طلال سلمان

هوامش

محيي الدين اللباد، صديقاً ومعلماً: ممنوع تأجيل الانجاز
^ مقتولاً رحل محيي الدين اللباد
قتله اليأس الذي استولده غضب انتظار التغيير وكأنه سيهبط بالمظلة في غيبة القوى المؤهلة لاحداثه بالارادة والتنظيم وشجاعة التصادم مع واقع مهترئ، لكنه قادر على امتصاص ابتهالات التمني والعجز عن المواجهة.
أدق توصيف لحالة محيي الدين اللباد جاء على لسان واحد من رفاق عمره ورفاق سلاحه أيضاً الفنان المبدع حلمي التوني، الذي كان يراه «متقدماً جداً علينا، يرفض النقص ولو في التفاصيل..».
ولقد كان اللباد يحيرنا جميعاً في حزنه الذي يغلف غضبه، وفي انطوائه على ذاته بعيداً عن «الآخرين» من رفاق العمر الذين تركوا الموجة تأخذهم إلى غير الأهداف التي كانوا يطمحون إلى تحقيقها، في فعل خيانة لأنفسهم ولمن علق عليهم الآمال في ان يكونوا ـ بحكم انهم طلائعيون ـ في مقدم الساعين إلى التغيير.
لعله استوحد فكتم خيبته، وانطوى على نفسه في مرسمه، يكتب ما لم يكتبه غيره قبله حول الترابط بين الفكرة والنظر والكلمة، بما يمكن الرسم (والكاريكاتور خصوصاً) ان يقول المعنى كاملاً بأسلوبه، كما يمكن غلاف الكتاب أن يجسد مضمونه فلا يكون مجرد شكل أو خطوط تزيينية تأخذ القارئ بعيداً عن هدف الكتابة أو رسالتها.
لم يسقط اللباد في جب اليأس، كلياً، لكنه فقد الأمل في جيله الذي تفرق شمله بالموت أو بالخيبة الدافعة إلى الهجرة، أو بتغيير «الكار» والهرب إلى الأسهل: إضحاك الناس من أنفسهم، وليس تحريضهم ضد قصورهم، وضد أسباب هذا القصور والمتسببين به.. كان لا يقبل أعذاراً من نوع الخوف على السلامة الشخصية، أو الخوف على الأمن الشخصي، وكلاهما يأخذ إلى النفاق، وبالتالي إلغاء الذات.
وهو قد اعتبر نفسه مسؤولاً عن تعويض غياب الذين رحلوا ـ مبكرين، عن دنيانا من أساتذته المبدعين الذين أخذ عنهم رسالة التوجه إلى الطفل العربي والاعتناء بتثقيفه بما يفيده في موقفه من الشؤون التي تتصل بمستقبله… وهكذا فقد اهتم بالطفل العربي في وقت مبكر جداً، بل لعله قد أطل كرسام عبر مجلات الطفل التي أصدرتها دار الهلال ودار المعارف (سندباد ثم سمير)، واستمر في هذا الخط، إلى جانب رسم الكاريكاتور الذي كان يرى فيه ـ أيضاً ـ رسالة سامية هدفها التنبيه إلى اخطاء الفهم أو التقدير السياسي عبر النكتة التي كثيراً ما جاءت جارحة تضحك مشاهدها من خيبته وقصوره أكثر مما تضحكه من جبروت المتحكمين فيه لتضعه دائماً في خانة العاجز عن الفعل إلا عبر التوريات والتلميحات والايماءات التي ينتهي فعلها مع قلب الصفحة..
^^ الهدف الطفل العربي
من القاهرة إلى بيروت فإلى الكويت ثم القاهرة، كان الطفل العربي هو الهدف الأساس… وهو قد هجر الكاريكاتور، تقريباً، في فترة معينة، ليعطي جهده كاملاً لمشروع رائد مثل «دار الفتى العربي» التي أنشئت في بيروت عام 1974، وفرضت على جمهرة من كتاب القصة المعروفين والرسامين المبدعين ان يتفرغوا للكتابة للطفل، أي ان يوظفوا ثقافتهم وقدراتهم الفنية في خدمة صياغة المفاهيم التي تعامل الأطفال بوصفهم رجال المستقبل، فتزودهم بقدر مقبول من المعلومات عن الثوابت والأساسيات التي تسهم في إعدادهم لمواجهة ما ينتظرهم في غدهم من خلال تثقيفهم بتاريخ بلادهم وأبطالها وأحوالها عموماً، مع الحفاظ على روح المغامرة وتنشيط الخيال بالقصص الممتعة التي يحفل التراث العربي بالكثير منها… كل ذلك من دون زرع العصبية أو العنصرية. كان القصد تأكيد الثقة بالنفس وليس تسفيه الآخر أو تحقيره.
