طلال سلمان

هوامش

جمال الغيطاني يشرح «تغريبة» مصر عن روحها
في الستينيات كانت القاهرة عاصمتنا، نتواعد على اللقاء فيها ومعها مشرقاً ومغرباً. تبهرنا من بعيد، بوصفها المركز، سياسياً، ومصدر التنوير بالعلم والثقافة والفنون، حضارياً، فإذا ما دخلناها غمرنا الزملاء، الذين سرعان ما صاروا أصدقاء، بعاطفتهم فيسقط الانبهار، ومعه الشعور بالغربة، ويتنامى الود متبادلاً وتتعزز الصداقة.
كنا شباباً تسرنا الكلمة، رواية أو قصيدة أو مسرحية أو تحقيقاً صحافياً مكتوباً بماء العين، كقصة يرويها شهودها بجراحهم أو بأفراحهم.
وكان جمال الغيطاني يتقدم سريعاً، كروائي، على طريق الإبداع. التقينا مراراً. تبادلنا الآراء، فاختلفنا قليلا واتفقنا كثيراً، ونما الود فأخذنا إلى الصداقة.
ذات يوم فاجأني جمال الغيطاني بالسؤال: هل تعرف القاهرة؟!
قلت: لا أدعي ذلك أبداً، وان كنت أعد نفسي دائماً بأن اجتهد في محاولة التعرف الى هذه المدينة التي نصلها على جناح أشواقنا فلا نراها جيداً.
قال: قم بنا أعرّفك إلى بعض القاهرة، ربما إلى مكمن روحها. سنبدأ جولتنا بالأحياء الفاطمية، وقد تمتد إلى بعض القاهرة المملوكية. أما قاهرة محمد علي وأبنائه فأظنك تعرفها لأنها ميدان حركتنا اليومية.
قصدنا إلى «الحسين». قال: سنتغدى في مطعم لأكله نكهة خاصة هنا، ثم نبدأ رحلتنا مع التاريخ، في هذه المنطقة التي يرى أهلها انهم أقوى من الزمن، وان أمامهم الوقت ليعرفوها بتفاصيلها لأنها تسكن قلوبهم.
من مقام «الحسين» انطلقنا في اتجاه «السكرية» و«قصر الشوق» و«بين القصرين» حيث استولد نجيب محفوظ الروائي المميز الذي كان يسكنه. وانطلق الغيطاني يشرح بشغف، فإذا لكل مبنى قصته، وإذا كل درب يروي حكاية من عبروه، وإذا البلاط المرصوف، وقد ذهبت الأقدام بسويته، يحمل رائحة الأسلاف الذين عاشوا أعمارهم هنا، وتركوا سيرتهم لمن يحب الناس والأرض فيرويها قصصاً يكاد يرى أبطالها ويسمع حواراتهم والهمسات.
وليس سراً ان جمال الغيطاني كان يرى نفسه، منذ تلك المرحلة المتقدمة، امتداداً لنجيب محفوظ، عليه ان يكمل ما بدأه، مقتحماً صعوبة المهمة، مستنداً إلى انه يمتاز عن «قدوته» بانه لا يخاف السفر، وبالتالي فهو قد عرف شيئا عن «الخارج»، إضافة إلى معرفته الدقيقة بالداخل، وبات ممكنا ان يجري شيئا من المقارنة بين الأحوال هنا وهناك.
ستمر سنوات قبل ان نلتقي في الخارج، وتحديدا في منزل الزميل الراحل علي الشوباشي وزوجته المقاتلة فريدة الشوباشي. وكان جمال الغيطاني قد وصل الى باريس لتسلم اول جائزة دولية عن نتاجه الروائي.
[[[
القاهرة هي قلم الكتابة وحبرها. القاهرة التي تتزايد ملايين الناس فيها على مدار الساعة فلا تضيق بهم بل تتوسع جنباتها لاستيعاب المزيد من الهاربين من فقرهم في الريف الذي توقف نموه عندما أغار «مغتربوه» على الأرض الزراعية فيه فبنوا فيها منازلهم… وفي الجنبات «مدن المقابر»، فلما ضاقت بالأحياء الذين جاءوا يزاحمون أمواتهم، التفت البعض إلى جبل المقطم فحفر في جنباته ثم أقام بيوتاً تحت جناحه، فلما ثقلت الأحمال انهارت بعض الصخور فسحقت المغاور التي صارت مساكن او مخانق لمن لم يجد مأوى يلجأ إليه وهو يسعى وراء القوت لعياله الذين لا يكف عن رفدهم بالتعزيزات المستمرة عملاً بقاعدة: الرزق على الله… والله رزاق كريم!
