طلال سلمان

هوامش

حوار بين الهموم العربية مشرقاً ومغرباً
على غير موعد، ومن دون تنسيق أو تحضير مسبق، تلاقى في مكاتب «السفير» نخبة من المفكرين والباحثين والكتّاب العرب الذين جاؤوا إلى بيروت للمشاركة في غير ندوة وأكثر من لقاء، وبعناوين مختلفة وإن كان يمكن إدراجها جميعاً في سياق «العصف الفكري» الذي يلامس الأزمات الخانقة التي تنشر ظلالها السوداء على امتداد الوطن العربي الكبير من أدنى مشرقه إلى أقصى مغربه.
أول من وصل ثلاثة من أساتذة الجامعة في الجزائر، سرعان ما جاءت بعدهم مجموعة من المشاركين في ندوة حول «الدولة» نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالاشتراك مع مركز كارنيغي، وكان بينهم سودانيون ومصريون ويمنيون وخليجيون وسوريون.
وكانت مفاجأة طيبة أن ينضم إليهم ـ بالمصادفة ـ مدير تحرير «لوموند ديبلوماتيك» ألين غريش، في حين أعطيت رئاسة الجلسة للسفير ـ مدير مركز عصام فارس الثقافي السفير عبد الله أبو حبيب، بينما اكتفى فرحان صالح وغسان صفي الدين وبعض أساتذة الجامعة اللبنانية من البحاثة والدارسين بمواقع «شهود الحال».
ملأت الهموم القاعة بأثقالها التي تأخذ إلى الحزن، ثم سرعان ما تفجر ضحك كالبكاء وكل يستعرض أوضاع بلاده فيجد أنها أخف ممّا يقدر إذا هو قارنها بما يسمعه من زملائه الآتين من جهات أخرى عن أوضاع بلادهم.
÷ قال أحد الجزائريين: المفارقة عندنا أن خزينة الدولة تفيض بمليارات دخلنا من النفط والغاز، في حين يحتل الفقر مدننا والأرياف، ويزدحم شبابنا العاطل من العمل في الساحات والشوارع. أتعرفون أن عندنا جماعات الفتيان تتزايد أعدادها باستمرار تسمى «موريست» وترجمتها بالعربية «الحائطيون»، وهم أولئك الذين لا عمل لديهم ولا مكان لقتل الوقت إلا الشارع، لذا فهم يتجمعون في بعض الساحات، يستندون إلى حيطان المباني، قريباً من المقاهي التي لا يملكون ما يسمح لهم بدخولها؟
÷ أضاف زميل لهم: ليس هؤلاء من عديمي الكفاءة، بل ان بينهم جامعيين ومنهم مَن أنهى الدراسة الثانوية، ولكنهم لا يجدون فرصة لعمل نظيف يقيم الأود.
÷ قال الثالث ضاحكاً: تتذكّرون طبعاً التظاهرة المليونية التي استقبلت الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك بهتاف «فيزا، فيزا».. كأن أبناء المليون شهيد يريدون الذهاب إلى فرنسا معتذرين عن جهاد آبائهم ضد استعمارها الاستيطاني الذي امتد لمئة وخمسين عاماً.
÷ استدرك أحد زملائه قائلاً: لعل إخوتنا الذين يعيشون في ضواحي البؤس الباريسية يقدمون مثل هذا الاعتذار، في الزمن الحاضر، عبر قيامهم «بالعمل الأسود» الذي يأنف من القيام به الفرنسيون. إن أحفاد الشهداء يعتذرون بعرق جباههم من أحفاد مستعمريهم… ثم انهم قد هجروا اللغة العربية التي بالكاد تعلّموها وعادوا إلى الفرنسية المطعّمة بالنبرة الجزائرية الغاضبة.
اكتفى ألين غريش بالابتسام. لم يكن بحاجة لأن يعلق، ولم نكن بحاجة إلى مزيد من الاستيضاح.
