طلال سلمان

هوامش

غيدا زين الدين تستحضر بعلبك وأهلها من قلب إهمال .. التاريخ!
نادرة هي الكتب أو الدراسات أو الأبحاث التي اهتم مؤلفوها بما يمكن تسميته «المدن الريفية» أو «المدن الداخلية» التي لا تقع على الشاطئ، ولا تكتسب أهمية خاصة من موقعها الجغرافي الحاكم، في عصر الطائرة الأسرع من الصوت والصواريخ عابرة القارات.
وحدهم الأعلام والنوابغ، الذين تيسر لهم أن يصلوا بنتاجهم الثقافي أو العلمي، هم الذين يوصلون أسماء مدنهم الداخلية إلى الناس… فننتبه إلى بعلبك، مثلاً، إذا ما ذُكر شاعر القطرين خليل مطران، وهو من جاءته الشهرة من «وطنه الثاني» مصر التي هاجر إليها فعاش فيها أكثر مما عاش في مسقط رأسه.
لذلك يمكن تقدير «المغامرة» التي قامت بها غيدا زين الدين حين اقتحمت غوامض «التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لمدينة بعلبك في عهد الانتداب الفرنسي 1920 ـ 1943»، فأصدرت عنها دراسة مميزة (ومرهقة)، قبل أن تندفع قدماً فتتقدم إلى المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية ـ قسم التاريخ بأطروحة ممتازة عن «التطور الاقتصادي والاجتماعي لمدينتي بيروت ودمشق في عهد الانتداب ـ 1920 ـ 1943»، ودائماً بإشراف «الريفي» الآخر الدكتور مسعود ضاهر.
والمغامرة مرهقة لأن المدن الداخلية، كبعلبك، تعيش خارج التاريخ الفعلي للنظام السياسي اللبناني، ولم يهتم مؤرخو هذا النظام ـ تماماً مثل سياسييه ـ بما هو خارج بيروت والمدن الساحلية الأخرى كطرابلس وصيدا وصور، فضلاً عن جبل لبنان الذي رأوا فيه دائماً «لبنان» في حين نظروا إلى ما هو خارجه على أنه «ملحقات»…
لم تستطع غيدا زين الدين أن تجد أرشيفاً رسمياً غنياً بالوثائق، ولا كتباً مرجعية يمكنها الركون إلى المعلومات الموثقة فيها، أو إلى شهادات ممن عاشوا وشهدوا فكتبوا عن الخلف الصالح أو عن مراحل التطور والتبدلات التي أصابت المجتمع. وهكذا فإنها ذهبت تنقب في الوثائق القليلة والبسيطة (كسجلات البلدية) وفي الصحف السياسية الصادرة في تلك المرحلة، والكتب المعدودة التي حاول بها بعض الرواد أن يقدموا صورة عن مجتمعهم الذي كان يتعرض في تلك الحقبة لهزات عنيفة: «الثورة العربية الكبرى» بقيادة الهاشميين ضد السلطنة العثمانية من ضمن بطن التحالف مع البريطانيين، والتجربة البائسة للمملكة العربية في دمشق بقيادة الأمير (الذي صار ملكاً) فيصل بن الحسين، ثم إعلان استقلال لبنان وإلحاق بعلبك بـ«الدولة الجديدة» تحت الانتداب الفرنسي خلافاً لإرادة أهلها الذين انقسموا ـ كالعادة ـ طائفياً… وبينهم من كانوا بعض جنود الثورة والمملكة التي لم تعمر إلا شهوراً قليلة. بعد ذلك سيبدأ التلاعب الإداري فتصنف بعلبك محافظة، ثم يعاد تصغيرها إلى قضاء، ويدبر فيها الفرنسيون الفتن، بينما كانت تتهاوى القيادات الطامحة إلى الوحدة السورية والدولة العربية القوية، تحت راية الاستقلال.
في الفصل الثاني من البحث لمحات عن الحياة الإدارية والسياسية في المدينة، القضاء، المخاتير، البلدية ومشاريعها البسيطة (والمهمة)، ثم الحياة السياسية والأحزاب، قبل أن تنتقل الكاتبة إلى الحياة الاقتصادية والملكية العقارية والزراعة والصناعة والحرف والتجارة وصولاً إلى السياحة.
