طلال سلمان

هوامش

هاني فحص: ماضٍ لا يمضي وحاضر لا يحضر
على امتداد ألف عام من الصداقة، اتفاقاً واختلافاً حتى الحرد، عجزت عن معرفة السيد هاني فحص بتجلياته جميعاً.
كنت كلما توهمت أنني قد عرفت «كل» الرجل ـ الظاهرة وأحطت بعوالمه المتعددة، اكتشفت له وجوهاً أخرى تلفها براءته التي قد تحسبها سذاجة إلى أن يباغتك بتظاهرة يزدحم تحت عباءتها «جمهور» هاني فحص.
هو، بداية، «السيد»، رجل الدين النجفي، وهو «العالم» و«العلماني»، وهو المزارع ـ الفقيه ـ قائد التظاهرات الشعبية الذي طالما احتسبه «اليسار» من أهله، حتى انه رشحه للانتخابات النيابية عن مقعد شغر بالموت في النبطية.
ثم انه المتطوع لنصرة أية ثورة أو حركة تغيير على امتداد الأرض العربية والإسلامية، حتى من قبل أن يعرف ـ بالدقة ـ قادتها أو برنامجها… وهكذا اندفع لنصرة الثورة الفلسطينية في ظل اعتراضاته على جموح بعض قياداتها متخطياً شكوكه أو استرابته بنمط مستهجن من التكتيكات التي تأخذ إلى تحالفات غير طبيعية أو إلى مصادمات لا ضرورة لها… وهكذا حلّق ابن جبشيت المتمرد على ذاته قبل محيطه، مضطهد أهله قبل «الأغراب»، طائراً بجناح من أحلامه إلى الثورة الإسلامية في إيران متكئاً على معرفة يقينية ببعض من افترضهم بين قادتها إلى جانب الإمام الخميني، ليعود منها مشياً على الأقدام، عبر تركيا، ومن دون خفي حنين!
ولأنه تعوّد أن يعلن رأيه قبل أن يتفحص السامعين مفترضاً أنه الداعية إلى التغيير بل والتنوير، فقد مكانه «الشرعي» الذي افترضه حقه داخل المؤسسة الدينية، برغم انه كان صديق الإمام المغيب موسى الصدر والرفيق المقرب إلى العلامة المجتهد محمد حسين فضل الله وخدين الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين..
ولأنه «علماني» مصلوب على باب المرجعيات الشيعية، فقد أعطي موقعاً بارزاً في حوار الأديان، على مستوى لبنان، حيث تقرر السياسة وظيفة المؤسسة الدينية ورجالاتها، قبل ان يؤهله نجاحه في منتدى الهاربين من طوائفهم للوصول إلى «السينودس» يحف به البطاركة ليقدموه إلى بابا الفاتيكان، وهو القادم من مسيرات اليأس لزارعي التبغ في جبل عامل حيث درس الاعتراض في كتب الإيمان فأخرجه علماء السلطان من إيوانه ليذهب إلى الشعر فينتج دواوينه التي تشف فيها روحه عشقاً للحياة والجمال والحب كما لم يتذوقه «العامة» أي الشعراء جميعاً.
في كتاب هاني فحص الجديد ـ القديم والذي عدل في سياقه كما في مضمونه فاضطر إلى تعديل في العنوان من «ماض لا يمضي… ذكريات ومكونات عراقية» إلى «ماض لا يمضي… ذكريات بين التبغ والزيتون والزعفران»، رحلة أول العمر وأوسطه، وقد أرادها عراقية نجفية، ولكنها انتقلت من لبنان إلى فلسطين إلى إيران، عبوراً بمصر ثم تونس وسوريا، وان ظلت «الطفولة» مسراها حتى بعدما جلل الشيب صاحبها.
«أم حسن» هي الراوية والرواية. هي المحور ومرتكز الدائرة. هي البيت والطريق إلى الحوزة ومنها، وهي جبشيت (مع انها ليست منها إلا بالانتماء الطوعي)، وهي التين والزيتون والقمح والتبغ والعنب والبركة والحجارة، وهي «والدة» الشيخ راغب حرب ـ شهيد الأمة ـ والضيعة والأهل، هي «أم حسن والزوجة بيتا».