وكان واضحاً معنى ان تحل قصص عربية مكتوبة بأقلام عربية من أقطار عربية عدة، في المشرق والمغرب وما بينهما، محل «سوبر مان» ومغامرات «ميكي» التي تترجم كاملة عن مطبوعات غربية أنتجت بقصد مقصود وفي مجتمعات تختلف عنا في قيمها ومفاهيمها، وفي أسواقها العشرات من مجلات الأطفال الرصينة والمفيدة، لكن من اختار ـ عندنا ـ إنما اختار الأرخص والأتفه في مضمونها، التي تأخذ الأطفال إلى مغامرات قاتلة (سوبر مان) أو إلى عداء مفتوح بين «توم وجيري» ينتصر فيه الأمكر والأخبث، مقدمة المثال الرديء لأطفال يريدون ان يتفوقوا ولو بالحيل الشريرة على الآخرين، وفي مجالات لا تخدم تطلعم إلى مستقبلهم، بمعنى انها ليست المنافسة من أجل الانجاز أو من أجل التقدم، ولا تتضمن التحريض على طلب العلم أو نجاح الأكثر جدية واجتهاداً وتراجع الكسول الذي لا يجد تبريراً لتراجعه إلا التشهير بالآخرين.
^^^ مقاتل من أجل الكمال
لم أعرف في حياتي من يطلب الكمال ويقاتل من أجل الاقتراب منه إذا ما عجز عن انجازه تماماً.. لم أعرف أحداً في مثال عناد محيي الدين اللباد و«قتاله» ضد المتهاونين ومبتدعي الاعذار لتغطية النقص أو الخروج على القاعدة.
وفي تجربتنا معه في «السفير» خاض حرباً حقيقية ضد الكسالى والهاربين إلى السهولة والمتهاونين في التنفيذ بذرائع متعددة، أبسطها ان القارئ لا يستحق كل هذا الاتقان، وانه لن ينتبه إلى انحراف في خط يفترض ان يكون مستقيماً أو في صورة تضيع في غياهبها تفاصيل موضوعها وبالتالي الهدف من نشرها: ان العيب في أصغر تفصيل يشوه أجمل لوحة… ثم ان تداركه ممكن، فلماذا نتهاون؟. من فرط بالأقل فرط بالأخطر (وطبيعي ان تفتح هذه الكلمات باب التداعيات إلى مختلف وجوه حياتنا في السياسة والاقتصاد والعسكر، في المواجهات بل الحروب مع العدو الإسرائيلي كما مع فساد النظام وعسفه الخ…)
من هنا كان يعتبر غلاف الكتاب موضوعاً قائماً بذاته، وكان يرى ان الصحيفة ذات التوجه السياسي المحدد مطالبة بالاتقان والدقة والموضوعية أكثر من صحف التطبيل والتزمير الحكومية أو صحف التيئيس والترويج للمفاهيم الخاطئة والمتخصصة في تحقير الذات العربية أمام الغرب عموماً، وأمام إسرائيل بشكل خاص… مع الرسالة لا انفصال بين الشكل والمضمون، وأحياناً يسيء الشكل إلى المضمون وينزله إلى مرتبة لا تليق به، فيرتد على القضية والهدف.
«من يتساهل في كلمة يفرط بالمعنى. ومن يذهب إلى التبسيط المخل بالقصد ينسف الهدف من الكتابة. والشكل، رسماً أو اخراجاً، قد يعزز المضمون بالإضافة أو اللمسة الفنية أو قد يشوهه ثم ما العذر وقد تيسرت لنا وسائل الانتاج التي توفر علينا التعب من أجل مزيد من الدقة إذ هي تعطينا المقاييس والمعايير بلمسات تبسيطية على لوحة المفاتيح».
