طلال سلمان

هوامش

ثورة فوق النيل: بداية التاريخ الإنساني الجديد
وصلنا إلى «الميدان» متأخرين. كانت الثورة قد أبحرت مع النيل لتباشر الطوفان.
لم يكن في الساحة التي اتسعت لشعب مصر إلا مجموعات من المتسكعين وباعة الأحلام: أعلام مطرزة بأرقام الأيام التي ستشكل ذاكرة الأجيال الآتية، وصور تذكارية للحشد الذي تراصت صفوفه سطوراً في كتاب التاريخ الجديد، على غلافه الأول «المجمع» الذي بنته دولة جمال عبد الناصر لتسهيل الاجراءات على المصريين بتجميع الادارات في مبنى ضخم، أما الغلاف الأخير فكان للبطل الذي اغتيل فاغتيل معه النصر المؤزر في حرب 1973: عبد المنعم رياض.
البداية: التحرير، والخاتمة ثورة الشعب من أجل أن يستعيد وطنه ودولته.
كل ما حولك من أمكنة، هنا، تبحر بك في قلب التاريخ: في الساحة إلى الخلف، عبر «كوبري قصر النيل» ينتصب تمثال بطل الثورة بالديموقراطية على النظام الملكي المطلق، سعد زغلول، وفي المسافة بين الجسر والميدان، يقوم المبنى الذي هرم داخله قبل واجهته، جامعة الدول العربية… مقابلها تماما قصر لواحد من سلاطين أسرة محمد علي اتخذته الخارجية مقراً لوزيرها، قبل أن تنتقل إلى «برج» حديث الواجهة معطل الداخل غير بعيد من هنا، وأما الميدان نفسه فكان يحمل اسم سبب الكارثة الأخطر في تاريخ مصر الحديث، الخديوي اسماعيل… وعبر شارع صاعد من الميدان تصل إلى باني الاقتصاد الوطني في مصر، طلعت حرب.
وحده الميدان لم يكن له تاريخ خاص به، إلا في المجمع الإداري خلفه والذي يؤمه عشرات الآلاف يومياً، سعيا الى إنجاز معاملاتهم قبل أن يلتهمها الروتين. كان يملأه الفراغ. ثم أخذ «النهابة» يفكرون في التحايل على مساحته الفسيحة: إنها تساوي المليارات لو قطعناها وبعناها بالأمتار. الشركات الأجنبية، شيوخ الخليج ومعهم أهل الخبرة في الاستثمار من «جماعة جمال».
لا شرطة في الصورة. لكن من معك يهمس لك بغير أن يرفع يده ليدلك: ذاك في الزاوية من مباحث أمن الدولة، وذاك عند طرف الجسر منهم، وهذا المصور منهم، وذاك الذي يطل من شرفة مقهى علي بابا الذي كان يجلس فيه نجيب محفوظ متأملاً هذا السيل الهادر من الهموم البشرية الذي يتبعثر في قلب الساحة ويكاد يضيّع طريقه، منهم… إنهم ما زالوا في كل مكان، يعدون للانتقام!
النيل يجري هادئاً. تلوح على صفحته طيف ابتسامة. الهدوء ينذر بفيضان جديد.
[ [ [
النقاش محتدم في كل مكان. ثمة كثير من الغضب: لماذا هذا البطء القاتل في اتخاذ القرار. الثورة أن تواجه لا أن تفتح أبواب النقاش بينما أعداؤها يتجمهرون ليفتحوا عليها نار جهنم. طوفان من الاسئلة تدور بين الناس وبالناس باحثة عن أجوبتها. القلق يسود أرجاء البلاد التي أطالت نومها حتى احتسبت في غيبوبة الاستسلام لقدرها الظالم! تحس بالقلق غيمة سوداء تكاد تطبق على قاهرة المعز. أين ذهب الغناء؟ لماذا صمت الفتية الذين ملأوا الأرض فرحاً.
سقط الهدوء الآن. جاء زمن القلق. القلق على الثورة، القلق على الدولة. القلق على مصر.