و«أم حسن» هي هي، «الأم زويا» كما سماها أحد كوادر التنظيم الشعبي قادماً من منظمة العمل الشيوعي قارئاً رواية مكسيم غوركي أو سامعاً عنها.
أما الكتاب فيجمع هاني فحص بين دفتيه بعض ما جرى به قلمه، هو «المتهم بالشعر، المعروف بالأدب وكتابة المقال والبحث والحوارات الصحافية والتلفزيونية والإذاعية، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات اللبنانية والعربية والكتابة في الصحف إلى الخطابة التقليدية»… ولكنه هنا، أي في هذا الكتاب، آثر أن يكتب عن العادي جداً، لهذا فهو يقول: «كتبت، إذن، عندما تذكرت، والذاكرة تأتي وتذهب من دون قاعدة. وأحيانا كنت أتذكر فأقوم لأكتب ما تذكرته فأنسى… وأفك عزلتي بين أهلي فتنهمر الذاكرة ولكني أكون قد اندمجت في حال أخرى، وعندما يأتي الموعد الذي أرجأت إليه الكتابة يعاودني النسيان، وفجأة تتدفق الذكريات فأملأ الصفحات وحواشيها لأنشغل صباحا في فصل الفقرات بعضها عن بعض، ولا أوفق في أغلب الأحيان».
مع «أم حسن»، قبلها وبعدها، يعرّفنا السيد هاني إلى أبيه: «أبي لم يكن في شبابه وحتى الستين من عمره يعتني بملبسه ومأكله ومشربه.. بعدها أدركه الوهن فاستسلم لأختي ففرضت عليه تحسين مظهره»، أما جده «فقد بقيت إلى فترة متقدمة من عمري ممتلئاً بصورته. فجدي لأبي في ذاكرة القرية عفيف البطن والفرج واللسان، نظيف الكف، أسمر غامق، ثاقب البصر والبصيرة، ضد الجور والباطل، صريح جريء، فقير كريم، مضياف حنون، وزوجته ـ جدتي ـ تعتبر كل محاسنه مساوئ».
يتقدم السيد هاني فحص داخل طفولته التي لمّا تكتمل، قاطعاً المسافة بين جبشيت والنجف بسرعة منعته من أن يحيط بالمشهد، حتى إذا عاد كان عالمه الطفولي قد تبعثر في غمرة الهبات الثورية التي فرضت فلسطين ـ القضية برنامجاً لكل تغيير. وكان الجنوب مسرحاً فذاً، فهو البوابة التي تأخذ إلى مصر عبر فلسطين، وهو بوابة فلسطين إلى سوريا والأردن، وهو الكربلائي العراقي بثقافة الاستشهاد الحسينية، ثم انه «المطار» الذي حطت فيه الثقافة الماركسية الوافدة مع أوائل الخريجين العائدين من دول المعسكر الاشتراكي بشهادات الجدارة، مطعمة بنكهة ناصرية يصعب شطبها وبتراث بعثي لم تكن قد أفسدته لوثة السلطة.
وفي حين يغمر الشيب لحية المناضل الذي يرفض ان يتقاعد، والذي لا يتعب من البحث عن بذور الثورة في أي مكان ليلتحق بها، مع وعيه انه قد يتعجل الأمر فيفسده، أو أنه قد يتأخر قليلاً فيصل بعد انتحارها بالتطرف أو باليأس، فإنه ما زال يتقدم داخل كهولته نحو الطفولة وقد اتسمت صورته بشيء من وقار التجربة الفذة الحافلة بالانجازات التي يراها قليلة والخيبات التي استهلكت آماله العراض، وان لم تدفع به إلى اليأس او الاعتكاف حردا او اعتراضاً او تمرداً على الذات.
«السيد» الذي يعرف أكثر مما يجب، والذي لا يعرف كيف يستثمر ما يعرف لا للارتقاء في السلّم الوظيفي ولا للكيد لمن منعوه من الوصول إلى حيث يستحق، يضيق أحيانا بثقافته وعلومه وتجربته العريضة التي لم يستطع ان يوظفها في مشروع طالما أعد له المسودات، وطالما سافر بالطائرة او السيارة او على ظهر بغل او مشياً على الأقدام من أجل استكمال حلقاته ليفجع بأن من افترضهم شركاء قد نسوه أو تخلوا عنه: «قادتنا الأخطاء الكثيرة إلى الصواب حتى تمنينا ان نخطئ في كل شيء، لو كان ذلك في يدنا، لنتعلم الصواب في كل شيء وعلى حسابنا».
