طلال سلمان

هوامش

«إيريك رولو» مكرماً في بيروت: تاريخ السياسة العربية في نصف قرن

من حق إيريك رولو أن يحظى بالتكريم في بيروت، وقبلها في القاهرة التي ولد وشبّ فيها، كما في مختلف العواصم العربية التي عرف أهل القرار فيها، وكذلك أصحاب الرأي من كتاب ومفكرين وصحافيين ومبدعين عموماً، وإن كانت صداقته للرئيس الراحل جمال عبد الناصر المحطة الأبرز في هذا السياق.
فهذا الصحافي الممتاز والذي شغل لفترة طويلة موقع كبير مراسلي جريدة «لوموند» الفرنسية في منطقة الشرق الأوسط، قد تعامل مع حركة الأحداث في هذه المنطقة في فترة فورانها العظيم، بامتداد الستينيات وحتى انطفاء زخم الحركة الثورية فيها بعد اغتيال حرب رمضان ـ تشرين 1973 بمعاهدة الصلح المصرية ـ الإسرائيلية، بتعاطف واضح يرشده العقل فلا تأخذه الحماسة للأرض التي أنجبته، مصر، أو لأصدقائه الكثر من المسؤولين الذين احترموا موضوعيته فأسروا إليه بالكثير من الأسرار السياسية، وحتى العسكرية، كما شرحوا له مواقفهم فحفظها كأمانة، وإن أفادته في التحليل كما في القراءة الدقيقة لحركة الأحداث وتطوراتها المحتملة.
وقد أسعدني حظي بأن عرفت إيريك رولو عن قرب: التقينا مراراً في القاهرة، العاصمة الكونية خلال حقبة الستينيات، كما في بيروت، وفي مكتبه في صحيفة «لوموند» في باريس، وفي طرابلس الغرب بليبيا، وفي الرباط، على هامش مؤتمر القمة العربية الذي أوفد رئيس جمهورية لبنان، آنذاك، الراحل سليمان فرنجية، إلى الأمم المتحدة كداعية لقضية فلسطين التي رأس وفدها الراحل ياسر عرفات، وفي أمكنة أخرى من الوطن العربي الذي كان يتفجر بالثورات والاغتيالات ومسوغات التدخل الأجنبي، الذي زرع المنطقة بعد تقسيمها بأسباب التفجر، عرقيا ودينيا.
على أن واحدة من أجمل المفاجآت وقعت لي مؤخراً، إذ جاء إيريك رولو إلى بيروت لحضور ندوة عن فلسطين التي طالما كان بين دعاة إنصاف شعبها، هو الذي كتب الكثير عنها ولها متجاوزاً «يهوديته» و«فرنسيته»… ولقد التقينا مرتين، واستعدنا بعض الذكريات عن العديد من الأصدقاء المشتركين وبينهم «كبيرنا» محمد حسنين هيكل والراحلون أحمد بهاء الدين ولطفي الخولي ومحمد سيد أحمد والشاعر العظيم محمود درويش، فضلاً عن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وبعض رفاقه الذين اغتيلوا تباعاً.
ما زال إيريك رولو يتمتع بذاكرة ممتازة، تحفظ إضافة إلى إنجازاته الصحافية ما حققه بعدما ترك «لوموند» ليذهب سفيراً للرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران في تركيا، ثم في تونس، قبل أن يتقاعد ليستقر في بيت ريفي في الغرب الفرنسي.
بين آخر ما حققه إيريك رولو قبوله بأن يسجل بعض ذكرياته في القاهرة على شريط يحققه المخرج العالمي كوستا غافراس، بكاميرا الفيديو، ويجمع إلى رولو شخصية عربية لعبت دوراً دبلوماسياً استثنائياً هو الأخضر الإبراهيمي.
