طلال سلمان

هوامش

الطبيب ـ الطفل علي الحسن يروي «مؤامرات الكبار»!
كثيراً ما تساءلت بيني وبين نفسي، حين ألتقي طبيب الأطفال المميز الدكتور علي الحسن: ما لهذا الرجل حسن النيات، العفوي حتى ليمكن اتهامه بالسذاجة، ما له والسياسة وهي من اختصاص التماسيح والحيتان والمتميزين بلعبة «الثلاث ورقات»، أصحاب المصالح أو الطامحين لمشاركة أصحاب المصالح!
كان صديقاً وأخاً لصديق هو الراحل الدكتور حسن الحسن. وكان طبيب أطفال ناجحاً، يذهب إليه أطفالي فيعودون من لدنه غير متذمرين، ربما لأن أسلوبه «الألماني» كان الأنجح في التعامل مع المرضى من الصغار من متخرجي المدرسة الفرنسية.
وكان يزورني، أحياناً، كمهتم بالسياسة التي يرى نفسه مؤهلاً للدخول إلى ملعبها، الذي كانت تحتشد فيه أواسط السبعينيات قوى عدة، أبرزها المقاومة الفلسطينية بقيادتها الرسمية وقياداتها الأخرى ولكل منها امتداداتها اللبنانية، ثم الحركة الوطنية بعديدها اللجب الذي يضم «من كل زوجين اثنين»، والتي ظلت قيادتها معقودة للراحل الكبير كمال جنبلاط، وعلى الجانبين ومن الخلف ومن الأمام قوى أخرى أعظم قدرة وتأثيراً، تتصدرها سوريا حافظ الأسد ومعها ليبيا معمر القذافي وفي مواجهتها عراق صدام حسين ومصر أنور السادات الذي كان باشر مسيرته نحو الصلح المنفرد متخلياً عن رفاق سلاح الجيش المصري في حرب العبور (تشرين ـ رمضان) المجيدة، ظهيرة السبت الثابت في ذاكرة الأمة 6/10/1973.
ثم أخذه الإعجاب بالشخصية الساحرة للإمام المغيب السيد موسى الصدر إلى «حركة أمل» غداة تأسيسها… وازدادت دهشتي لهذه الاندفاعة وراء الرجل الذي استقطب «المحرومين» في الجنوب وبلاد بعلبك و«جالياتهما» في ضواحي الفقر من حول بيروت (بدءاً من النبعة وكمب شرشبوك والكرنتينا وصولاً إلى حي السلم مروراً بالشياح والغبيري وبرج البراجنة والأوزاعي)… وهكذا بات طبيب الأطفال، المتخرج من المانيا، عضواً في المكتب السياسي لهذه الحركة التي لقيت استجابة واسعة مع انطلاقتها، وان كانت الظروف المحيطة تشير إلى ان «حركة المحرومين» تمشي في اتجاه الصراع ومن ثم التصادم مع المقاومة الفلسطينية معززة ومدعومة بالحركة الوطنية اللبنانية.
«… كنت في عداد الرعيل الأول الذي ساهم في انطلاق «حركة المحرومين»… وقد تم اختياري كعضو لأول مكتب سياسي لحركة أمل… ولم أبرح يوماً فكر الإمام الصدر ونهجه».
اليوم، وبعد ثلث قرن أو يزيد، من التجربة السياسية المرة، قرر الدكتور علي الحسن ان يروي سيرته الذاتية بجوانبها الشخصية، العائلية، وصولاً إلى مرارات تجربته السياسية خلال حياة السيد الإمام موسى الصدر، ثم بعد تغييبه و«الانقلابات» التي عصفت بقيادة الحركة، فجاءت إليها بداية بالرئيس حسين الحسيني، كرئيس للمكتب السياسي، ثم أزاحته لتنصب الرئيس نبيه بري رئيساً أبدياً للحركة التي كانت تطمح إلى صياغة لبنان الجديد بالارتكاز على «المحرومين» فيه.
بعد مقدمة في «أصول التأريخ وكتابة الذكريات، وانطلاقاً من تقدير ظروف الأمس ومنطقه، التي لا يجوز ان تحاكم بمنطق الحاضر وظروفه»، ينطلق الدكتور علي الحسن في جولة علم نفس «حول الصراع بين أنا وهم»، محاولاً ان يؤرخ بعض ما وقع له وما عاشه من أحداث: «لم أشغل موقعاً سياسياً أو إدارياً أو ميلشياوياً. أكتب عن حقبة الإمام الصدر وما بعدها..».