[[[
مشيت إلى جانب جمال الغيطاني الذي كان ينثر عليّ قصيدة حبه تلك الأحياء الفاطمية في قاهرة المعز: هنا أمضى نجيب محفوظ نصف عمره يتأمل الناس في عاداتهم وتقاليدهم، يدخل معهم بيوتهم فيسجل دقائق حيواتهم بأفراحها وأتراحها، بالتشابك بين خضوع الحريم للأزواج ـ الأباطرة، ومحاولات الأبناء التمرد المغلف بالطاعة العمياء، قبل ان تدخل السياسة البيوت المحافظة، فتخلخل ثوابتها الموروثة. هنا كان نجيب محفوظ يتأمل ويختزن انطباعاته وما يتصل بأذنه من همسات تختلط فيها الشائعات بالقصص الحقيقية، بنوازع الخير والشر في «النفس الأمارة بالسوء». هنا كان يرصد حكايات الحب الملفوفة بعباءات العاشقات القاصدات «سيدنا الحسين» للقاء العشاق الذين هبط عليهم الإيمان واشتاقوا إلى حفيد رسول الله، ومن يختبئ في الجانب الآخر من سريره.
[[[
سيمضي وقت طويل قبل ان يكتب جمال الغيطاني عن «القاهرة الجديدة» التي لا شيء فيها يذكّر بماضيها القريب: لا ناسها هم ناسها، ولا أنماط حياة «القطط السمان» التي غدت غيلانا ملتهمة، تشبه من بعيد أو قريب حياة الناس فيها قبل «الانفتاح». فأغنياء الزمن الماضي كانوا على شيء من التورع، وكانوا يخجلون من التباهي بحجم ثرواتهم ومصدرها. أما نهّابة هذا الزمن فيتباهون بصور إسرافهم المستفزة، ويتنافسون على إظهار براعتهم في نهب المال العام، وعلى تأكيد سطوتهم على الدولة بحيث ينهبون بأختام رسمية، ويصيرون نواباً ووزراء قبل ان تثبت براءتهم من جرائم سرقة قوت الفقراء وحقوقهم في وطنهم.
ولقد اختار جمال الغيطاني ان يجعل من جريدة مفترضة ـ «الأنباء» ـ نموذجاً لمجتمع الفساد والإفساد، بالانتهازية والنميمة والفضائح الجنسية واستغلال النفوذ، بالوشايات المسمومة القابلة لأن تتحول الى مصاعد تحمل «المخبرين» إلى أعلى.
يعرّفنا جمال الغيطاني على «الأنباء»، بدءا برئيس تحريرها الذي بلا اسم، فيشار إليه بلقب «الاستاذ». وفي «الاستاذ» تحتشد مجموعة من الشخصيات التي عرفها الغيطاني عن قرب، أو عرف وسمع عنها، أو قرأ عنها في الصحف الغربية. أما اسرة تحرير «الأنباء» فتضم مجموعة من الشخصيات المسحوقة التي عرف «الاستاذ» كيف يستغل النواقص في شخصية كل فرد منها، رجلا كان أم امرأة. فنتعرف إلى جيش من المنافقين والمتزلفين وكارهي الآخرين. ونتعرف إلى بعض المستعدات لشراء المناصب بأجسادهن، يتنافسن على التقرب إلى «الاستاذ». لكنه يرفض هذه الصيغة، ويحتفظ بحق الاختيار بحسب المهمة المطلوبة من كل منهن. كما نتعرف إلى عدد هائل من المتبرعين بالوشاية على الغير، فيهم النصاب العلني، والكاتب بقلم غيره، والمحرر بلسان غيره.
ليس من سويّ واحد في هذه الرواية ذات النفس الملحمي، والتي تزدحم فيها مئات الشخصيات فتصطرع وتتصادم وهي تتنافس على الحاق الأذى بالغير. تزوّر الوقائع لتسيء إلى من بقي من الشرفاء والصامدين في وجه الفساد. تشوه التاريخ، ومن بعده الجغرافيا. تنهب الاحياء والأموات، الأموال والأراضي، البنوك والشركات. تسحق الفقراء وتنبذهم إلى خارج «الخطط».
«الأنباء» هي جريدة الترويج لتغيير روح مصر ووجهها ولسانها… وهي تعكس حالة ما بعد الانهيار وخروج الوطن من جلده، وارتهان إرادته واستثمار الهزيمة لبيع الأمة ورهن روحها لدى عدوها.
في «خطط الغيطاني» لا تفعل التوريات غير تأكيد الوقائع والمرتكبين بالأسماء، ولا تفعل الألقاب في تمويه الشخصيات التي افترض انه قصدها، خصوصاً ان المواصفات المروية تنطبق على وقائع عاشها الكاتب أو عرف بها مباشرة، ومن خلال عمله في الصحافة، حيث كان قريباً ـ على بعد ـ من التحولات والمتحولين، الذين سرعان ما غيروا جلودهم وباعوا عقولهم وألسنتهم للشيطان.