وأنقل هنا عن الزميلة «الشروق» المصرية، بعض النتف عن ذكريات رولو خلال رحلته الأخيرة إلى القاهرة في أوائل شهر أيار الماضي، وقد سجلها الزميل محمد موسى الذي كان يرافقه في تطوافه على مهاجع ذكرياته في عاصمة المعز:
«توقفت السيارة الفضية أمام ضريح الزعيم جمال عبد الناصر في صباح السبت الساخن والضبابي على القاهرة، وكان الهدوء يلف المنطقة حول المسجد. انفتح باب السيارة، وظهر منها المخرج العالمي كوستا غافراس، يحمل بيده كاميرا الفيديو، ثم هبط من السيارة الكاتب والدبلوماسي الفرنسي إيريك رولو.
قبل أربعين عاماً التقى رولو، المولود في مصر، صاحب الضريح للمرة الأولى، بعد سنوات من رحيله عن مسقط الرأس إلى باريس: «في بداية الستينيات دعاني لطفي الخولي للعودة إلى مصر ومقابلة محمد حسنين هيكل، فطلبت من هيكل أن يعرفني بعبد الناصر».
يخطو إيريك رولو ببطء مستنداً على عصاه، في اتجاه الضريح الخالي تقريباً في هذا الوقت من الصباح. ربما يتذكر الآن مداعبة «أبو خالد» له بأنهما «أبناء حي واحد». وُلد إيريك في مصر الجديدة عام 1926، لعائلة من أثرياء اليهود المصريين. لكن الشاب تمرد على أصوله الطبقية وشارك القوى التقدمية في الجامعة في ثورتها العارمة عام 1946، خلال دراسته الحقوق في جامعة القاهرة.
الآن يذهب إلى دفتر الزيارات بجوار الضريح، ويكتب عبارة طويلة بحروف صغيرة تستعصي على الالتقاط. يستدير بهدوء ويخرج من الضريح، وكاميرا كوستا غافراس تلتقط مشهداً آخر في مشوار الصديقين.
«قبل وفاته بفترة قصيرة، قابلته في جلسة طويلة. قال لي: خلينا نتكلم بيني وبينك من غير تسجيل. تكلم عن أعماله وأخطائه، واعترف بأنه سقط في فخ الحرب سنة 1967. قال إنه عمره ما فكر في القضاء على إسرائيل لأنه عارف أن ليها حلفاء أقوياء. قال: أنا واقعي وكنت عايز أحل مشكلة فلسطين. في نهاية الجلسة قلت له: خسارة يا سيادة الرئيس، أنت قلت كلام مهم ونقد ذاتي وحكيت عن آمالك في السلام، وخسارة إنه مش للنشر».
يبتسم رولو وهو يتذكر رد فعل الزعيم الراحل، الذي قال في غموض: حتنشره بعدين: «ما قالش بعد وفاتي، لكنه أخدني من دراعي، طلعنا من المكتب للطرقة، فتح باب لقيت ضباط قاعدين بيسجلوا. قال لواحد منهم يعمل لي نسخة».
.. والنسخة النادرة لشريط مراجعات عبد الناصر ما زالت تزين أرشيف إيريك رولو، وسوف تظهر للنور في مذكراته عن عبد الناصر قريباً.
وقد أعلنت الجامعة الأميركية في بيروت، قبل أيام، أنها قررت منح الدكتوراه الفخرية لثلاثة أفراد متميزين هم البروفسور الفلسطيني وليد الخالدي، والصحافي الفرنسي إيريك رولو، والممثل السوري دريد لحام.
وقالت الجامعة في بيان إن الصحافي الفرنسي المولود في مصر إيريك رولو 1926 ينشط في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني. وهو كاتب ودبلوماسي وأستاذ ومعلق سياسي درج على كتابة الافتتاحية لصحيفة «لوموند» الفرنسية، لأكثر من ثلاثة عقود.

