثبت إيماناً بأرضه، وأعظم ارتباطاً بهويته وبحقه في غد أفضل يستحقه لأنه قد أعطاه حياته.
كذلك فقد شربت الأفكار التي كنت أمر بها عابراً وأنا أقرأ نصوص المسرحيات فيعجز خيالي عن تجسيدها، حتى إذا ما نفرت على الخشبة كشفت لي الجوانب المسحورة فيها.
ولقد خاضت نضال الأشقر نضالها وكأنها مسرحية مفردة البطل.
قاتلت وخاصمت وعاركت أصدقاء وشركاء ومتطفلين، رجال سلطة ورجال مال، حتى ثبّتت مسرح المدينة كعنوان مضيء لهذه المدينة الساحرة التي اسمها بيروت، التي يدمرونها فتبعث من جديد، ويهدمون قديمها لمسح تاريخها فتعيد خلق نفسها مجدداً، بهية، عابثة، متمردة، مقاتلة، ممتعة، تسحرنا فننضوي تحت جناحيها لنكون فيها.
نصف جيل من القتال… ونضال تفكّر بالنصف الثاني، لعلها الآن تخطط لمعركتها التالية. لعلها تشرد مع شخوص مسرحيتها المقبلة. لعلها تفكّر كيف ترجئ استحقاق الديون المتراكمة، ولكنها لا تتعب.
أما أنا فقد تعبت وأتعبتكم معي، ولم أقل إلا القليل في هذه الظاهرة النبيلة التي أخذت من بلدتها فن الحداء لقافلة التنوير التي لن تتوقف ما دام لبنان لا يكف عن استيلاد الكفاءات ورعاية المواهب، برغم أنف الدولة ومن فوق رؤوس أهل السلطان.
وشكراً للحركة الثقافية في أنطلياس أنها وفّرت لنا الفرصة لهذه التحية لمن أعطانا مسرحاً للقضية وأغنى حياتنا الفكرية بتحويل النصوص إلى شخوص تأخذنا نحو الشمس فنرى أنفسنا بوضوح.
شكراً لنضال الأشقر أنها مسرحتنا جميعاً ثم جلست تتفرج علينا… وهي تضحك!

(كلمة ألقيت في تكريم نضال الأشقر ـ في الحركة الثقافية في أنطلياس)
حكاية الحب والرمل
يجيء الصوت من البعيد خافتاً فيه رنة اعتذار سرعان ما تبتلعها كثبان الرمل التي تستبطن بحوراً من الذهب المحروق.
تتسع مساحة التيه عبر بيد دونها بيد، وتغمر الرمال الوجوه فتغشى العيون ويتحوّل الطيف إلى شبح قبل أن يحترق فإذا هو رماد مذهّب لقصائد الغزل المنسية.
لا تنبت الرمال وروداً، ولم تصنع السيوف لتحمل رسائل العشاق، والأيدي التي نسيت كيف تصافح لطول ما حملت العصي صارت تمتد مقلوبة ليتكئ عليها من يحاول أن يمد عنقه ليبلغ «الخشم».
يذوب الحب الساعي إلى منبعه لطول الطريق، فتتوزعه البوادي لتضيفه إلى ديوان العشق الحرام.
لا تتسع القصور التي هندسها الأغراب للربابة الموروثة من زمن العطش… لكن المغني الحزين يطلق أنينه شجياً فيصل مجرحاً بالدمع إلى الآذان التي اشتاقت إلى «الآه»، فيطارده هواء المكيف حتى يخرجه مع الذباب والناموس والتنهدات المحبوسة منذ دهور، خلف الحجاب المصفح بالإذلال والتشويه الديني.
قال العاشق وهو يشرق بدمعه: لم يغرق الحب مرة في الرمال المحروقة، كان يحلّق عالياً ليصل إلى القلب المفتوح طلباً للحياة البسيطة بين ضفتي آه.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ إنني أتقلّب بين النار والصقيع… أجاهد للنسيان وعند الحافة تماماً تطل متوهجة لتكمل حديث اللقاء الأخير، وكأننا لم نفترق بالبعد والعتاب وانكسار موجة الشغف. لا أقوى على القطع، وتوجعني الحيرة. لا أسألك النصيحة، العذاب هو الحب… سأتعذب وأحب.

Exit mobile version