من هنا كان اهتمام اللباد بالحرف العربي.. وهو قد خاض معركة شرسة لإثبات أهليته لاستيعاب المضمون بأدق المعايير، مع الحفاظ على جماليته. ولعله قد أصدر مطبوعته الموسوعية «نظر» للتعريف بالمدارس الفنية في الرسم عموماً، والكاريكاتور خصوصاً، ولحماية الحرف العربي من قبل ومن بعد باعتباره قادراً على حمل المضامين والتعبير عن الأفكار والآراء والعواطف جميعاً، ومؤهل لولوج العصر من أوسع أبوابه لأنه يملك مرونة هائلة تساعده على أداء المعنى، خصوصاً انه يختزن تراثاً عريقاً من التجارب وعمليات التطوير بحيث كان ـ قبل ألف عام أو يزيد ـ مؤهلاً لنقل العلوم والفلسفة والآداب التي أنتجتها شعوب مختلفة بلغاتها الأصلية من دون ان يخل المعنى أو يلتبس القصد على القارئ.
ثم انه أضاف الصورة إلى جهده من أجل تطوير الشكل، في الصحف اساساً والمجلات، فاعتبرها مساحة للقراءة ومعبراً للمضمون وليست أداة تزيينية أو وسيلة تجميلية للحاكم في حين تظلم المحكوم باظهاره متخلفاً أشعث الشعر زري الهيئة، متذللاً، باكياً، هادراً كرامته أمام ظالمه.
^^^^ مدرب أجيال الموهوبين
ولعل هذه المفاهيم التي الزم اللباد نفسه بها هي التي جعلته يعتكف في مرسمه، فلا يغادره إلا لشأن عظيم، ويرفض نشر رسومه في الصحف الحكومية الموجهة أو في مجلات التسالي والحملات المغرضة، واختار لنفسه هدفاً عظيماً هو ان يدرب أجيالاً جديدة من هواة الرسم والكاريكاتور والتصوير والاخراج الصحافي فأقام في مرسمه دورات لمجاميع من أصحاب الموهبة، فدرسهم معنى الصورة ودلالات الخط ومرامي الرسم الكارياتوري، اجتماعياً وثقافياً ثم سياسياً،
وفي تجربتي الشخصية مع هذا الفنان الكبير أشهد اننا قد قصرنا عن اللحاق به، فأغضبناه، وحين حكم علينا اننا لن نستطيع ان نحقق ما افترض اننا مطالبون بتحقيقه انصرف عنا محنقاً وهو يقول: عندما تقدرون مهمتكم حق قدرها ستجدونني في انتظاركم!! وكان يستشيط غضباً كلما تذرعنا بنقص ما، أو بغياب هذا أو ذاك من الواجب حضورهم، أو إذا ما تهاونا في التنفيذ الحرفي والصارم لما أراد تقديمه في سياق محاولته لتجديد شباب «السفير».
هو فنان ملتزم بشخصية قائد فذ في ميدان المواجهة لتأكيد قدرة العربي على الانجاز. من هنا كان التقصير معادلاً للخيانة، لا سيما عند من يمتلك القدرة لإنتاج الوسيلة ـ المطبوعة التي تزعم انها تحمل رسالة.
ربما لهذا امتنع في سنواته الأخيرة عن «النزول إلى القاهرة»، حتى لا يرى ـ بعينه الفاحصة والمثقفة والمؤهلة لاكتشاف الآتي ـ الحجم المأساوي لانهيارها مبنى ومعنى، ولقصورها بل اجبارها على القصور حتى يمتنع عليها أداء دورها الريادي في حقل التنوير وإشاعة المعرفة، عربياً.
