طلال سلمان

هوامش

اتحاد الكتاب: مغامرة تستحق مهرجان الغياب..!

ليست لي «علاقة مهنية» باتحاد الكتاب اللبنانيين، لكنه يعنيني ـ بطبيعة الحال ـ كمؤسسة وطنية للثقافة، وكإطار جامع للكتاب، في مختلف مجالات الإبداع… مع الوعي، سلفاً، بأنه كأي إطار «نقابي» يفترض ـ بطبيعة تكوينه ـ ان يقبل في عضويته أصحاب الأقلام والأفكار والآراء، الذين سيكونون ـ بالضرورة ـ مختلفي النشأة والتوجهات، تتعدد انتماءاتهم الفكرية بتعدد المدارس، خصوصاً في عصر العولمة التي ضاعت أو تكاد تضيّع الهويات الوطنية والقومية، واختلطت العقائد والأيديولوجيات بمنتجات عصر ما بعد الرأسمالية وما تغيّبه العولمة من مكونات الذات أو تخلطه بمكونات الأخيرة، حتى لا تكاد تعرف للأصل أصلاً.
ولقد تابعت بكثير من الإشفاق ضمور الاتحاد وانفضاض الكثير من الكتاب، روائيين وشعراء وقصاصين، عنه في سنوات الحرب الأهلية، ونشوء العديد من المنظمات البديلة، التي تسابقت على حمل الراية، تحت تسميات كثيرة، بعضها يفخم الاسم ليموّه الطائفية بالجغرافيا، وبعضها الآخر يعظم المكان بالجهاد ليموّه بدوره الطائفية بالتوجه السياسي الحزبي…
وبقدر ما تزايدت أعداد الكتّاب وتعددت مدارسهم وتبدلت المفاهيم والقيم، صارت تجمعات الأدباء والمتأدبين أشبه بالجمعيات والمنظمات المستحدثة على عجل، في إطار ما يسمى «منظمات المجتمع المدني» حيث تختلط الأهداف بالأغراض وتضيع الهويات «المحلية»، وتنعدم ـ إلى حد كبير ـ المقاييس والمعايير.
وفي ما خص الكتابة ـ شعراً ونثراً، رواية وقصاً ـ فقد تلاشت حتى كادت تختفي تماماً، تلك الأسس والقواعد التي نشأت عليها أجيالنا منذ دهور، لتحل محلها قواعد مبتدعة جديدة تستند إلى ما يسمى «ذائقة القارئ» في عصر السرعة واختزال المشاعر والأحاسيس والتعويض عن الكلمات بالنقاط التي تستطيع التعبير بفصاحة لا تملكها الأخيلة في عصر الكمبيوتر والانترنت والفايس بوك الخ.
ذلك، في أي حال، موضوع آخر، لكن واقع الأمر ان اتحاد الكتاب في لبنان قد تحول في عصر الحرب الأهلية، إلى ما يشبه، «التكية» أو «النصب التذكاري» لعصر الكتابة والإبداع، فهجره كثيرون إلى منظمات ومؤسسات استولدت على عجل، تارة كبدائل مؤقتة سرعان ما صارت دائمة، وطوراً كمساحات للتلاقي والكلام في شؤون ما بعد الكتابة.
ومثل غالب المؤسسات «التاريخية» في لبنان التي دمرها الانقسام، تارة لأسباب سياسية، وطوراً لغلبة الموجات الطائفية، تحول اتحاد الكتاب إلى ما يشبه «المؤسسة الحزبية»، إذ لم يتبق من أهله فيه إلا من صمد لعمليات الرحيل أو الترحيل أو الاغتراب (طوعاً أو قسراً) خارج الوطن أو داخله، لا فرق…
فجأة، وعلى غير انتظار، وفي استفاقة متأخرة على الواقع المزري، «تطوع» عدد من الكتاب، وبينهم أدباء معروفون وشعراء متعددو المدارس، لإنقاذ «موقع التأثير الوجداني» هذا، وإعادته الى… الحياة!
