طلال سلمان

هوامش

مصر ترد على سؤال محمود درويش
ها هي مصر تتدفق قصائد قصائد ليتكامل الديوان في ميدان التحرير: الوجوه ورد التعب، والعيون التي تختزن الحب غسلت بدموع الفرح أوجاع أيام الشتاء وارتحلت إلى الغد تستعجل فجره السَّني.
الكل يجيء معتذراً عن غيابه الطويل. الكل ينتبه إلى أنه كان يغمض عينيه حتى لا يرى فيتعاظم عجزه. الكل يرى الآن، وها هو حيث يجب أن يكون.
تجمعت أم المدائن في الميدان. من الأحياء العشوائية في قلب خطر الموت تحت صخور المقطم إلى فقراء القطاميات، غير بعيد عن قطامية أثرياء المصادفات والصفقات التي لم تعد تنتظر الليل. من بولاق الدكرور إلى شبرا، ومن الروضة إلى الزمالك، من المنيل إلى المهندسين، ومن الدقي إلى مدينة نصر. من المدن الجديدة التي هرب إليها متوسطو الحال من ازدحام القاهرة التي تفيض ملايينها على مداها، إلى المدن المذهبة للصوص الانفتاح وسماسرة العهد الأميركي الاسرائيلي التي كل ما فيها حرام: أرضها مسروقة، وكلفة تشييدها قروض لن ترد، والسيارات هدايا، وحمامات السباحة مكاتب للصفقات التي تشهد عليها أسراب الحسان، المستقدمات من بلاد الشقراوات الساحرات بديلاً من بنات البلد السمينات اللواتي مضى عهد سحرهن بالعيون الغمازة والملاءات اللف. من مدن المقابر التي باتت بملايينها بحجم «دول» يتدفق نهر لا يمكن حجزه… ومن مدن 6 اكتوبر وملحقاتها يتدفق نهر آخر، فإذا القاهرة بحور من الوجوه السمراء. تتفجر الشوارع بالبشر. تتلاقى الأنهار في الميدان الذي غدا الآن محيطاً. تتوالى القوافل، فتفيض لتغمر غاردن سيتي والقصر العيني وميدان طلعت حرب وقصر النيل وصولاً إلى ميدان سليمان باشا والعتبة والأزبكية وباب اللوق وباب الشعرية وباب الغورية.
الكل يريد أن يكون هنا الآن. الكل يريد أن يكفّر عن خطيئة غيابه الطويل. يتفجر الصمت الذي امتد دهراً بالهتاف: الشعب يريد سقوط النظام. يطلق الشعراء قصائدهم المخنوقة. تزغرد النساء المحجبات للشباب الذين يقومون على تنظيم الغضب. تسقط الغربة، يكتشف الجميع، أخيراً، أنهم شركاء في وطن سرق منهم ويريدون استعادته. يكتشف الجمع انهم واحد.
كان الميدان ملعباً لفراغ الخوف.. وكانوا يجتازونه متعجلين، ان هم تباطأوا ازدحم الميدان بهم. والازدحام اعتراض. والتظاهر ممنوع. وحراس الصمت من الرجال البلا وجوه في قوات الأمن المركزي، الأكثر عديداً من الجيش، والتي دربت لتكون أكثر شراسة من العدو. بين فنون التدريب ان تجعل الأخ يقتل أخاه تحت وطأة الظن بأنه ان لم يبادر فسيكون المقتول!
ألف مرة أعيد تشكيل هذا الميدان الذي تتضمن تسميته التحريض، حتى لا يكون فراغه العظيم نداء بتجميع المظلومين والمضطهدين والمقهورين والمشغولين بقوت عيالهم عن حقهم في وطنهم. «ماليش في السياسة، يابيه. سيبني أدور على رزقي. ربنا على الظالم».
هي قاعدة مطلقة: الفراغ مصدر لطمأنينة الطغيان. إن امتلأ الميدان فاض طوفانه على القصر. وحيث الطغيان ترفرف أعلام الهيمنة الأميركية تتوسطها نجمة داوود. والقصر يخاف من خيانة الشركاء الكبار. إن دهمه الخطر تبرأوا منه، ورموه كي يستنقذوا مصالحهم. سوف يتصدرون، فوراً، موقع الادعاء العام: نصحناه فلم يسمع! لم نطلب منه بل هو تبرع، لم نفرض عليه قراراً، بل هو من تقدم الصفوف فانتحر!
^ أبناؤنا أكبر منا وأعلم وأقوى
المشهد يتجاوز الشعر، فمن أين تأتي باللغة التي تليق به. الرجال ينتظمون قصائد شابة ينفر منها الآباء بعد قهر امتد دهراً. الفتيات ذوات العيون المكحلة بالفجر يطفن لمساعدة الشيوخ الذين أصروا على أن يشاركوا متخففين من أحمال السنين. لا يريد أي منهم أن يغيب عن هذه اللحظة التي يكتب فيها تاريخ الأمة في هذا الميدان.