هوامش البقاع: أرجوحة القمر وديوان شعر الفرح..

يمتد سهل البقاع كلوحة تشكيلية أسطورية الحجم بألوان الطيف، يتجاور فيها الأخضر والأصفر والأحمر والرمادي، في حين تقوم سلسلتا جبال لبنان الشرقية والغربية بدور الإطار مضفية اللون البني بتدرجاته الوردية في لعبة النور والظلال التي تشارك فيها أشعة الشمس شروقاً وأصيلاً وغروباً فتضفي بهاءً رصيناً على ذلك المشهد الذي يشارك التاريخ والجغرافيا في تكوينه.
ينبسط السهل كامتداد للفالق التكويني للمنطقة ما بين أقصى الشمال السوري عند جبال طوروس، وما بين الحولة وبحيرة طبريا في فلسطين حيث ينتهي تدرج جبل الشيخ بهضبة الجولان التي تشكل نهاية سلسلة الجبال الشرقية…
على كتف السهل، وفي الطريق إلى القمم العالية التي تبلغ الذروة عند القرنة السوداء المجاورة لظهر القضيب، في أعالي سلسلة جبال لبنان الغربية، تتوالى سلسلة من التلال والهضاب فتحتضن القصبات والقرى التي يتزايد فيها العمران، من حول ما كان قلاعاً وثكناً لجيوش عبرت هذا السهل من الشرق البعيد إلى البحر المتوسط، غرباً، أو من الشمال الأعظم بعداً إلى الجنوب في اتجاه بيت المقدس…
وفي الأودية العميقة التي تنطوي على عزلتها في أحضان الجبال العالية يمكنك أن تجد مزارات لأولياء ونسّاك اختاروا ملاجئ لهم، بعيداً عن الممرات الإجبارية، في حمى القمم التي تقوم بدور الحرس الإمبراطوري لمكامن السحر في الطبيعة الخلابة.
بفضل سلسلتي الجبال الحاضنتين لسهل الخير في البقاع، تتفجر الينابيع والعيون في مواقع عدة مشكّلة جداول صغيرة حتى إذا ما تلاقى بعضها تدفق الليطاني نهراً يحفر مجراه انطلاقاً من بعض العيون، أشهرها نبع «العليق» بالقرب من إيعات غير البعيدة عن بعلبك، وحتى مصبه، محتضناً عدداً من الأنهار الصغيرة عبر طريقه الطويلة قبل أن يهدأ ليجمع أرباح رحلته في بحيرة القرعون في البقاع الغربي، حيث أقيم سد لتخزين المياه حتى يفيد منها الزرّاع والفلاحون ولا تضيع هدراً، وبعده تتوافر الفرصة لتوليد بعض الطاقة الكهربائية في محطة توليد صغيرة في مركبا. وفي القاسمية جنوباً، على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، غير بعيد عن صور تنتهي رحلة الليطاني بعد أن يملأ شواطئ مجراه بالبساتين والحدائق والحرس الأخضر من أشجار البطم والصفصاف العالية.
عند أقدام سلسلة جبال لبنان الشرقية، غير بعيد عن مجرى الليطاني وبحيرة القرعون، وفي مدينة عنجر على وجه التحديد، كان الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك قد ابتنى قصراً صيفياً تحيطه حدائق غنّاء تمتد بامتداد السهل إلى فلسطين، وهو السهل الذي ذكره الشاعر الكبير سعيد عقل وقال عنه «بستان هشام».
بالمقابل فإن نهراً أغزر تدفقاً هو العاصي يتفجر من مغارة الراهب، قرب مدينة الهرمل، وهي المغارة التي يروى أن الناسك مارون الذي صار قديساً ثم حمل اسمه أحد المذاهب في الدين المسيحي (الموارنة) قد لجأ إليها هرباً من اضطهاد المتشددين اليعاقبة ممن اتهموه بالزندقة.
غير بعيد عن منبع النهر الذي يتميز بأنه، يجري خلاف المقدّر والمتصوّر، ومن هنا تسميته «العاصي» وعند مدخل الهرمل، يقوم «حارس» ثابت هو «القاموع» الروماني، وغير بعيد عنه دير مار مارون، وقصر البنات بالقرب من «العاصي» الذي اختار لنفسه مجراه الاستثنائي.
فهذا النهر الذي يقصد الشمال بامتداد السهول السورية ليصب في البحر الأبيض المتوسط عند شاطئ إسكندرون، قد وفر الفرصة للملكة العظيمة زنوبيا، لكي تمد قناة منه إلى مركز حكمها في تدمر في قلب البادية.