حاولت غيدا زين الدين أن تستعين بكل وثيقة أو كتاب أو قرار من المنتدب أو السلطة السياسية، وبالأرشيفين العثماني والفرنسي، وبالمطبوعات لا سيما الصحف التي كانت تصدر في بعلبك ذاتها أو في زحلة وبيروت، وببعض المراجع والمؤلفات التي تتناول تلك الحقبة في سوريا الكبرى عموماً وفي بعض جهات لبنان الخلفية كبعلبك خصوصاً. قرأت ما كتبه سلامة يوسف سلامة وعلي شعيب وكمال الصليبي، واستعانت بالدليل السوري لمؤلفه جدعون الياس جرجي، وبما كتبه إحسان محمد الحسن وساطع الحصري وزهير حطب ويوسف الحكيم «بيروت ولبنان في عهد آل عثمان»، وما كتبه سعيد حمادة ومهيب حمادة وجورج حنا ونجيب الدحداح ومحمد عزت دروزه وقاسم الشماعي الرفاعي وزين نور الدين زين، فضلاً عن كتاب «يقظة العرب» لجورج أنطونيوس، و«وقفات وذكريات» لالياس البقاعي.
كذلك فلقد أغنت غيدا بحثها بالذاكرة الشفوية وبالمكتبة الغنية التي أفنى فيها عبده المرتضى الحسيني عمره، فجمع فيها مئات الألوف من الكتب والمجلات والصحف والوثائق… ثم أنه كان مناضلاً ثرياً، عمل في التدريب طويلاً وفي العمل الحزبي معظم سني حياته، ولم يفقد الأمل حتى بعدما هدّه المرض، وظل يكافح حتى اللحظة الأخيرة من عمره، ومضى إلى ربه وقد ترك لبعلبك أثراً ثقافياً ممتازاً.
على أن الجديد في البحث أن غيدا قد استعانت بعدد من وجوه المدينة، بينهم بضع نساء من آل صلح (فطوم وعائشة ومريم وأمينة صلح)، وإن ظل «المختار» حسين عثمان الشاهد العدل، في حين توالت أسماء أركان الأسرة الحيدرية لتملأ صفحات عديدة في الكتاب، لا سيما أنهم شاركوا في مختلف مراحل النضال والمواجهات والتسويات… كان بعضهم من نجوم الثورة العربية ودولتها بملك فيصل في سوريا، قاوموا الانتداب، فلما تم فرضه وأسقطت المملكة التي لم تعمر طويلاً وأقيمت دولة لبنان وألحقت بعلبك بها، ضاعوا لفترة بين المقاومة والتسليم وهم يرون المستعمر البريطاني يسلمهم إلى المستعمر البريطاني في حين «نقلت» مملكة فيصل إلى بغداد وجرت محاولة شرسة لتقسيم سوريا وعمّ الضياع.
بين الوثائق التي استعانت بها غيدا كتاب وضعه المفتش الإداري حول النزاع على تلة الشيخ عبد الله سنة 1929، والتي قسمت بين البلدية ونافذين، قبل أن تقام ـ في ما بعد ـ فوقها ثكنة للجيش، وهناك الآن إلى جانبها مدرسة دينية… ثم هناك كتاب من قائد الموقع الفرنسي إلى القائمقام حول دفع نفقة منامة الضباط الفرنسيين، 1932، وعريضة اعتراض الفلاحين على الضريبة، 1933، واعتراض مستأجري الفلاحين على الضريبة، 1937.
أما من بين الوقائع المنسية فتستذكر غيدا حزباً كان اسمه «التركي اللبناني» وله «طابع مسيحي» تجمّع فيه الوجهاء من آل الغندور والمعلوف وشامية وفرعون ومطران ونجيم والدن، وكرباج والباشا… أما الحزب الشيوعي فقد أنشئ في أواخر العشرينيات على يد أحمد القيسي، كذلك كانت هناك عصبة العمل القومي، والحزب السوري القومي الاجتماعي.. ثم وفد حزب الكتائب، 1937، وبعده مباشرة قام حزب النجادة.