كان في طليعة «الفدائيين» كاتب يتحدر من تجربة سياسية ـ ثقافية عريضة هو «زميلنا» سليمان تقي الدين، الذي يحمل على كتفيه تراث أسرة أطلت على السياسة من موقع ثقافي وبرز منها العديد من الكتاب والمؤرخين والشعراء والمبدعين حتى كادت تكون مجمعاً ثقافياً قائما بذاته.
خاض سليمان تقي الدين مناقشات واسعة قبل الإقدام على خطوة في قلب اليأس… ولما اكتشف مدى الصعوبة قرر خوض التحدي، مستعيناً بوعيه بالتلازم الأكيد بين المعارك السياسية الدائرة حول هوية لبنان العربية التي تتخذ من التغريب بذريعة الحداثة أو من اختلاف العصور التي قصرت العروبة عن فهمها فظلت أسيرة ماضيها، وبالتالي فقد انتهى زمان الآداب العربية شعراً ونثراً، رواية وقصة، مسرحية وأغنية، وصار لزاماً على كل من يمسك قلماً ان يكتب بلغة أخرى ولقراء آخرين، لا يهم كم هو عددهم وسلامة ذائقتهم الفنية، ومدى ارتباطهم بأرضهم وبقضايا أمتهم، المهم ان يكونوا ثقافويين طليعيين وأن تكون قصائدهم ثورية في ريادتها حتى لو لم يفهمها الجمهور… فـ«الثورة هي مؤنث الثور» على ما قال يوماً سعيد تقي الدين مضيفاً ان «الجمهور بغل» وهو يتهكم على أدعياء تمثيل إرادة الشعوب!
[ [ [
المهم… ذهبنا تلبية للدعوة التي أطلقها سليمان تقي الدين لإعادة وصل ما انقطع، ومحاولة إعادة تجميع من انفرط عقدهم من الكتّاب، أدباء وروائيين وشعراء وكتاب قصة ومجتهدين يحاولون ان يضيفوا سطراً إلى كتاب الثقافة.
كانت ثمة تظاهرة داخل قصر اليونسكو حيث احتشد المئات من أهل الكتابة ومتذوقيها. وكان واضحاً ان الجميع يأتون بعضهم الى بعض من البعيد، وكانت «المقاطعة» واضحة… فقد غاب عن الحفل جمهرة من الشعراء والكتاب المعروفين والذين قرروا ـ نهائياً ـ حجب الثقة عن الاتحاد، كائنة ما كانت صيغته.
كذلك كان واضحاً ان الأكثرية من الكهول، وأن نسبة الأدباء الشبان قليلة… وأن أصدقاء الماضي لم يتلاقوا منذ دهر، وأنهم فقدوا الصلة ببعضهم، أو انهم كفوا عن الاستماع إلى بعضهم الى بعض.. من هنا كانت مشاهد العناق بعد افتراق، أو تنهدات التحسر على من غادر دنيانا.
كان الحزبيون القدامى، من تقاعد ومن وهو مستمر، موجودين، لهم ذكرياتهم الممتدة مع هذا الاتحاد العتيق… وقد أطربهم تقديم الحفل بقصيدة عمودية، كما ان احتشاد هذا العدد من الأدباء والمتأدبين قد أنعش آمالهم بأن تصير لهم دار لقاء ودار عناية بإنتاجهم.
أما سليمان تقي الدين فكان يعرف انه يخوض التحدي مع ذاته، أولاً، ومع المستنكفين ثانياً، ومع كثير من المتأدبين الذين قد ينفعون كجمهور لكنهم لا يستطيعون ان يقدموا الكثير لتجديد الاتحاد.
انها مغامرة تستحق التشجيع، فإن نجحت كان لسليمان تقي الدين أجر من حاول فنجح، وإن فشلت كان له أجران، واحد له وآخر للذين غابوا ليفرحوا بالفشل الذي نجحوا في إحرازه.