÷ أما بعدما اكتمل النصاب العربي فقد باتت المقارنات أكثر وضوحاً وأشد إيلاماً. قال أستاذ جامعي عمل في تونس لسنوات: لقد استطاع الحكم في الجزائر أن يطفئ النار بسرعة، أخرج ملياراً أو مليارين من الدولارات ورماها في السوق فانحسرت نار الغضب التي أشعلها ارتفاع كلفة الحياة وتفاقم أزمة البطالة.. أما في تونس فالأزمة أكثر حدة، ليس فقط لأن المال العام منهوب كما في مختلف الأقطار العربية (وإن كان قسم أساسي منه يذهب إلى جيوب الحكّام) بل لأن البلاد فقيرة فعلاً، وكانت تعتمد على بعض الرشى الأوروبية. لاحظوا أن الانفجار حصل في الأرياف غير البعيدة عن العاصمة، وأن أول الضحايا كان جامعياً أخذه الضيق بحياة البؤس إلى أي عمل يؤمن له دخلاً يسد الرمق. ولقد اختار أن ينتحر خلف عربة لأنه لم يجد ملجأ للشكوى أو منفذاً إلى الحل، ولو على المستوى الشخصي.
÷ قال الأكاديمي المصري: أما أوضاعنا في مصر فهي الأشد بؤساً. كما في البلاد الأخرى، فالدولة رجل فرد وبضعة معاونين من رجال الأمن. لا أحزاب حقيقية، لا تنظيمات نقابية جدية، ومجلس الشعب الذي فاز أعضاؤه بالتزكية المفروضة لا يمثل الناس ولا يسمع مطالبهم. مع أي تحرك يتدفق إلى الشوارع آلاف من رجال الأمن بسياراتهم المصفحة وهراواتهم وخراطيم المياه وقنابل الغاز. هم فقراء مثل أولئك المتظاهرين، لكن أدمغتهم غسلت وسكنها الرعب على رواتبهم، والخيار أمامهم محدد: تحمي النظام أو تفقد دخلك أي قوت عيالك. إن الفقر يذهب بالعقل. إنهم يتحركون آلياً. كل تجمع خطر. النظام هو مصدر الرزق.
÷ أضاف باحث سوداني: لقد خلقت الأنظمة مجموعة من الغيلان لإخافة الشعب. في الطليعة «الإسلاميون»، بدءاً بالإخوان المسلمين وانتهاء بالقاعدة وسائر مشتقاتها من الأصوليين القائلين «بالجهاد» الذي كثيراً ما يكون «إرهاباً». المأساة أن الإرهاب يصيب الناس في مقتل بينما يبرر للحاكم بطشه. يقدمه بصورة حامي أمن الناس، ومصدر رزقهم بينما هو قامعهم بل سجانهم. فالسلطة تتحكّم بالقطاعات العامة والخاصة جميعاً، من غضبت منه أماتته جوعاً أو دفعته إلى الهجرة والموت ذلاً. الخيار محدد دائماً: لقمة خبز مع مهانة الخضوع، أي إلغاء الذات، أو الهرب إلى البعيد في مغامرة غير مأمونة النتائج.
÷ عاد الأكاديمي المصري إلى الكلام فقال بحزن موجع: الأزمة واحدة في مختلف الأقطار العربية، لكن ما استولد حديثاً في مصر هو إضفاء الطابع الطائفي على الأزمة لتزييف طبيعتها السياسية ـ الاجتماعية. لم يكن المصريون طائفيين يوماً، لكن المعالجة الأمنية للأزمة الاجتماعية لم تتورع عن توظيف الطائفية لضرب وحدة الناس. جاءت بنمط من الإسلاميين لاستعداء إسلاميين آخرين، وأهملت الأقباط الذين تقوقعوا بالخوف وكادوا يخرجون من الدولة وعليها، فصارت حادثة زواج بالإكراه تكفي لإشعال الحريق. لا يمكن أن يستقر الحكم برجل واحد لا بديل منه حتى لو بلغ من العمر عتياً. إن الدستور أداة قمع، وقوانين الطوارئ أداة قمع، والتحكم بمصادر الرزق مجال واسع لممارسة القمع الجماعي. والهجرة في هذه الحالة نتيجة للقمع. و«الإسلامي» بصورته النمطية التي تم تعميمها عالياً هو أيضاً أداة قمع.
÷ قاطعه السوداني قائلاً: كلنا في الهم شرق.. إن نخبة العقول العربية قد غادرت أوطانها، وفي الغالب الأعم إلى الدولة الطامحة إلى الهيمنة على الكون. إننا نخسر أبناءنا مرتين: يتركون بلادنا وهي في أشد الحاجة إليهم، ثم انهم يصيرون من حيث لا يريدون أداة في أيدي الدولة التي لا تخفي مشروعها الإمبراطوري للسيطرة على مقدرات العالم كله.. وما أسهل أن تختطف أبناءنا لتجعلهم في مواجهة أحلامنا بالتقدم. كانوا منا ومعنا، وها هم يصيرون معهم وعلينا.