من أبرز الوثائق تلك التي أصدرها زعماء بعلبك، رداً على نشاط الفرنسيين لتأجيج الفتنة، وهم قد أشاعوا أن المسلمين يقومون بمهاجمة القرى المسيحية، ويعتدون على سكانها، وكانت على شكل نداء موجه إلى المسيحيين وفيها:
«نحن زعماء بعلبك القائمين بتحرير بلادنا والمطالبة باستقلالها التام ورفض كل حماية أجنبية، نعلن كل فرد منكم بأنكم إخواننا في الوطنية والجنسية. لكم ما لنا وعليكم ما علينا».
ويبقى أن الباحث ـ الكاتب ـ المؤرخ والدارس المميز الدكتور مسعود ضاهر قد قدم شهادة مميزة في غيدا زين الدين إذ قال إن «دراستها تؤكد مؤرخة ذات باع طولى في تقديم إضافة نوعية غير مسبوقة في تاريخ البحث العلمي، حول تشكل المدينة وآفاق تطورها».
… ومكتوب على أبناء المناطق ـ المجاهل والمسقطة من ذاكرة الدولة أن يستحضروا أنفسهم وأن يعيدوا التذكير بدورهم في بناء الوطن.
وها أن غيدا زين الدين تقول إن بعلبك أكبر بكثير من قلعتها ومن مهرجانات الصيف التي تضيء عتمتها أمام المتفرجين لساعات ثم تترك المدينة ومنطقتها للظلام.
زياد مكوك الذي شيّع نفسه يوم مات المسرح.. والضحك!
أخيراً، وبعد إرجاء طويل أعلنت وفاة زياد مكوك، وشيع إلى مثواه الأخير، ليلتحق بأساتذته ورفاق عمره الذين زرعوا البسمة، ذات يوم، على شفاه اللبنانيين وزوار بيروت من رواد مسرح شوشو.
الحقيقة أن زياد مكوك ظل يقاوم الموت سنوات طويلة متشبثاً بالأمل: لا بد أن يتحرك أحد، لا بد أن تبادر جهة ما لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تلك البقعة المضيئة التي كان يقصدها الجمهور المتعب بهمومه، طلباً لضحكة مجلجلة تنتشله من وهدة إحساسه بضغوط حياته اليومية، وتعبر عن رأيه المكبوت في التقاليد البالية لحياته السياسية وأنماط العلاقات الاجتماعية السائدة وأولها وأخطرها النفاق وتبديل الأقنعة بما يناسب واقع الحال.
لقد شَيَّع زياد مكوك ذاته حين سار خلف نعوش أساتذته وبعض رفاقه في المدرسة التي دخلها غراً وظل يكافح حتى انتزع لنفسه مكاناً ثم دوراً فيها… خصوصاً أن الراحلين مضوا في رحلتهم الأخيرة وليس خلفهم من يحمل الراية ويحميها من السقوط.
عقد الأمل، بداية، على تضامن الرفاق من زملاء التجربة الناجحة… وهم قد حاولوا، لكن الظروف العامة في البلاد كانت قد أخذت في التدهور، ملغية مساحة السخرية من الذات ليحل محلها تبكيت الذات في مواجهة مظاهر انحلال المجتمع وتردي قيمه واختلاف أبنائه على البديهيات.
افتقد كاتب النص المسرحي منتزع القهقهات باللعب على التناقضات، فحاول أن يكتب نصوصاً، لكنه لم يجد من يقرأها فإذا وجده انتبه إلى أنه يفعل ذلك من قبيل المجاملة والإشفاق..
دار على المؤسسات التي توهّم أنها قد تشجعه. بذل من ماء وجهه، لكن المعنيين كانوا في شغل شاغل من همومهم أو من مصالحهم فربتوا على كتفه ووعدوه خيراً، ثم نسوه ونسوا أمره، بينما هو في الباب.
كان يطوف على الأندية والصحف حاملاً بعض النصوص وبعض الأكسسوارات، لكنه نادراً ما وجد من يهتم به إلا مشفقاً… وكانت الشفقة أشبه بالرصاص القاتل، برغم فقره المدقع، كان يحتاج إلى عمل لا صدقة. كان يريد مسرحاً يمكّنه من أن يعطي ما عنده من موهبة أو طاقة.