السلطة في الشارع. لا أحد يريد أن يأخذها. الجيش محبوس في قوقعة الحذر من أن يتهم بالرغبة في العودة الى الحكم. يهرب من السلطة فتطارده. لمن تتركنا؟ هذا واجبك فأكمله! والجيش لا يعرف من هو الأجدر بأن يحمل كرة النار. ما أسهل الثورة، على الأقل كما أنجزها المصريون. ما أصعب السلطة! تمر الأيام والسلطة في الشارع. «الميدان» هو اللجنة الفاحصة. تتلى عليه الأسماء فيرفضها. إنه يريد الأطهر، الأشرف، الأنظف، الأسرع، الأقدر… والمباراة مفتوحة في استذكار أسماء من يعرف هؤلاء الفتية التي تعودت عيونهم أن ترى العيوب أولاً.
السلطة في الشارع. لا وقت للجدل. لا بد من قرار: من أين نبدأ؟ وكيف نبدأ؟ لا بد من ترتيب الاولويات. هل الدستور هو المدخل، أم هي الرئاسة، أم أنها الانتخابات؟! لكن أية انتخابات الآن ستأتي بالعصابة التي تطلب خلعها أن تنزل مصر جميعا الى الشارع. فلترجأ! ليحكم الجيش! لكن الجيش لا يريد، بل إنه أيضا لا يقدر. لنعدل الدستور! ولكن هذا يعني أننا سننتخب رئيساً بموجب دستور أشوه، تمزقت أطرافه فتم ترقيعه. ومن ينتخب الرئيس؟! الشعب وعبر استفتاء شعبي. لكن من يجهز للاستفتاء؟ النظام القديم؟ بل لا بد من انتخاب مجلس النواب أولاً. من يدعو الى الانتخاب؟ المجلس العسكري. هذا يتطلب ان نمد ولاية المجلس العسكري لسنة! يحتدم النقاش: هذا قد يغري الجيش. قد يستمرئ الضباط الحكم فيبقون. أين البديل؟!
مطلوب الوقت، ولكن من أين نأتي بالوقت، والثورة المضادة قد باشرت هجومها، مركزة على نقاط الضعف. أهل الثورة المضادة يعرفون كل شيء عن كل الناس. البوليس السياسي يعرف عدد النمل في مصر واسم كل نملة. والشعب لا يعرف إلا الظاهر، والظاهر خادع. خذ مثلاً الكتّاب والشعراء والصحافيين. لقد انقلبوا ما بين غمضة عين والتفاتتها فإذا هم من أهل الثورة. المنافقون والمداحون نثراً وشعراً، الذين استهلكوا آيات التمجيد والتعظيم والتضخيم في «حسني» و«سوزان» و«جمال» ها هم الآن ينقلبون الى هجائين مبدعين. لم ترمش عيونهم وهم يبدلون الأسماء في معلقاتهم؟ ماذا لو حل اسم حسين بدل اسم حسني، وعصام بدل اسم جمال، وعنان محل أحمد عز؟! ماذا لو حل لقب «ملك النزاهة» محل لقب «ملك الحديد»؟! بعضهم لم يتورع عن الادعاء أنه قد قال في عبد الناصر شعراً بوجهين، ظاهره المديح وباطنه التقريع! بعضهم قال إنه امتدح السادات حتى حرب اكتوبر ثم هاجر بعيداً عنه ولم يعد إلا بعدما جاءه معتذرا، ومقدما له رئاسة التحرير! بعض ثالث قال إنك لو أعدت قراءة روايته لاكتشفت انه قد نسب النصر، لأهله، متجنباً الإشارة الى من ضيعه: «لو أشرت إليه، مباشرة، لضعت أنا»!
كيف يمكنك أن تبني الثورة بحجارة خصومها والمستفيدين من وهم استحالتها؟
كيف تستنبت الورد من حطبة يابسة ينخرها السوس والعفن؟!
أن يكون عديد الشعب ثمانين مليوناً من البشر مشكلة عظمى. يعرف العامة من أسماء المطربين، هابطين وصاعدين، أكثر مما يعرف من أسماء السياسيين.