كانت جبشيت قرية صغيرة في جبل عامل فمد السيد هاني فحص حدودها لتتسع للعراق كله، بماضيه ما قبل البعث وما بعده، ثم تضيف اليه ايران بغير ان تهمل إمارات الخليج، وبغير ان يهمل مصر ـ المركز والقيادة المعطَّلة والمعطِّلة.. وكانت جبشيت قرية تطل على فلسطين ولا تراها فجعل «السيد» فلسطين القبلة والمنارة.
ومع جبشيت يطل طيف شيخ الشهداء راغب حرب: «بكى أبي شوقاً إلى أطفالي ثم انفجر بالبكاء وهو يردد بحروف متقطعة: مات الشيخ راغب يا أبي. لقد كسروا المحراث».
صار الشيخ راغب حرب الحكاية التي تضيف إلى ذاتها جديداً كل يوم: «رأوا نارا تلتهب قرب قبر الشيخ راغب. صباحا دق الجنود اليهود باب منزله. فتحت زوجته. صرخوا لها: أين الشيخ؟ قالت: قتلتموه. ردوا: لا، أمس ليلاً قام من قبره، أطلق قذيفة آر بي جي فقتل اثنين من جنودنا».
يختم هاني فحص: «سلام يا شيخ راغب. أنا مشتاق، سوف أنتظرك على سطح القبو أو عند باب الأقصى».
[[[
ليس أبهى من الشعر خاتمة للحديث عن «السيد». هنا مقطع مستعار من «تقاسيم على الأبيض» نشرها السيد هاني فحص قبل أيام ورأيت فيها ما يعوّض النقص في تقديمي:
ماذا قلت للنورس؟
ماذا قال لك النورس عندما حط على أرنبة أنفك ثم طار وحط على القلوع؟!
لوحت له ولم يبادلك؟ ماذا بينك وبين النورس؟ أوكنت تخمن أن البحر يكتم سرك؟! متى تدرك أن قلباً واحداً، قلباً واحداً، وحده يصلح للأسرار؟
هل قتلت؟ هل باشرت تقتل؟ هل تسببت بقتل؟ هل حوّلت عيداً إلى مأتم؟
إذن، على أي دم تتكئ لتصل؟
نستريح الآن من طعنة بيضاء… تأوي إلى ظل وردة بيضاء تتألق في كفن أبيض؟
دعك وطنا لا يعرف يوما أبيض!
تعال إلى ورقة بيضاء، تعال إلى حجر أبيض،
تعال إلى غزالة بيضاء، تعال إلى امرأة بيضاء تخرج من ذلك الحجر الأبيض ترتدي شالاً أبيض، ترقد على هذا الورق الأبيض.
أما خاتمة الشعر فمزيد من الشعر:
«وعاذلة تغدو عليّ تلومني
على الشوق لم تمح الصبابة من قلبي»
بارك يا سيد.
عمر الزعني: في انتظار الزنود القوية وصفاء النية!
قلة من الشعراء تسكن وجدان الناس فلا تغادرها حتى لو غيب الموت الشاعر وجمهوره الأول، ذلك ان الشعر ينتقل كأغلى الإرث إلى الأجيال التي تأخذ عن أهلها الطموحات والخيبات وسياق النضال من أجل حقها في حياة أفضل.
منذ نصف قرن غادرنا عمر الزعني، لكنه ما زال شاعر الشعب، يقيم في الذاكرة ويطل كل يوم، مع زهو الانتصار ومع حرقة الهزيمة، مع وجع التيه عن الطريق، ومع خيبة الأمل بالحاكم، مع النقمة على المستبد والمحتكر والمرفّه عن نفسه برغيف الفقير، ومع التحسر على غياب الحركة الشعبية وفراغ الشارع من أصحاب القضية.
من بيروت التي ولد في حي البطريركية برمل الظريف فيها، لوالده الشيخ اليشرطي الشاذلي محمد الزعني ـ القطب الصوفي وتاجر الحنطة والشعير عالسور، إلى المدرسة الحربية في حمص ليخرج ضابطا في الجيش العثماني مع انفجار الحرب العالمية الأولى.
