طلال سلمان

هوامش

إبراهيم بن عوده حاصي يبيعنا وجع السفير شعراً
الغلاف أنيق تخترق السواد فيه لوحة باللون البنفسجي لراقصة يلاعبها ضارب على الدف. أما النصوص في الداخل فهي نوع من الشعر الغارق في لجة بحر الأحزان والوجع وقد ترجمتها لوحات أكثر سوداوية. وأما المؤلف فهو سفير في الخارجية الجزائرية، تخرج من المدرسة الوطنية للإدارة، فرع الدبلوماسية، وعمل في طهران وأديس أبابا وأثينا، وهو الآن سفير فوق العادة ومفوض في بيروت، هوايته الرسم والنحت والكتابة. وقد سبق أن أصدر ديواناً بالفرنسية بعنوان «قلوب باكية».
الشاعر باللغتين هو إبراهيم بن عوده حاصي، سفير الجزائر في بيروت حالياً، وهو من مواليد الدهماني في ولاية تيارت.
أما المقدمة فقد كتبتها الدكتورة غادة السمروط، محاولة ان تشرح سبب الكآبة المسيطرة، تحت عنوان «بين الوهم والحقيقة»، في حين قدم الشاعر لديوانه «بائعة الألم» بأحكام مبرمة:
«هكذا الدنيا سراب، هكذا الدنيا عذاب، في عذاب».
وفي مجال الشرح يضيف فيقول:
طرقت الباب مراراً، اطارد وهماً اسمه «العيش الشريف»، فشلّت الأيدي عند وعائي وصمت الآذان عند ندائي، وردد النفاق بيعي!
هي القصيدة الأولى التي تشكل قاعدة الديوان كله. وهو قد أنصف المرأة البائعة فلم يقل انها بائعة هوى، فهي مجبرة. هو طفل يتيم وأب عجوز والجوع كافر… وهي بائعة الخبز: امرأة استضعفها مجتمع الرجال. أنصف امرأة ما أنصفها إلا الأنبياء.
في «قوس قزح» وهي قصة قصيرة تذكر بأبيات من التقليد البوذي:
«اغمض عينيك يا زمن، واسمع من خفقات قلبي هذا النداء
أريد ان أرى أمي قابعة تنفخ في موقدها لتطيل عمر الجمر المحتضر وتنتشل دفئاً من ثنايا الغناء.
«افتح عينيك يا زمن، فانك لن تراني
«سأختفي بين احضان أمي.. اني سئمت الجفاء
«وأمي لا تحب ان تراني وحيداً في أحضان الرياء».
سالت السفير حاصي وأنا أشكره على اهدائه الرقيق، عن سر السوداوية الطاغية على «الديوان»، فضحك وهو يقول: انها خلاصة تجربة عاش قريباً منها، وقد سجلها بالكلمة والرسم، وهو يدرك ان الحياة تكمل مسيرتها بموكب يختلط فيه الفرح بالحزن وما بينهما.
ولأننا «في مجتمعنا كلنا قضاة، نحاكم العبد الغافل ونحن أقبح منه ذنبا، ونريد ان نرجم زانية ولا نلتفت إلى شريكها»:
«بائعة الألم امرأة أفرغت بطنها وأفنت شبابها،
فلما أشرفت على عقدها الخامس، دخل عليها شريك العمر الذي خدمته برموش عينيها ليقول لها وعيناه في الأرض لا يجرؤ على النظر إلى وجهها: «أنت طالق»!
لكن الشاعر يستعيد احساسه بالجمال أحياناً:
«سبحان الله، أكانت خمس ساعات أم رمشة عين سارية في جبال من غمام قضيتها على متن طائرة، وعن شمالي راهبة».
أما في قصيدة «أمي تستحم»، فيطلق عواطفه الطفولية متدفقة:
«تحت شلال من سراب، تلهو بالنيلوفار تارة، وتارة تسكب على رأسها لمسة من نور وضياء/ أغمض عينيك يا زمن، فأمي ستسدل ضفائرها لتنساب جداول لا تنضب/ ولا يخيفها شبح الفناء.
«سأختبئ بين أحضان أمي. اني سئمت الخفاء
وأمي لا تحب ان تراني وحيداً في أرض الرياء
في غياب سجنك وهي طليقة مع الأنجم السابحة في السماء
والعذراء وردة تحتضر، ماذا تقولين على الشاطئ».
أما بيروت فلها العاطفة جميعاً، الاشفاق والمرارة والاحساس بالفقد والتحسر، ولها أيضاً النقد القاسي:
«بيروت… أتحرقينني بالنار؟ وأنا الذي لملمت أشلاءك من أحشاء الدمار
نسجت أشواقي حلة وهيامي خمار للعزة والوقار..