الشوارع تفيض بالبشر الآتين من أربع جنبات المدينة التي بحجم دولة. كلهم ينهون عصر الغيبة. كلهم يريدون أن يكونوا في الغد. التخلف عن الحضور خيانة. التخلف إذعان للقهر. المتخلف شريك الطاغية.
تتوالد الملايين من الملايين. ما أغزر إنتاج مصر الولادة. شباب، شباب، شباب، ملايين من الشباب، والبحر فياض. تكبر مصر حتى تصير بحجم الكون. تصير القاهرة عاصمة الدنيا. هي أم الدنيا مرة أخرى. هي المركز الذي فقدنا بغيابه التوازن في سائر ديارنا العربية.
لم نكن نتصور أن يأتي أبناؤنا أكبر منا. أعلم منا. أقوى منا. أعظم وعياً منا. لم نكن نقدّر انهم يعرفون ما حرصنا على إخفائه عنهم. كانوا يقرأون قهرنا في عيوننا. كانوا يقرأون انكسارنا في جباهنا المطرزة بالإيمان والتسليم بالطغيان وكأنه بعض إرادة الله.
ها هي مصر تنتفض لترد الظلم الفادح عنها. لقد وجهت إلى مصر والمصريين خلال دهر القهر إهانات لا حصر لها. اتهمت في دينها واتهمت في عروبتها. اتهم شعبها بالجبن والوضاعة. اتهم رجالها بنقص الرجولة واتهمت نساؤها بفائض الأنوثة. صارت كلمة «المصري» سبة.
أعطى النظام صورته الكالحة لمصر والمصريين. أنكر عروبته وتنصل من وطنيته فأسقطت مصر من الحساب وشطب شعبها مدموغاً بالتهمة الأبدية انه «لمن كسب».
سقط الأدباء والكتاب من أصحاب الأسماء في إغراء السلطة فقيل إن عصر الإبداع في مصر قد انتهى. صار ظهور كاتب مصري مبدع حدثاً، وهي أرض المبدعين. سقطت السينما المصرية في الفخ النفطي. تحولت نجمات الشاشة إلى راقصات تحت الطلب. تهاوى النجوم في الأفلام الساقطة.
سقطت الصحافة المصرية التي خرّجت أجيالاً من الرواد. بعضها صار مجرد أبواق لسلطة تافهة ومرتبكة ليس لها مشروع سياسي إلا الاستمرار ولو رهينة للنفوذ الأميركي والهيمنة الاسرائيلية.
أُخرج الجيش المصري من دائرة التأثير. أحيل على التقاعد مبكراً. قيل له إن صفحة التحرير قد طويت ولم يعد له عدو قومي أو عدو وطني. نُفخ في الأمن المركزي حتى صار عديده ضعف عديد الجيش. العدو في الداخل. تم تجهيز الأمن المركزي بما يكفي لقمع الثمانين مليوناً.
لكن الدم ينتصر دائماً على السيف، فكيف إذا كان السيف في يد حاكم جبان يختبئ خلف أسوار قصره ثم يهاجم فتية الورد بالبغال والجمال والقتلة المأجورين؟!
^^ لويس عوض لمحمود درويش:
جئتنا في أيام الشقاء
طال الغياب حتى كادت مصر تنكر ذاتها كما أنكرها جنديها العائد من تيه الهزيمة في صحراء سيناء فوقف أمامها يحاول التعرف إلى ما يسكن وجدانه من ملامحها الأصلية، قبل أن يتوجه إليها بالسؤال الموجع على لسان محمود درويش: هل أنت مصر؟
… فهو قد جاء إليها وفي ظنه انه سيجد فيها فلسطين او طريق العودة إليها، لكن لويس عوض فجعه حين بادره مستقبلاً: «لقد جئتنا في أيام الشقاء، يا محمود… جئت تطلب فلسطين ونحن نطلب في مصر مصر..».
كان ذلك قبل أربعين عاماً، وظل السؤال يدوي في وجدان كل من يزور القاهرة فيفتقد فيها عاصمته ومنطلق آماله ومهجع أحلامه، ثم يكتشف أن أهلها يدورون بحثاً عن بلادهم، عن «بهية»، عن «المحروسة» فيغرقون في وهدة الصلح المنفرد مع العدو الاسرائيلي وفي تيه «الانفتاح» الذي أخذ يزوّر هوية مصر ويشوّه تاريخها ويدمّر مكانتها ويقزّمها حتى تصبح مضغة في أفواه قاصدي مجامع الفتنة فيها من شيوخ الذهب الأسود وأغنياء الحروب الأهلية والنهابين من رجال أعمال الانفتاح على المال الحرام.
كانت «بهية» قد ترمّلت حديثاً، واعتلى السدة «بدل عن فاقد» اختار أن يبدل وجه مصر ووجهتها، وارتفع صوت الاعتراض عالياً، وكان الطلاب هم الطليعة، وتحولت جامعة القاهرة الى «مجلس قيادة» لثورة مختلفة. ورد النظام الجديد بالقمع: اعتقل مجاميع من الطلبة وعدداً من الأساتذة الذين اعتبرهم محرضين.