لكن الفتى الطموح عاد ـ بعد هزيمة الأتراك ـ إلى جامعة القديس يوسف (اليسوعية) ليدرس ويتخرج منها محاميا، سرعان ما كان له مكتبه في شارع المعرض (بمشاركة صديقه عمر فاخوري) ـ ومن هنا تسميته «مكتب العمرين»… ثم عمل مساعد قاض في المحكمة البدائية. قبل ان تتدفق موهبته فيبدأ كتابة الشعر الشعبي ناقدا، معترضا، محرضاً على الثورة، متخفيا بأسماء مستعارة منها «شاعر الجزيرة» و«المتحجب الشهير».
لكن الشعر فضّاح، لا سيما حين يسري النقد بين الناس فيوحدهم على مطالبهم ضد المتحكم والمتجبر والظالم… وهكذا فقد طورد عمر الزعني واعتقل وتم «نفيه» إلى البترون بعد قصيدته الشهيرة التي تم تجديدها وغناها المطرب الكبير وديع الصافي بألحان الموسيقار المبدع محمد عبد الوهاب:
«بدنا بحرية، يا ريس، صافيين النية، يا ريس
«بزنود قوية، يا ريس، أبدا ما تحلس، يا ريس
بقلك ب حرية، يا ريس، مش خرجك ريس، يا ريس»
كان رئيس البلاد حينذاك شارل دباس، أما السلطة جميعاً فكانت للمندوب السامي الفرنسي.
كانت عين عمر الزعني تركز على الأخطاء والمساوئ والظلم وانحراف الحكم وتبعيته للأجنبي. وهو لم يتهاون مع غفلة الشعب وسكوته وهربه من ميدان مواجهة الخطأ:
«الدنيا قايمة والشعب غافل
راحت بلادكم/ ما حد سائل»
عمل عمر الزعني في مجالات عدة: علم في المدرسة العباسية، إذ تولى فرقة المزيكة فيها، وهي كانت لصاحبها الشيخ احمد عباس الازهري قبل ان تصير الكلية الإسلامية، ويتولى الزعني إدارتها.. ثم غادر إلى فلسطين وعلم في مدارسها قبل ان يعود فتحزنه بيروت فينشدها متوجعاً:
«بيروت زهرة في غير أوانها ـ ما أحلاها وما أحلى زمانها
بيروت يا حينها ويا ضيعانها ـ تدبل على أمها وتموت.. بيروت»
انتبه عمر الزعني إلى الكارثة القومية التي عاشها جيله والتي كان عنوانها فلسطين، ولكن الوجه الآخر كان «النفط» فقال في ما يشبه النبوءة:
«لما ضعفت تركيا
عملوا لها عملية
قطعوها بالسكين
واحد سكن فلسطين
وأرض النفط والبنزين
وواحد في بلادنا تربع».
صار عمر الزعني شاعر الشعب، وحاول الحكام والكبراء كسب وده ومداراته حتى لا يهجوهم، ومن هنا كان رئيس جمهورية الاستقلال الشيخ بشارة الخوري يحرص على ان يكون معه في كل رحلاته، وقد منحه لقب شاعر الاستقلال.
وهو قد غنى سوريا ومصر وفلسطين والعراق باعتبارها بعض وطنه الكبير. وكان بديهياً أن يغني عبد الناصر، وبلهجة أهل الصعيد الذين يأكلون حرف الجيم:
«عبد الناصر يا جمال
حولك رجاجيل، يابا
«حارب وكافح عدوتك اسرائيل، يابا
«ومتل ثورة اثنين وخمسين
وحرب الستة وخمسين
حرر لنا فلسطين يابا».
ولقد استذكر سمير الزعني (الصغير) و«نادي لكل الناس» الشاعر الشعبي الكبير، فجمعوا أشعاره في ديوان أنيق تحت عنوان «عمر الزعني ـ موليير الشرق».
هذه تحية يستحق عمر الزعني ما هو أكثر منها لولا ان بلادنا لا تزال تنتظر «الريس» والرجال الذين عندهم نوايا صافية وزنود قوية.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمــة» الــذي لم تعــرف له مهــنة إلا الحب:
ـ يأخذني انتظارك إلى رحاب جديدة لحبك، إذ أعيد تكوينك وفق رغباتي.
ويأخذني حضورك إلى دنيا جديدة إذ تعيد تكويني لأصير ما تحب أن أكون.. فأكون!

Exit mobile version