÷ قال كبير الجزائريين: أما عندنا فتحتل الجهوية مكان الطائفية التي تشعل نيرانها لإحراق المشرق. إن الجهات الأصولية تكاد تتحول في بلادنا، وربما في بلاد عربية أخرى، إلى «قوميات متناحرة». الغرب غرب والشرق شرق. ويمكن الاستعانة بإثارة البربر على العرب وبالعكس، والشاوية على الطرفين معاً. وجنوب تونس غير شمالها، وشمال مصر غير جنوبها وهكذا دواليك.
÷ ضحكت الأستاذة السودانية وهي تقول: حسمنا الأمر عندنا. ها هو الجنوب ينفصل عن الشمال ويذهب إلى مصيره بالديموقراطية بعد طوفان من الدماء… وربما يجيء دور الغرب وبعده الشرق. الجهات تتحول إلى قوميات! والديموقراطية تأتي محمولة بالطائرات وشاحنات السلاح.
[ [ [
انتبه الجمع إلى وجود المثقف الفرنسي اليساري معهم، فتوجه إليه البعض يسأله رأيه… ابتسم ألين غريش وهو يباشر تحليله الرصين بالقول: هذه مشكلة الأنظمة الدكتاتورية. في كل دولة عربية حاكم فرد وحزبه الذي يكاد يكون جهازه الخاص. السلطة في يده، والمال العام في تصرفه. أي أن رزق الناس لا يصل إليهم إلا بأمره، مباشرة.
÷ قال أستاذ جامعي يمني: لقد حلّ الرئيس عندنا المشكلة بأن جعل رئاسته تمتد بامتداد عمره. ثم انه الخليفة أمير المؤمنين وشيخ القبيلة. هو قاضي القضاة والمرجع الأوحد في السياسة والعسكر، في الاقتصاد والمال وحتى في السياحة.. ثم انه ظريف يصارح الناس بطموحاته ونواياه. نحن نتميز بأن رئيسنا ديموقراطي لا يضيق علينا حتى ونحن نخسر أحلامنا عبر ملكه الأبدي.
÷ قاطعه أكاديمي جزائري بالقول: أما نحن فلا نعرف الضحك! هل رأيت جزائرياً غير عابس؟ وحده الرئيس هو المبتسم دائماً. الابتسام من صلاحيات الرئيس.
÷ ضحك الأستاذ السوداني وهو يقول: وماذا نفعل نحن؟! إن نحن لم نبتسم فلن يعرف واحدنا الآخر. إننا نداوي أمراضنا بالضحك.
÷ قال الأكاديمي المصري بلهجة جادة: لقد بلغت مأساتنا الذروة. تصوروا أن المصريين قد فقدوا ظرفهم الذي طالما اشتهروا به! لا نكتة جديدة، إلا نادراً، وفن الكاريكاتور في تراجع. أليست قمة المهزلة مأساة؟
÷ استدرك أستاذ جزائري فقال: أما نحن فقد دخلنا عالم النكتة، برغم أننا معروفون بأننا نعتبر الضحك جريمة ضد الثورة والوطن.
÷ قال الأكاديمي الخليجي: أما نحن فأمرنا مختلف عنكم. دولكم كبيرة تضيق بأهلها… أما في بلادنا التي اجتاحتها العمالة الهندية مطعمة بالباكستانيين والبنغاليين، فيعمد الحكام إلى استيراد مجاميع من البدو العرب، من اليمن وأطراف السعودية والعراق وبادية الشام، لإحداث معادلة سكانية جديدة ذات أبعاد طائفية غير التي كانت لها تاريخياً… ودائماً بذريعة موازنة خطر الاجتياح الإيراني. نستورد آلافاً من المرتزقة ونجعلهم «مواطنين» قسراً لمواجهة خطر موهوم لا يمكن حله باستفزاز «المواطن الأصلي» باستيراد من لا علاقة له بالأرض وتاريخها ليكون «بديله» في حقوقه التي لما ينلها كاملة بعد.
طغاة وعجائز.. والشعب شباب!
في نهاية الجلسة الطارئة لهذا الحشد من المثقفين العرب جلسنا نحاول تلخيص النقاش مستفيدين من حكمة ألين غريش الذي جاءنا مثقلاً بالهموم الأوروبية وأبرزها مخاطر الإفلاس التي تتهدد عدداً من الدول المطلة على المتوسط (البرتغال، إسبانيا، إيطاليا) فضلاً عن «اختفاء القيادات التاريخية» كتلك التي ابتدعت الاتحاد الأوروبي الذي احتوى العديد من «الدول الفاشلة»، إما بسبب من أزماتها الاقتصادية، أو بسبب من تخلفها قياساً إلى الدول المتقدمة، هذا بغير أن ننسى الهيمنة الأميركية والرغبة شبه المعلنة بالتفرد في القرار.