^^^^^ القاهرة التي شاخت
كان ينزل أحياناً ليتثبت من أن قاهرته قد شاخت أو فرضت عليها الشيخوخة لإلغاء دورها الريادي، ثقافياً وفنياً وعمرانياً، وبالأساس سياسياً، وانها صارت مجرد ملحق هجين، بلا هوية محددة ولا رسالة محددة، بالآخر الذي يهمه ان يلغيها. وكان في كل نزلة يستوثق أكثر فأكثر من ان قاهرته قد اندثرت، برسالتها وروادها وناسها، بمبدعيها ومقتحمي الصعب من قادتها في السياسة كما في الحرب، وفي الفنون الجميلة كما في الآداب عموماً، شعراً ورواية وقصة، في السينما كما في المسرح، وفي النصوص كما في الاخراج والتمثيل… وان الهجانة والركاكة والتفاهة قد سيطرت من أعلى السلم السياسي ـ الاجتماعي ـ الثقافي ـ الفني على الحياة العامة فجعلتها ـ عند من في وجهه نظر ـ هزيلة لا تستحق ان يشارك فيها صقر يرفض الهزيمة مثل محيي الدين اللباد.
بقرار منه، أولاً وقبل المرض واليأس والقرف، رحل محيي الدين اللباد.
لعله افترض ان رحيله سيحمل لمن تبقى، أو لمن سيأتي بعده، الرسالة التي رحل قبل أن يكملها، لأن «الظروف المانعة» أقوى من ان يستطيع التغلب عليها والوصول إلى جمهوره… أي إلى كل هذه الملايين من العرب الذين عادوا إلى التيه في صحراء الجهل والانتهازية والسرقة الموصوفة واحتقار الذات.
لقد فقدنا مثالاً متميزاً وقائداً كفؤاً لمسيرة لم يقدر لها ان تبلغ أهدافها لأسباب يختصرها هذا الرحيل المبكر لإنسان كانت قدراته تؤهله لأن يعيش ألف عام.
لتعزية الذات نقول: ان اللباد ما زال معنا كمثال أقله في الضمير، وهذا أبسط حقوقه علينا. ليرحمنا الله.
عـودة مـن سفر بعيـد
عاد عباس بيضون إلى مكتبه يتقدمه قلمه الذي يختزن الآن تجربة جديدة وفريدة: ان يكتب الحياة من قلب الغياب.
عاد الطفل الأصلع الذي ابتدع لغته فإذا الكبار يجفلون لأنهم حاولوا بلوغها ففشلوا وتحاملوا عليها بالصياغات الملتبسة فنفرت منهم، واستعانوا بالنقاط للايحاء بمعنى لم يقصدوه ولكنهم افترضوها قادرة على تعويض الموهبة والوصول إلى القارئ به فإذا هي تكشفهم.
هو يحاول الآن إعادة صياغة حكايته في قلب الغياب، حيث رأى ما لا يرى وسمع ما لا يسمع، والتقى أهلاً وأصدقاء سافروا ولم يعودوا. عاد بحكايات الطفولة التي استخدمها رمزاً ونفر منها واقعاً ولكنها صنعت قصيدته. عاد عاملياً فيه شيء من اللوثة النجفية، وإن كان قد رطن بالفرنسية في أول لحظات صحوه.
عند باب «السفير» استعاد عباس بيضون نفسه. استعاد وعيه الكامل بما كان وما هو كائن وبما سوف يكون. واكتشف ان قلمه يستعصي على الصمت ففيه ما يملأ ألف كتاب بالأفكار التي تبدو غير معقولة لأنها تسبق وليس لأنها بلا معنى.
عباس بيضون الثاني سيكون أكثر قرباً من الاكتمال، شاعراً وناثراً، ناقداً وراوية بأسلوب فريد يحمل بصمته فلا يقدر أحد على تقليده.
عباس بيضون الثاني يحمل لنا هدايا كثيرة، من حيث جاءت نسخته الجديدة، التي تشبه الأولى كثيراً لكنها ليست هي، بل هي أكثر شـفافية وأغنى بالصورة والمعنى.
أهلاً بالعائد إلينا ليقول الحياة ديوان شعر في الحب.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ قد يأخذ الحرص على الحب إلى الخطأ مع الحبيب.
تتصرف مفترضاً انه ضمنك، وانك هو… ولكنه يريد تأكيد حضوره خارجك كما في داخلك.
اعتذارك ان تحبه أكثر.. فالخطأ جلاب لمزيد من الحب!

Exit mobile version