وفي بعض ضواحي الهرمل، ومن محطة وادي الجوز تحديداً اتخذ الأديب العظيم جبران خليل جبران مسرحاً لأحداث قصته الأخيرة «إرم ذات العماد».
الجمال يستولد الشعر… وربما لهذا جاء العديد من شعراء لبنان والأدباء وأهل القلم عموماً من البقاع، بشماله وشرقه وغربه… من الهرمل إلى بعلبك، ومن زحلة إلى مشغرة ومن القرعون وجب جنين إلى حيث مهبط الإلهام في وادي التيم جسر التلاقي مع جبل عامل.
وتحتفظ الذاكرة الشعبية بأسماء شعراء كبار يتصدّرهم المعالفة، أي أبناء عائلة المعلوف، وأبرزهم شوقي وفوزي المعلوف، وشاعر القطرين، لبنان ومصر، خليل مطران، والحيادرة الذين برز منهم سليم وجودت حيدر، قبل أن يطل سعيد عقل بقصائده التي تداني المعلقات، ومن البقاع لمع «قمر مشغرة» زكي ناصيف كمؤسس مجدد في الغناء الشعبي خاصة والفولكلور عموماً، وأسعد أبو حربه الذي وصفه المبدع عاصي الرحباني بأنه صاحب أرشق قدم في لبنان وأبهى من رقص الدبكة.
كذلك فإن الذاكرة الشعبية تحتفظ بأسماء العديد من أهل القلم صحافيين (رياض طه) وروائيين ومبدعين بينهم رسامون كبار (رفيق شرف) ونحاتون (آل الرفاعي) فضلاً عن الذين حفظوا للفنون الشعبية أصالتها (في الدبكة آل الصلح الذين أخذ عنهم آل كركلا وفهد العبد الله) ومعهم الذين أضافوا إلى فنون الموسيقى والغناء الشعبي (وبينهم علي حليحل وعاصي الحلاني ومعين شريف إلخ)..
وقد وفر البقاع، بموروثه الثقافي وتقاليد أهله متعددي المنابت والأصول، المناخ الملائم لإحياء التراث الفولكلوري، رقصاً وغناءً، دبكة وحداءً، وقصصاً تخالطها الأساطير… وبهذا لم تكن بعلبك المسرح فقط، بل هي حاضنة المهرجانات التي تعرف باسمها والتي تشكل فرصة سنوية لأن يتعرف الجمهور اللبناني إلى باقة من النتاج العالمي المميز في مجالات الغناء والرقص والموسيقى، وهي تقدم في إطار أسطوري الجمال من إبداعات الزمن القديم التي قاومت أعاصير الطبيعة وتعاقب الحملات والغزوات ومطاردات الإمبراطوريات بعضها بعضاً حتى اندثرت تاركة منها ما يستحق البقاء من فنون العمران والتراث الموسيقي غناءً ورقصاً وتمثيلاً.
إن البقاع يكاد يكون خشبة مسرح أسطوري تجللها سلسلتا جبال، وتغمرها في الليالي القمرية أطياف العشاق وقد تحايلوا على التلاقي بعدما فرغوا من الحصاد، وانصرفوا إلى بث نجواهم في ألوان من الغناء الشجي، تختلط فيه فنون العتابا والشروقي وقصائد الغزل الرقيق يروون فيها شجنهم بصحبة العتب، حتى إذا هزّهم الفرح اندفعوا إلى الحلبة لتأكيد الرجولة وبث الفخر في صدور الحبيبات اللواتي يتشوقن إلى اللقاء وإلى التعبير عن مخزون القلب عبر حلقة الدبكة التي تجمع العشاق من فوق رأس الرقيب.
البقاع، سهل الخير الذي حفظ أهله الكثير من تقاليد الأجداد وقد كان من بينهم الفرسان والفلاحون، الحكام والعصاة، الشعراء والكتّاب، المطربون والمتميزون في أداء الدبكة التي تعتبر بمثابة بطاقة هوية لهؤلاء الذين عمروا وارتقوا الجبال، والذين يرون في سهلهم الممتد بين سلسلتي جبال أرجوحة للقمر، ينثر من فوقها فضته ليغذي قصص الحب وزخم الزنود وإيمان الصدور ببقاعهم الذي ينبت مع الرجال الشعر والفن وعشق الجمال.
وبعلبك مهرجان دائم للفنون والإبداع من قبل أن تتخذها النخبة قلعة مفتوحة لمهرجانات الفرح الصيفية.
(تلبية لطلب من لجنة مهرجانات بعلبك)

هوامش مــن أقــوال نســمة

قال لي «نســمة» الذي لم تُــعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب أن تكونه لا أن تقوله. أن يعزّز في حبيبك الثقة بنفسه.
أن تحب هو أن تكون حبيبك وأن يكونك… فإذا أنتما معاً ديوان شعر.

Exit mobile version