في الأنظمة الدكتاتورية للسياسة اسم الرئيس ومعاونيه. الآخرون بلا أسماء. يستمدون أسماءهم من مواقعهم الى جانبه: رئيس حكومته فلان، وزير خارجيته علان، أما وزير ثقافته فمعروف لأنه ظل في الأسماع لربع قرن أو يزيد، يبيع لوحاته الخالدة لان كل من أراد النفاق للسيدة الاولى التي تفتتح المعرض يشتري بغير أن يناقش في الثمن. إنها لوحة مباركة، خصوصاً أنه قد ظهر في الصورة وهو الى جانب الوزير الذي قهر مايكل انجلو بينما في الجانب الآخر يشع وجه السيدة سوزان: مصدر الوحي ومصدر الإسناد ومصدر الثروة، ولولا شيء من تورعٍ لقيل إنها مصدر الحياة.
[ [ [
النيل يجري وعلى صفحته الهادئة آلاف الاسئلة القلقة والمقلقة. الشائعة تغلب الحقيقة. الشائعات تقتحم البيوت والمكاتب والفنادق الفارغة من السياح. الشائعة تحبسك داخل ظنونك التي تأخذ الى الخوف، بينما تفرغ الشارع للذين يريدون اغتيال الثورة.
يوماً بعد يوم تغيم الصورة الزاهية للحشد القادر على صنع قدره حتى تكاد تختفي. الميدان في إجازة، لكن البوليس السياسي لا يعرف الإجازات. إنه يقاتل بشراسة دفاعاً عن وجوده، يقتل المسيحي تمهيداً لان يتهم المسلم. ثم يقتل المسلم لتكون فتنة! ليتفضل أهل الميدان الفصحاء في الخطابة والغناء فيتقدموا لحل المشكلة التي ستلد مشاكل أخطر وأفظع!
يستغرب الشباب الذين صنعوا المعجزة أن يغرق «الكبار» في تحديد الخطوة التالية.
يذهبون الى الجيش، يكتشفون أن الجيش لا يعرف الاجوبة. هو يسأل أيضا. فلنجرب! يستدعي من يعرف الكبير فيه. لا ينتبه الى الجانب أو الجوانب الاخرى التي لا يعرفها. الى من يتوجه بالسؤال؟ الى الأمن السياسي؟! ولكن هذا الأمن وضع نفسه في موضع عدو الثورة. لو سئل فسيخدع الجيش ويضلله. يسأل الشباب، فيذهبون الى أهاليهم. الاجوبة ليست على الفيس بوك ولا على التويتر. ثم ان ما تحتويه المعلومات المنشورة على مواقع أصحابها تقدمهم كما يريدون لصورتهم ان تكون. هم يقدمون أنفسهم للغير وفق مطامحهم. لا تكفي الشهادات وسنوات الخبرة. مع من عملوا؟ من أين جنوا ثرواتهم؟! من دربهم؟ ومن رفعهم الى المواقع التي كانوا فيها؟! أين الأميركيون؟ أين إسرائيل؟ أين الغرب جميعاً؟ أين الخليج الذي لا يختار شيوخه إلا من تشهد لهم دوائر المخابرات الغربية.
يطل القلق من عيون الشباب، برغم ان صدورهم ممتلئة فخراً. لقد حققوا المعجزة. قالوا: سنسقط النظام، وصمدوا في الميدان حتى أسقطوه. لكنهم لا يعرفون كيف يبنون النظام الجديد. يعرفون ما قالته الكتب. لكن كل كتاب يحمل تجربة أخرى. وكتاب تجربتهم قيد الإعداد الآن. ثم ان النظام ضحى برأسه فقط ولم يسقط تماماً. إن أركانه ما زالوا قائمين في كل مكان من حولهم. إن اندفع الشباب أكثر أسقطوا الدولة، وهم قاموا بالثورة من أجل أن يستعيدوا دولتهم. كيف يمكن أن تهدد الثورة الدولة؟!
انتهى زمن الانقلابات. الجيش لحماية الثورة وليس لإنجازها. لا يستطيع الجيش حل الأزمة الاقتصادية. نهب أهل النظام الساقط موارد الدولة ورهنوا مصادر الثروة لسنوات مقبلة. رهنوا النفط والغاز. وهبوا الأرض لمن يهين قدسيتها إذا ما مشى فوقها فكيف بأن تكون له يتصرف بها كيفما شاء ويتنازل عنها لمن يدفع له أكثر. نهبوا أموال البنوك. توزعتها الإقطاعيات الجديدة. للحديد ملك. للسياحة ملوك. للأرض الجديدة ملوك. للمصانع القديمة، مفخرة مصر، ملاك جدد اشتروها في سوق النخاسة.