«أماه أترمينني عارياً/ بلا حياء/ في وضح النار/ التحف بقايا رماد
استتر بنقع الغبار/ بيروت كنت أراك مثل أحلامي
«وداعاً بيروت: اني هنالك بين عيسى وأحمد/ في مقعد صديق/ شهيد بين حُور وابرار
«وداعاً بيروت.. ان سألوك عني يوماً فقولي: قتلت ابني بيدي/ وكتبت على قبره: هنا ينام/ رفيق سنمار».
يلتفت إبراهيم بن عوده حاصي متأملاً في الواقع العربي فيهرب من التقارير إلى التوصيف الحي:
«يا ابن العم، سليل يعرب/ رهنت سيفي/ لمهند في مقمرة
«والأدهم تركته جائعاً يبحث عن بقايا عشب في مقبرة
«أريد اقتناء موبايل بأحرف مشفرة/ لأقرأ لعبلة/ فقد سئمت برامج الأخبار من صحون مقعرة/ وأبقيتها صور الجزيرة لبغداد تحترق».
في المقابل، فإن السفير الشاعر الذي يشد السواد عينيه يكشف فاجعة من فواجع الفقر بآثارها الضاغطة على المجتمع بالتشوه، وذلك حين يُجري مثل هذا الحوار:
ـ أتعرفينني؟ ـ نعم أعرفك! جائع يبحث عن رغيف! رأيتك في مليون وجه، تحملق بعينين جائعتين أمام قصري المنيف، تفتش عن بقايا سراب/ عن همسة كاذبة، عن قول سخيف… تفضل ان أردت التمرغ في الوحل النظيف!
قلت: ما اسمك؟ قالت: ماردة الجنس اللطيف! قلت: ما شغلك؟ قالت: يا للعمى.. أما ترى بضاعتي معروضة للاعين للاعين عند الرصيف، لا يفسدها مطر ولا صقيع ولا وصيف! أوقات العمل، منذ الأزل في غسق الليل والديجور.. في النهار كل الناس أعدائي، وفي الليل لا أحصي كم فارس مر بقلعتي!.
أما الوجه المقابل فيمكن افتراضه في «عنترة» كما رسمته ريشة إبراهيم بن عودة حاصي:
«أين عنترة اليوم؟ فتش عنه في حانات باريس وجنيف وزقازيق همبورغ! فتش عنه أمام وول ستريت. ستجده هناك جاثياً على ركبتيه يحسب ما أبقى له أسياده من دولارات».
لا يمكننا، بالطبع، إقناع «الشاعر» في «السفير» بأن ما رآه فوصفه في هذا الديوان غير واقعي… وان كنا نحفظ «لسعادة السفير» انه حافظ على رؤية الشاعر فيه، حتى لو أخذنا عليه اطلاعنا على الوجه المعتم لمشاهداته، محتفظاً لنفسه، على الأرجح، بالجانب المضيء من مباهج المعرفة عبر تجواله في العالم الذي له وجوه أخرى أكثر إشراقاً.
سيد حجاب يغني إنذاره «قبل الطوفان»
لعب الشعر الشعبي في مصر، على اختلاف العصور، دوراً مؤثراً في الوجدان، خصوصاً انه كان يربط ـ باستمرار وبعفوية مطلقة ـ بين القضية الوطنية والإيمان، ويعبر بلغة بسيطة جداً، وإن كانت عميقة المضامين، عن أحوال الناس كما عن طموحاتهم فضلاً عن موقفهم السياسي من الحاكم من «الدول» التي طالما هددت «المحروسة» في أمنها أو في حقها في التقدم.
تسكن الذاكرة الشعبية أسماء لها وقعها المنعش في قصائدها النقدية أو التحريضية من أجل مواجهة الظالم والتابع والفاسد، قد لا يكون أولها عبد الله النديم، وان ظل بين ألمع من غنى تلك القصائد والطقاطيق سيد درويش من أزجال بديع خيري وغيره، وصولاً إلى بيرم التونسي الذي جمع فأوعى، وغنى هموم المصريين كما طموحاتهم مثل ما غنى الحب بصوت أم كلثوم أجمل الغناء.
وحين أطل صلاح جاهين برباعياته كما بوطنياته التي غناها عبد الحليم حافظ، صار الشعر الشعبي مرجعياً يمكن التأريخ به، إذ انه كان شمولياً، بمعنى الإحاطة بأحوال مصر… ومع جاهين وبعده الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي بملاحمه التي تجاوزت حدود مصر إلى الهموم العربية، ثم الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي شكل مع الشيخ إمام أخطر ثنائي نقدي للنظام الحاكم بارتباطاته وتفريطه بأمن مصر وعروبتها ومستقبلها، كان هناك دائماً العشرات من الشعراء الذين غنوا مصر بالعامية المصرية، وشكلوا باستمرار تظاهرة وطنية دائمة تهتف بهموم شعبهم وطموحاته، تجاهر بالاعتراض على أخطاء الحاكم وخطاياه فتغذي وجدان المواطن وتسهم في صياغة موقفه السياسي.