لو أننا نودعهم في «متحف النسيان»!

في قصر اليونسكو، أيضاً، وفي توقيت واحد مع انعقاد الاحتفال ببعث اتحاد الكتاب، وبإشراف مباشر من المايسترو انطوان حرب الذي يجب ان يعاقب بقسوة على حفظه هذا القصر وعلى فتح أبوابه أمام مختلف أنواع الإبداع، أقيم بصمت مطلق معرض لفن الكاريكاتور في الوطن العربي.
نشأت الفكرة في ذهن رسام «السفير» سعد حاجو الذي «هاجر» إلى السويد لأسباب لا تخفى على القارئ اللبيب، ثم استدعى إلى مهجره زوجته الرسامة سحر برهان…
ولكسر حاجز الغربة، وسعياً إلى الدفء فقد اندفع سعد حاجو يبحث عن رسامي الكاريكاتور في تلك البلاد الباردة… وتسنى له، مع الوقت ان يتعرف إلى عدد منهم، وأن يكتشف ان ثمة مؤسسات ترعى مثل هذا الفن وتشجع المغامرين في احترافه. ولقد نجح هذا الفنان العنيد، ككل الأخوة الأكراد، في إقناع بعض هذه المؤسسات بأن ترعى معارض مشتركة وبالتناوب لرسامي الكاريكاتور من العرب ثم من أهل أقصى الشمال الأوروبي البارد.
المهم ان سعد حاجو وصل إلى بيروت ذات ليل مع زوجته الشاطرة يصحبهما من فريق العمل السويدي كوستا اكونومو وإيريك بيرغن، وعشرات اللوحات لرسامين عرب.
والمهم ان انطوان حرب الذي يمارس فن الكاريكاتور شفهياً، والذي يتذوقه رسماً كما يتذوق الشعر والخمر والجمال وسائر أنواع الإبداع الإلهي والإنساني قد شارك شخصياً ـ وبحفاوة ملحوظة ـ في تعليق اللوحات، وفي تقطيع القاعة حتى لا يذهب «الازدحام المتوقع» بتناسب مقامات الرسامين المشاركين وسبقهم إلى الإبداع في هذا المجال المعبر عن الذائقة الشعبية المرهفة.
تم توزيع مئات من الدعوات مصحوبة باتصالات هاتفية مباشرة لكل من افترضنا انهم معنيون: من أهل الثقافة، خارج وزارتها البكماء وداخلها، وأهل السياسة ممن يتقنون فنون الفتنة والإثارة في الشارع ولا يتذوقون الرسم عموماً، ويتعاملون مع الكاريكاتور على انه فن إضحاك الجمهور من الخصوم، وجمعية الرسامين التشكيليين، وكذلك بعض الخارجين على هذه الجمعية، إضافة إلى أهل الإعلام وكل من افترض انه معني بفن النقد، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وبوصفه المدخل إلى الوعي..
أوفدت المؤسسات الإعلامية، محطات التلفزة بشكل خاص، من «يغطي» الحدث: محرر أو محررة ومصور وكاميرا، وبعض الأسئلة الفطرية. لماذا التعب فليس ثمة مشاهير من الشتامين المحترفين.
كان في المعرض حوالى مئة لوحة لكل من: الفنان الكبير الذي فقدناه مؤخراً، محيي الدين اللباد، والفنان الكبير الآخر الذي فقدناه قبل سنوات بهجت عثمان، والمبدع العظيم الذي «أزاحه» الطغيان والانحراف ناجي العلي (فلسطين)، إلى جانب أحمد حجازي وإيهاب وحسن حاكم ونبيل تاج وجورج بهجوري (مصر)، وعلي فرزات (سوريا)، وكاروري ـ أحمد هارون (السودان) وأمجد رسمي (الأردن) وعشرات غيرهم.. أما اسم المعرض فكان «بين الجد واللعب».
كان على الضيفين السويديين، ومعهما سعد حاجو وسحر برهان، وبعض أسرة «السفير»، ان يشرحوا هذا المعرض الذي يقام مثيل له في جامعة نوركوبينغ السويدية بين 6 تشرين الثاني و12 كانون الأول المقبل، بأبعاده السياسية والإنسانية، ودائماً بالاشتراك مع «متحف النسيان» وهو متحف بالمعنى المجازي مهمته السخرية من مهمة المتاحف، في حين انه أقرب لأن يكون مركزاً ثقافياً.
كيف تشرح لمن لا يعرف شيئاً عن هذا الفن الرائد، الذي يلعب دوراً يزداد تأثيره على «فهم» السياسة بجوانبها الاجتماعية والاقتصادية، معنى الكاريكاتور، غير انه فن الإضحاك من الذات. كيف تقيم دوره في نشر الوعي، وفي نقد جوانب القصور والتخلف في حياة الفرد وكذلك المجتمع في الوطن العربي.
لقد بحث حملة الكاميرات عن «نجوم» أو «مشاهير» فلم يجدوا غير لوحات تسخر من أولئك النجوم والمشاهير، وتحرض الجمهور ضد التبعية والانسياق وراء الزعامات أو المفاهيم أو التقاليد البالية بوصفها «قيماً» وهي ليست بالقيم؟!
كيف تشرح لمن لا يعرف غير السؤال عن موعد انفجار الفتنة، أو ذلك السؤال الذي يستدر جوابه رداً عنيفاً من الخصم، من هو ناجي العلي وماذا يعني طفله العظيم «حنظلة»، وكيف تشرح دلالات «إمبراطورية بهجاتيو العظمى» وإمبراطورها الفذ «بهجاتيوس»؟! كيف تشرح مقاصد محيي الدين اللباد الذي أراد للإنسان ان يستخدم ملكة «النظر» ليرى فيفهم ما وراء الصورة ودلالاتها التي لا تظهر مع انها هي أصل الموضوع؟
كيف تشرح الواضح الذي قدمه رسامون مبدعون من السودان الذي تكاد تنهيه مأساته الوطنية، أو الجزائر، أو تونس، أو المغرب، أو فلسطين المحتلة، وهم بمعنى من المعاني رواد البحث عن الغد الذي تكاد تغتاله أنظمة التخلف والدكتاتورية والجهل؟
لقد نجح المعرض وسقط الجمهور، مرة أخرى… ولعله كان حرياً بنا ان نتعاقد مع راقصة أو فرقة دبكة أنشئت على عجل أو على مطربة صوتها في حركات جسدها، لتقدم هذا الفن الراقي فتستقطب له بعض الجمهور الذي أفقدته الهشاشة والركاكة في اللغة كما في الأداء السياسي كما في سيادة «قيم» الحرب الأهلية القدرة على التذوق.
ولنأمل ان يضم «متحف النسيان» غداً كل هؤلاء الذين يريدون لنا ان نغتال حياتنا قبل ان نعيشها، أو ان نرتضي العيش في ظلهم الوارف، وقد حرمنا نعمة السؤال.

مــن أقــوال نســمة

قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهــنة إلا الحب:
ـ لا أعرف لماذا يتكاثف حضورك خلال غيابك…
ما أعرفه انك حاضر في حتى لتشغلني عن نفسي..
مع ذلك أعيش في غيابك متعة اللهفة إلى حضورك الجديد.

Exit mobile version