[ [ [
يأتي الاساتذة الى الندوات حاملين معهم خبراتهم الأميركية. يفضلون نموذج الثورة الأميركية على الثورة الفرنسية التي لا يعرفون عنها ما يكفي. يرونها دموية وطويلة الأمد، بعيدة المفاعيل. ينسون الدماء التي صنعت وحدة الدولة الأميركية. يتحدثون عن ماضيها بتعابير حاضرها الامبراطوري. يستشهدون بمارتن لوثر كينغ ليبرهنوا أن أوباما هو ثمرة استشهاد ذلك البطل الأسطوري. يبحثون عبثاً عن أوباما المصري.
يستذكر الشباب أسماء المحترمين من المؤرخين والقانونيين والكتّاب والمبدعين في مختلف المجالات. يذهبون إليهم بالثورة، أو يحتضنونهم إذا ما جاؤوا الميدان ليتفقدوهم. يستقبلونهم بأغاني عبد الحليم حافظ (بالأحضان) والثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام. بأغاني أم كلثوم والألحان الخالدة لسيد درويش. ثم ينتهي اللقاء ولا صورة لدولة الثورة. لنبدأ بالحكومة. حسناً، ولكن ماذا عن «الشارع»؟! الأمن السياسي يخرّب في كل مكان. يحرّض العمال، كل العمال، على المطالبة بزيادة فورية للأجور. يحرّض الموظفين على طلب علاوات وإضافات. يحرّض الشرطة على الإضراب بذريعة الخوف، خصوصاً أن نجدة مؤثرة وصلت من طلاب تونس الى طلاب مصر لمعالجة السيارات المصفحة!
نفذ شباب مصر «التعليمة» فنجحت: في يوم واحد تم تعطيل مئات السيارات المصفحة للأمن المركزي فدب الرعب في أوصاله وهرب مئات الألوف من أفراده، أو موّهوا أنفسهم بخلع البدلة السوداء الملعونة.
لكن الأمن السياسي ليس ساذجاً ولا مكشوفاً. أفراده يجولون بملابسهم المدنية في كل مكان. ملفاتهم ملأى بما أرادوا تسجيله أو تدبيره للخطرين من المواطنين المشاغبين. ثم ان الفتنة نائمة لا تحتاج الى جهد كبير لإيقاظها ودفعها الى الشارع لعلها تجتاح الميدان ومن فيه!
[ [ [
الثورة في مصر عظيمة البهاء. انها أكبر وأخطر مما قدر صانعوها. انها نقطة بداية جديدة لتاريخ هذه المنطقة التي منها وفيها بدأ تاريخ الإنسانية. ان القاهرة عاصمة العالم الجديد الآن. انها تصنع تاريخاً جديداً للإنسان، ليس في دنيا العرب وحدها، ولا في المشرق جميعاً، بل هي تؤسس لتاريخ إنساني مختلف. ان أعداءها يعرفون خطرها أكثر من صانعيها والفرحين بانتصارها.
ثورة مصر إنجاز إنساني باهر، ثقافياً واجتماعياً وعلمياً وسياسياً.
إنها لحظة إشراق شمس جديدة في عالمنا.
ولأنها على هذا القدر من العظمة فإنها بحاجة الى حمايتنا جميعاً.
والميدان ينتظر كل قادر على صنع القدر الجديد للعرب أولاً، ثم للإنسانية جمعاء.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أسعدني زمني بأن أشهد ولادة قصص حب مبهجة، كثيراً ما حولتني الى حارس، أطرد عنها خفافيش الغيرة وسوء الفهم.
مع كل قصة حب اكتملت بزغاريد الفرح كنت أنفخ صدري زهواً، ثم أكتشف أن قلبي صار بحجم الدنيا جميعاً.
الحب يطهرك حتى لتحس أنك مسؤول عن سعادة الناس كلهم، ثم يدهمك فإذا أنت من أولئك السكارى وما هم بسكارى.

Exit mobile version