يمكن استذكار فؤاد حداد الذي غيبه الصمت، وسيد حجاب الذي اغتنم فرصة وجوده في بيروت ليهدي أصدقاء ديوانه الأخير «قبل الطوفان اللي جاي».
من هذا الديوان ننشر هنا مقاطع من القصيدة ـ الديوان، متجاوزين القرار بعدم اعتماد «العامية»، لأن الأفكار تعوض الخروج على القاعدة من أجل مزيد من الايضاح:
«تاج راس سلالات الجهالات… الطغاة الصغار
«ذوي المقامات والمذمات… اللصوص الكبار
«أصحاب جلالة العار… أصحاب فخامة الانبطاح والسعار
«… أصحاب قداسة الانعزال والفرار… أصحاب نيافة الجبن والاعتذار
«أصحاب سماحة النقل والاجترار… أصحاب فضيلة الغل ع اللي استنار
«جميع ولاة الأمر دنيا ودين… وكافة عموم الساجدين للدولار
«.. ولما تختار غزه نهج المقاومة… تقولوا: بئس الخيار!
«.. ويوم ما نصر الله يقوم باقتدار… ويفل بارادته الحديد.. الحديد
«ترغوا بسفه تحسبوه فلسفة… وتصرخوا بشفقة وشماته مقرفة
«دي خسارة لسياحة وتجارة وعمار… دي مغامرة مش محسوبة ومكلفة
«ويخش لبنان معمودية النار… بعد وقفة عز صار الانتصار
«ويقول مثقفكو بغبا وعجرفه… ده سلاح هلال شيعي وخطر ع الجوار
«وكيعني إسرائيل جار.. وجار… وبلاش مقاومة، كفى مقاومة كفى
«فيه طيبة زادت هيبة القاضي… له نظرة النسر في عيون ناصر
«لنصر نصر الله اللي كان قاضي… وبشارة بالمستقبل الناصر
«جاي الطوفان، والجاي بعده مهول»
حلم يرقص بالسيوف
في الوقت الفاصل بين حلمين، كبرت الطفلة التي ترى ما أمامها وما حولها وما خلفها فلا يشغلها شيء عما تريده، والتي تقدمت واثقة من نفسها حتى استوت أميرة على عرشها، يقوم على خدمتها قادة الحرس راقصين بالسيوف.
ما أمتع ان تصوغ أحلامك بيديك، فلا تطلبها مكتوبة من غيرك لغيرك، ولا تتطلع إليها معلقة في فضاء العجز، لم يصل إليها قبلك أحد، ولن تطالها يد أبداً… أما إذا صار لك البيت فيمكنك ان تملأه بالتفاصيل الصغيرة التي إليها تنتهي الأحلام لتصير حياة نعيشها ببساطة.
كي يدخل الحظ لا بد من باب، وكي نلتقط في الصوت لهفة الآتي على جناح الرغبة لا بد من ان نستمع بالقلب والعقل معاً.
مع الوقائع البسيطة لا حاجة إلى خيال كتّاب القصص الخرافية، أما الشعر فلا يحتاج إلا إلى نظرة فارتعاشة جفن فلهفة تملأ الغياب حنيناً إلى لقاء الاعتراف المرتبك الذي معه تكتسب المصادفة جدارتها بأن تصير حياة.
هي حكاية كل يوم، لكنها مصدر الفرح دائماً: يطير اثنان على أجنحة الفراشات فيصير الخريف ربيعاً وتشارك طيور الوروار بزغاريد الفرح وتنتثر في السهل أغنام مزخرفة الصوف خلف الرعيان الذين يطلقون حداءهم فلا ينفر القطيع بل يتقافز صغار التي كانت حملاناً فصارت تقرأ في أوراق الشجر المصفرة قصائد لشعراء مجهولين حكوا قصص حبهم ومضوا قبل ان نعرفهم، لكننا ما زلنا نعيد رواية ما قالوه فنفرح ويفرحون في الغياب.
(للعروسين هلا ويوسف)
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حبيبي علمني الشعر. صرت أكثر اهتماماً بلغتي لأغني حبه… معه صرت أعظم تذوقاً للموسيقى، تستوقفني تغريدة حسون أو تعثر الكلمات الأولى على لسان طفل.
مع الحب تستشعر النغم في نسمات الهواء وتفلت منك الآهات كأنها رسائل شوق إليه.

Exit mobile version