لا تعرف هل «الخطط» هي المدينة، القاهرة، أم هي مصر متجمعة ومجموعة في مدينة بلا حدود، وان قامت من حولها أسوار الهيمنة الأميركية والإذلال الاسرائيلي بعد بيع النصر المؤزر بهزيمة ساحقة للوطن وأهله.
كذلك، فإن الرواية تزدحم بشخصيات، تافهة وانتهازية، أو متحكمة وجبارة وعميلة للأجنبي وملتحقة به ومتجبرة على من كانوا أهلها، ترى الهزيمة استثماراً مجزياً فتبني عليها تجارتها… وإن ظل الكثير من الألغاز معلقاً في فضاء التساؤل: من هم «العجم»؟. وإذا افترضنا ان أهل «الخطط» الذين هجروها إلى «الخلاوي» فاعتصموا بها هم هم أهل مصر، فمتى العودة بمصر إلى مصر؟!
«خطط الغيطاني» المكتوبة بنفَس ملحمي، تقدم ما يمكن اعتباره يوميات لمدينة ـ وطن تُنهَب خيراتها على مدار الساعة، يتحكم فيها جلادون وعسس وعاهرات ومخبرون وانتهازيون، والكل مستعد للذهاب في خيانة أرضه والغدر بشعبه إلى الحد الأقصى.
… وفي انتظار ان نشهد سقوط «الاستاذ» الذي يكاد يلخص أهل السلطة التي جاءت بانقلاب وتستمر بفعل ارتهانها للعدو الذي صار سيدها، سوف نستمر في حالة انتظار لعودة من أُخرجوا من أسمائهم وهوياتهم ومدنيتهم وبيوتهم، إلى وعيهم ومن ثم إلى مهمتهم في استعادة الوطن الذي حوله الطغاة إلى منهبة.
هات لنا مصر التي في خاطرنا جميعاً ايها الغيطاني ذو الخطط.
مع التحية للمقريزي وخططه، والجبرتي الذي أرسى التقليد بالتسجيل الدقيق ليوميات الناس تحت الاحتلال والفوضى الدموية للطغيان، تاركاً لغيره ان يستخلص الدروس السياسية.
ومن هنا بالتحديد باشر الغيطاني اكمال المهمة.
سعاد جروس تقمع الرغبة: هكذا أحبه!
لأمر ما ظلت حكايات الحب بعيدة عن خاتمتها الموعودة، فحولتها سعاد جروس إلى مقاطع من قصائد يستحيل اكتمالها في غياب أبطالها الذين لا يحبون أنفسهم، أو تغنيهم أنفسهم عن غيرهم.
سعاد جروس تبحث عن قرط أضاعته على «تلك التلة في تلك الليلة» مع انه ما زال في أذنها، لتعترف من بعد بأنه لم يكن القرط بل «همسة تشبه القبلة ضاعت أو طارت مع الأثير».
ولأن عقلها الذي يكبرها بسنين قد خرج من رحمها سهوا ولم يعد، فإن الوجه المكفهر يطل فجأة آخر النهار ندما منتصب القامة.
هل الحكاية انتهت قبل ان تبدأ، أم انها بدأت ثم تاهت عن خاتمتها؟! ام ان «الحبيب لا يحب نفسه كما تستحق نفسي».
وهل القصائد المبتورة بدايات لحكايات لا تزال تبحث عن الخاتمة؟ ام انها مجرد خواطر عابرة عن لحظات جميلة ظلت دون التمني؟ ام ان سعاد جروس تترك لنا فسحة للتصور وتحيل علينا مهمة الاكمال، تخيلاً؟ ام هي تخفي النهاية تشويقاً واستثارة للفضول؟! أم هي تقف عند حدود الرغبة تقمعها حتى لا تصير شبقاً، وتطوي عنق الكلمات حتى لا تصير اعترافا؟!
هي لحظات من المتعة، سجلها قلم يتعب من الاسهاب. انها تنهدات تنطلق أحياناً مغسولة بالدمع، لكنها لا تشكل اعترافاً، ولا هي تبكي حبا مستحيلاً… بل لعلها لم تكن ترغب من الــحب الا بلهــفة الشوق اليه، وبعدها تدخله في امتحـان لا مجــال للنجاح فيه.
سعاد جروس توفر لغة التفاصيل للصحافة، اما في الحب فتعطينا عناوين خاطئة لعشاق عابرين، ثم تذهب إلى الخدر اللذيذ الساري في الجسد المستلب.
ربما لهذا اختارت لمجموعتها المشطرة عنوان «هكذا أحبه». ولعله، العاشق، هكذا يحب الحب: شعراً ما ان تنهمر بداياته رقيقة، حتى يرحل الغيم إلى أرض أكثر عطشاً.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب لا يشيخ. انه وليد الروح. أعرف عشاقاً يتوكأون على حبهم فيبارون الفتية رقصا وغناء فيهزمونهم.
الحب هو منبع الفرح… من أحب أدام شبابه وأكرمته الحياة لأنه يكرمها.

Exit mobile version