زياد مكوك شهيد المسرح في لبنان الذي لم ينجح رواده في جعله «مؤسسة»، فبقي على هامش الحياة الثقافية، وظل أقرب إلى بند التسلية والتفكهة وشغل الوقت الضائع.
لم يدرك زياد إلا متأخراً أن عهد الضحكة الصافية المعبرة عن الراحة النفسية التي تستمد مقوماتها من الاستقرار والطمأنينة والثقة بالنفس وثبات اليقين بالوطن ورسوخ مشاعر الأخوة بين أهله، قد انقضى، وأننا نعيش دهراً من اهتزاز اليقين بالثوابت والبديهيات.
رحم الله زياد مكوك الذي حاول أن يضحكنا من أنفسنا، ثم مات ونحن نبكي على وطننا وأهلنا فيه وأيام كان للابتسامة أو للضحكة المجلجلة بالفرح متسع من الرجاء، نلجأ إليه لنستمد القدرة على الاستمرار في صنع حياة تليق بنا.
حكاية/ الجمل وقارئة الأبراج!
قبل أن ينتهي التعارف كان قد وجه إلينا، نحن الثلاثة، خمس دعوات إلى الغداء والعشاء والسهرة ملمحاً إلى أنها ستكون «خاصة جداً، يتخلل ذلك كله شيء من التسلية بلعب الورق.
كان ضخم البنيان كجمل، طريفاً في تعليقاته وإن غلبت على كلماته نبرة التاجر. وحين انضمت إلى الجلسة تلك السيدة قارئة الأبراج اندفع يغازلها كأنها عشيقة سابقة. وكانت لديه حكايات كثيرة حول كل الأمور وكل الأحوال في كل البلاد… لذا لم يستطع أي مشارك في الجلسة أن يكمل رواية قصة وقعت له، أو حكاية سمعها، إلا وتولى بالنيابة عنه إكمالها بما يخطر بباله.
على أن طرافة حديثه كانت تفرض على الجماعة التساهل معه.. في حين كانت تتربص به تلك السيدة قارئة الأبراج، التي لم يفتأ يتحداها بأنه يعرف قراءة البخت أفضل منها.
قالت: طيب، قل لي ماذا سيقع لي غداً؟!
قال بسرعة: ستقعين في حبي… لكني، بصراحة، لن أتزوجك!
قالت: لقد وقعت… فماذا بعد؟
قال: هذا لا يفاجئني. ألف امرأة قبلك حدث لها هذا معي!
قالت: إذن، سأنتقم لهن جميعاً! قم معي!
قال مرتبكاً: إلى أين؟!
قالت: إلى حيث تريد.
ارتبك قليلاً، لكنه سرعان ما تماسك وقال: كنت أمزح معك.
قالت: لكنني جادة. قم بنا. هيا. وليكن هؤلاء الأصدقاء شهوداً!
قال: لا تحمّلي المباسطة فوق ما تحتمل. أردت أن أسري عنك..
قالت: بل لا بد أن تقوم معي.. هيا! انهض، أيها الجمل العجوز الذي لم يعد ينفع لا في الحرب ولا في نقل الماء… أنت لا تعرف شيئاً عن النساء، سأجعلك تعرف الكثير! قم، أيها الجبان الذي صار لسانه أضخم منه.
رن هاتفه الخلوي فوجدها فرصة لأن ينهض فيبتعد عن الطاولة، ثم يمضي بعيداً بعيداً، حتى لا يسمع آخر ما وصفته به: إن لسانه أضخم من جثته، ولو أنه ظريف لغفرت له، لكنه دعيّ وبخيل..
وشكّل الحضور لجنة لبحث المسألة… ثم باشر البعض مهمة الوساطة لملء وقت الفراغ، وكان ثمة من افترض أنه أقدر من «الجمل» على ترويض قارئة الأبراج، خصوصاً ذلك الذي مدّ يديه إلى «الورق» يختار منه خريطة الطريق.. إليها!
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ كل محب يعتبر نفسه أول العشاق، ويحاول ابتداع لغته، شعراً أو ما يشبه الشعر…
حبي هو شاعري، وأنا قصيدته… لكننا كثيراً ما نتبادل الأدوار فأغنيه ليكمل ديوانه الذي أنا الحرف الأول فيه والحرف الأخير.

Exit mobile version