أما البداية فمن سيرته الذاتية: الوالد العلامة السيد محمد الحسن، قاضي المحكمة الشرعية، ومؤسس أول مدرسة علمية دينية في جبل عامل، وأستاذ كل من الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ضاهر والمؤرخ محمد جابر آل صفا، الثلاثي العاملي صاحب الدور المؤثر في تاريخ جبل عامل ضد الاستعمار العثماني وبعده الفرنسي كما ضد الاقطاع.
«… جدي لوالدتي العلامة الشيخ أحمد رضا، القومي العربي من قبل ولادة فكرة القومية، وأهم عالم في اللغة العربية، وأعظم كتّاب الشام على حد تعبير الكاتب المصري المعروف أحمد أمين، وأحد مؤسسي المجمع العلمي العربي الذي طلب إليه تأليف أول وأهم قاموس للغة العربية..».
ولد الدكتور علي الحسن في النبطية، والأشقاء دكاترة، وان كان ثمة «عورة» فهي ان أخاه الدكتور حسن الحسن انضم في شبابه إلى الحزب القومي، وسافر إلى القاهرة لدراسة الحقوق، ومن هناك أرسل برقية تهنئة إلى العقيد أديب الشيشكلي مهنئاً بنجاح انقلابه العسكري في سوريا، فكان ان طرد من القاهرة… لكن الطرد لم يطل، إذ قامت ثورة 23 يوليو في مصر، بقيادة جمال عبد الناصر، فسمح له بأن يعود بل واستقبله في المطار من غدا وزيراً للارشاد في حكومة الثورة الأولى فتحي رضوان، وتسنى له ان يكمل دراسته حتى التخرج.
في كتاب الذكريات شيء من صور الحب الأول، الذي جعله يرفض ترك صيدا لإكمال دراسته في بيروت… وبعدها القرار بسفره إلى المانيا لدراسة الطب، ترن في أذنيه كلمات وداع أبيه الجليل:
«أنا مستعد لأن أبيع ما فوقي وتحتي كي تكمل دراستك».
في المانيا نتنقل بين صفحات من الذكريات الطريفة عن مواجهة «ابن السيد الشيخ» لمجتمع مفتوح: «حملت حقيبتي على ظهري وذهبت إلى طلاب من جنسيات متعددة. سكنت مع عائلة ألمانية، الأب فيها عامل تنظيفات» ـ ثم انفتحت أمامه أبواب الكنز: ممرضة ألمانية قدمت له أكبر مساعدة، إذ اعتنت به وخففت عنه عناء الوحدة ودرس عليها اللغة.
ولأنه يكره الكسل، فقد ساهم في إنشاء رابطة الصداقة الألمانية ـ اللبنانية مع سامي عساف ورامز صباغ…
وحين غادر ألمانيا اختار ان يعود بالسيارة المرسيدس المستعملة، حاملاً معه الأدوات والآلات الطبية. وبعد أسبوع ركب الباخرة من مرسين في تركيا… وقد وصل مثقلاً بذكريات حب سرعان ما لحق به إلى لبنان، لكن هيهات ان يقبل الأهل، بزعامة السيد ـ الشيخ، ألمانية زوجة لابنهم الطبيب.
أمتع ما في كتاب «من الذاكرة» القسم الخاص بالسيرة، لأنه «عفوي» إلى حد كبير، ويرتكز على وقائع حياة طبيعية تسودها روح المغامرة والبحث عن دور.
أما في الشق السياسي فإن «البراءة»، حتى لا نقول «السذاجة»، لا تزال ترافق طبيب الأطفال حتى اليوم، وتراه يطرح أسئلة يفترض انه يعرف ـ كما كل اللبنانيين ـ أجوبتها.. لكن علي الحسن لا يريد ان يقتنع بأن «اللعبة» لا تقبل ساذجاً مثله، كل سلاحه براءته والتمسك بما يراه الحق.
«من الذاكرة» كتاب لطيف يروي بعض وقائع حقبة لم يكتب تاريخها الكامل بعد.. وبالتأكيد فهي تحتاج إلى من هو أعظم خبثاً ومكراً واطلاعاً ومعرفة للخفايا والخبايا من الطبيب ـ الطفل علي الحسن كي يرويها.
وليد الحسيني يكتب هوامش من دخان المرحلة!