هنا صفحات من الذكريات التي تبعث حية مع مشاهد المواجهة النادرة بين شعب أعزل إلا من إيمانه بحقه في وطنه وبمستقبل أفضل، مستعد لأن يعطيه ماء عيونه وعرق الجباه، وبين مستبد خرف ومرتهن الإرادة للأجنبي لا فرق بين المهيمن الأميركي والعدو الاسرائيلي.
^^^ من حوّل الشيخ إمام إلى مطرب؟!
في مثل هذه الأيام، قبل أربعين عاماً، أسعدني حظي بأن أعيش في القاهرة «انتفاضة الطلبة» التي فاجأت نظام السادات مع بداية انحرافه عن الخط الوطني والقومي.
اصطحبني مهدي الحسيني إلى جامعة القاهرة، التي كانت منطلق الانتفاضة، وكان مهدي مع مجموعة من الأساتذة يدعمونها وان لم يظهروا في المقدمة. اكتشفت ان مهدي هو النسخة العملية لفكر شقيقه الزميل الكبير مصطفى الحسيني الذي سيغدو بعد سنوات قليلة مديراً لتحرير «السفير».
كان للشباب في الجامعة وجه مصر وروحها وكانوا يفترضون انهم ينطقون بصوتها. ولقد وجدوا في الشاعر الشعبي المبدع أحمد فؤاد نجم من يجعل أفكارهم أغاني ترددها الملايين بصوت مطرب من أبناء الطبقة المسحوقة كان يقرأ القرآن على القبور حتى جمعته المصادفات بنجم ليشكلا الثنائي الذي سيعيش في وجداننا طوال الفترة بين الانتفاضتين.
وكنت قد عرفت أحمد فؤاد نجم عن طريق الأديب يوسف القعيد، وروى لي في رحلة امتدت ساعات من التسكع في شوارع القاهرة قصة حياته التي يختلط فيها المبدع بالنصاب والصعلوك بصاحب الرؤية كاشفة الغيب، وابن البلد الأصيل بصاحب السوابق كنشال، لكن كل تلك الملامح كانت تتهاوى وتندثر أمام موهبته كشاعر متدفق وطنية، يغرف من روح شعبه مباشرة ويطلق قصائده فإذا هي أناشيد الناس جميعا، رجالاً ونساء، شيوخاً وفتية، صبايا وسيدات بيوت، خصوصاً وقد أضاف اليها الشيخ إمام الذي يرى ما لا يرى، وهو الضرير، وجع أجيال وأجيال من المصريين المسحوقين بالفقر والطغيان وذل الهزيمة.
«رجعوا التلامذة، يا عم حمزة، للجد تاني»
كان الشباب هم الطليعة. ولقد يسر لي مهدي الحسيني أن ألتقي كل من طرّز أحمد فؤاد نجم قصيدته بأسمائهم: سهام، زين العابدين فؤاد، أحمد بهاء الدين شعبان.
بين ذكريات تلك الأيام التي أراها الآن تتكامل مع الزحف الشعبي العظيم لخلع الطغيان الذي ورث حكم الخيانة بالصلح المنفرد، أستعيد بعض الوقائع ذات الدلالة.
كان شباب مصر يعرفون ما يريدون، لكنهم كانوا بلا قيادة. وجد الطلاب أنفسهم في الواجهة فتقدموا الصفوف واعتقل العديد منهم، فتخلف الآخرون. ورمى النظام فتاتا من التدابير لاسترضاء الجمهور الغائب والذي لم يجد من يقوده إلى أهدافه فانفض الناس، وتحوّل الشيخ إمام إلى مطرب تنظم له الحفلات في البيوت وفي العوامات، فيغني أحزانه طرباً يردد سامعوه الآه طالبين الإعادة.
لم ينزل الناس آنذاك إلى الميدان.
كانوا مشغولين، بعد، بالميدان الأصلي: حرب الاستنزاف التي كان مقدراً لها أن تغير في التاريخ فجعلها الطغيان تغير في الجغرافيا، وبدلاً من التقدم في اتجاه فلسطين، تقدم العدو الاسرائيلي حتى ارتفع علمه بالنجمة السداسية في قلب القاهرة.
أما اليوم فها هو شعب مصر، بملايين فلاحيه وملايين عماله وملايين شباب الورد من فتيته المسلحين بعلوم العصر، يتقدمون ليمسكوا بأقدارهم وليعيدوا كتابة تاريخهم بأيديهم.
ليس ما نشهده تظاهرات مطلبية.
إنها الثورة الحق التي ستكتب تاريخنا العربي الحديث.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أستعيد الآن أطياف عنايات وناجي ومعهما بهجت..
لقد اكتملت قصة الحب وسقط الممنوع..
إن مصر تحتفل الآن بزفاف من كانا ممنوعين من الفرح.
العرس في الميدان، والشهود ملايين.

Exit mobile version