لم يكن صعباً استخلاص الأسباب المباشرة لهذه الأزمات الخطيرة التي تهدد العديد من الدول العربية في كياناتها السياسية أو في أمنها القومي فضلاً عن حياتها الثقافية وتطور مجتمعاتها:
أولاً ـ إن أكثرية الدول العربية يحكمها دكتاتوريون بلغوا من الأمر عتياً.. وإذا كان أمر الممالك مفهوماً، فإن العديد من الجمهوريات تحولت إلى ما يشبه الممالك أو الإمبراطوريات يحكمها فرد واحد، يعاونه بعض رجال الأمن وقد انضم بعض رجال الأعمال المشبوهين في مصادر ثرواتهم إلى نادي الحكم مؤخراً. ولقد اغتصب كل من هؤلاء لنفسه صلاحيات الخالق، فهو يمنح الرزق أو يمنعه، يتصرف بالدولة تصرف المالك بملكه. صارت الدولة مزرعة. تهاوى مستوى التعليم الرسمي ونشطت المدارس الأجنبية وهي غالية الكلفة لا يقدر عليها إلا السارق أو المرتشي أو الوارث أو المستفيد من قربه إلى السلطان. إن أجيالنا الجديدة تنشأ غريبة عن بلادنا، بل لعل الكثير من أبنائنا يكرهون أوطاننا التي يحتجزها القمع، وتسود فيها الركاكة ونقص الثقافة وانعدام الذوق. إن أبناءنا يهجرون لغتنا التي لا تطعم خبزاً ويهربون إلى اللغات الأجنبية لأنها وسيلة الرزق… في الخارج، بل وحتى في الداخل، حيث يتزايد عدد الشركات الوافدة والتي تجد من بعض أهل النظام شركاء أو واجهات محلية.
ثانياً ـ إن معظم الحكام العرب أبناء عصر آخر، لا يعرفون شيئاً عما استجد من علوم وتقنيات وآداب وفنون، أي أسباب الحضارة، في العالم. إنهم لا يعرفون الدنيا. يبيعون ولاءهم للأقوى، وهو حتى إشعار آخر الأميركي (ومعه دائماً الإسرائيلي) بوصفه ضماناً لاستمرارهم في السلطة، ثم يفتحون له البلاد على مصراعيها.
ثالثاً ـ إن انشغال الناس بهموم عيشهم يبعدهم عن قضايا وطنهم، خصوصاً أن الأحزاب السياسية قد اندثرت أو تكاد، أما النقابات فقد سيطرت عليها السلطة منذ زمن بعيد، ثم انها اشترت المثقفين الذين تسخّر غالبيتهم أقلامها للدفاع عن السلاطين، وهذا يفسر غربة الأقلام، كتاباً وشعراء، وهجرة المبدعين، وانحطاط المستوى في معظم الأعمال الفنية (السينما، المسرح، الأغنية واللحن إلخ..).
وضع الجميع أصابعهم على الجرح: غياب الحركة الشعبية بالأحزاب والنقابات والهيئات والتجمعات والنوادي الثقافية. صارت كل دولة مزرعة للحاكم وهو في الغالب الأعم شبه أمي، ثم انه ابن جيل آخر، معدوم الثقافة (وبين حكامنا من لا يعرف القراءة السليمة، ولا يتقن أية لغة أجنبية، ويفتتح جامعات متخصصة في المعارف الحديثة، ويستخدم المنتجات الجديدة للحضارة جاهزة ومعها من يشغلها).
… وها هي الشوارع تمتلئ بجماهير بلا قيادة، ولا برنامج غير الغضب والمطالب المتناقضة بين الدين والعصر لتواجه بالسلاح الذي لا يخطئ: السيف مع الذهب.
ويكون علينا انتظار جيل آخر في عصر مختلف تماماً!
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أعرف قصة حب امتدت عبر مهاتفة، بين بلدين متباعدين، لمدة سبع ساعات. وحين التقيت العاشقة التي وجدت ما تقوله لحبيبها أهدتني ديوان شعر كتبه فيها من منحته قلبها بينما هي تنظم حبها قصائد من همس دامع.

Exit mobile version