أخيراً، خرج وليد الحسيني من دخان كسل التأمل إلى تفجير الدروس التي استخلصها في كتاب أنيق الطباعة والتنضيد والغلاف، بورق صقيل كاد يحترق بنار «الهوامش» التي هي «مجموعة حقائق مبالغ فيها»، تشكل «محاولة لرفع الرأس من الرمال، عسى نرى، عسى نغضب، عسى نتغير، عسى نغير»!
خلال دهر التأمل أنتج وليد الحسيني جريدة «الكفاح العربي» التي أتعبته دورتها اليومية فأعاد اصدارها أسبوعية، بالخط الواضح نفسه: ثباتاً في وجه اليأس، وصبراً في مواجهة الوعود العرقوبية، وتوسعاً كلما اعتصره الضيق، فقارب دنيا الفن بإصدار مجلة تَناقضَ رقيها مع تقاليد السوق فأتعبته حتى ناء بها فأقفلها يائساً… ثم حاول التعويض بقناة تلفزيونية متميزة، لكنها وجدت طريقها مليئاً بالفخاخ والألغام، فعاد إلى التدخين والتأمل وقد كوته التجارب فاستخلص منها الحكمة على شكل «شوكيات في الجسد العربي».
يقول وليد الحسيني في التقديم إن شوكياته «كتبت بأعواد الثقاب المشتعلة، فهي تحاول إنارة الطريق العربي المظلم، لكنها سرعان ما تنطفئ… فعود الثقاب قصير وبالكاد يشعل سيجارة، في وطن عربي لا يحتاج إلى دخان إضافي».
وهو يعترف بأنه كتبها على مدى 15 سنة، وبوحي من آلهة الأنظمة العربية وسياسييها ومفسديها… مستخلصاً ان «الحروف التي تكتب بحبر السلطان سريعة الامحاء».
هنا مجموعة من «هوامش الحسيني» الذي أخذته عواصف اليأس إلى الحكمة:
– اللبناني مفلس ينفق على دولة مسرفة. إذا قضي على الفساد يفقد اللبناني وظيفته… فهو مثل حكومته ينفق ما لا يملك.
– ظل يشتم لبنان حتى ظنوا انه لبناني!
– غريب كيف يسقط الثلج في لبنان من دون ان يغير لونه.
– يعاني لبنان من عجز الدين العام وعجز الحكومة وعجز مجلس النواب وعجز الكهرباء. انه مأوى عجزة!. لكن ثمة من يرى ان «لبنان غالي» فيحاول بيعه!
– عدد سكان لبنان أربعة ملايين… ليس بينهم لبناني واحد!
– كهرباء لبنان مثل الشمعة، من نفخة تنطفئ!
– القانون في لبنان نومه ثقيل! اللبنانيون صيادون مهرة، ولكن للفرص!
– السياسة في لبنان استيراد وتصدير. لبنان مزرعة. لبنان وطن نهائي.. لعدة شعوب!
أما على المستوى العربي فاليأس أعظم حضوراً خصوصاً ان «الكفاح العربي» صدرت ـ كما «السفير» ـ عشية انفجار الحرب الأهلية في لبنان، وهي الحرب التي شارك فيها العالم أجمع، خصوصاً ان الثورة الفلسطينية التي كانت قد أكملت انزلاقها نحو مستنقع «السلطة» في بلد صغير بتوازنات دقيقة تختلط فيها حروب الأنظمة مع مبدأ الثورة كطريق إلى فلسطين، فضلاً عن ارتطامها بالنظام اللبناني الجبار حقيقة وبعكس ما توحي هشاشته المفترضة والمغرية بالخروج منه عليه وبالعكس.
وفي طرابلس ليبيا التي تحولت ـ في فترة معينة ـ الى مضافة لكل الثوار، أصليين ومزيفين، عاملين ومتقاعدين، عرباً وأفارقة، وصولاً إلى الفليبينيين والهنود الحمر في أميركا الشمالية، ومجموعات من صعاليك أميركا اللاتينية، وبعض أنحاء آسيا، فضلاً عن جماعة البوليزاريو واشتات من المعارضات العراقية المتعارضة (ولا تزال…).
كان على زائر طرابلس، آنذاك، ان ينخرط في المحاورات والمجادلات والمخاصمات والمناكفات، التي يجبر أصحابها على طيها ـ ولو ظاهراً ـ متى حضر «الأخ معمر» أو من يمثله، خصوصاً إذا هم لمسوا ان الخلافات قد تذهب بالمعونات… والمعونات أهم من العقائد والأيديولوجيات.
في تلك الفترة التي شهدت قيام ثم اندثار جبهة الصمود والتصدي، التي أقيمت كرد فعل عصبي على انجراف أنور السادات بمصر نحو الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، وإقدامه على زيارة القدس المحتلة، ازدحمت الفنادق القليلة في طرابلس بالمنادين بالعودة إلى الميدان فوراً للتحرير الكامل والناجز، وقد أضيفت مصر إلى فلسطين وهات يا خطابات وشعارات ومنشورات ومعها جلسات سمر بعد عناء النهارات الطويلة.
لسوف تجد في «كتاب الجيب» أنيق الطباعة مع بعض الرسوم الكاريكاتورية المناسبة، ما يعكس تلك الأجواء الممتدة حتى اليوم، مع الفوائد ـ أي الهزائم المركبة ـ التي توالت على امتداد ربع القرن الأخير، وهي الفترة التي ضاع فيها لبنان ـ الحركة الوطنية، وفلسطين ـ الثورة وعراق الطاغية صدام حسين وأضاع الخليج الطريق إلى عروبته، وترنح السودان تحت ضربات الانفصاليين وعجز نظامه عن حمايته، وتشلعت اليمن فغرقت «سعادته» في بحر من دماء بنيه.
أغلب الظن ان تلك الفترة تسكن العديد من «هوامش» وليد الحسيني العربية، وهنا بعضها الفصيح:
– محمود عباس ضد انتفاضة الحجارة، لأن قصره من زجاج.
– في زمن عرفات استولت المقاومة على السلطة وفي زمن عباس استولت السلطة على المقاومة.
– الفلسطيني هو المخلوق الوحيد الذي يمكن ذبحه أكثر من مرة.
– عندما تحب الشعوب العربية حكامها.. نتأكد ان الحب أعمى.
– أحياناً يدفعنا اتفاق العرب إلى التحسر على خلافاتهم.
– السياسيون ليسوا أطفالاً.. لأن الأطفال يكبرون.
– في الديمقراطية تنتخب من تريد ليقرر ما لا تريد!
– حرية الكلام تحتاج إلى ديكتاتورية الإصغاء.
– بلد يبحث فيه القانون عنك أفضل من بلد تبحث فيه عن القانون.
– أن تلقب الصحافة بـ«صاحبة الجلالة» لا يعني انها من حريم صاحب الجلالة.
– للحاكم «آلاف العيون».. لكنه يرى بعين واحدة.
– لكل دولة رعايا.. ورعايا أميركا دول.
– «التنصت» وسيلة مباشرة لإبلاغ المسؤولين رأينا بهم.
– مستقبلنا «وردي».. تتساقط الأوراق ويبقى الشوك.
– موت المواطن العربي يسقط «حق» الحاكم في تعذيبه.
– توضيح (1) لشعار المفاوضات: السلام مقابل الأرض.. (التي لم تحتلها إسرائيل).
– توضيح (2): يتخلى العرب عن الأرض مقابل السلام.. وتتخلى إسرايئل عن السلام مقابل الأرض!
– خريطة الطريق الأميركية تعني تقسيم فلسطين إلى دولتين.. إسرائيليتين.
– الحرب من أجل فلسطين.. أرشيف العرب.
بعد هذا كله يزعم وليد الحسيني ان هذه «الهوامش» ليست جلداً للذات، بقدر ما هي تحريض للانقضاض على ذات السياسات، ذات الفساد، ذات التراجعات، وذات الدكتاتوريات.
ما يريده وليد الحسيني الذي يغضب مرة كل قرن ان نغضب، ان نتغير، ان نغير.. مع علمه بأن «الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، وهذا هو جوهر المسألة، فعسى «هوامش» أبي سامر تكون «شوكيات في الجسد العربي» كما أرادها بعنوان كتابه.
مــن أقــوال نســمة
قــال لــي «نســمة» الذي لم تعــرف له مهــنة إلا الحب:
ـ أول شروط الحب أن يتحملك حبيبك في ظروف البؤس والضيق…
ليس حبيباً من يفترض ان حياتك مساحة مفتوحة من الرغد، ويرى نفسه همك الأكبر.
للهموم مساحتها في الحب، فإن صمد لها كان حبيبك، وإلا فانظر إلى حيث حبك… الحقيقي.

Exit mobile version