عن بيروت التي جعلت «السفير» صحيفة القضية
جئت بيروت، أول مرة، طالب علم… لا أملك إلا إيماني بأرضي وبعض اللغة.
وها أنذا، وبعد نصف قرن بل يزيد قليلاً، ما زلت أتعلم يومياً، وما زلت أتعرف في هذه المدينة العربية التي تكاد تختزل العالم، من خلال روحها الوثابة ، الى ما يجعل الحياة تستحق معناها النبيل.
وها أنا ما زلت أحاول أن أضيف عبر «السفير» التي تجتمعون من حولها لتكرموا فيها بيروت، اليوم، سطراً الى سفرها العظيم الذي يؤكد ان الإنسان بهويته، وان الوطن بأمته، وان الأمة بنضالها، وان التغرب خيانة، وان الهجانة لا تحفظ ارضاً أو كرامة، وان غدنا لنا ان نحن صنعناه بوعينا وجهادنا ومعرفة ما يمنعنا عنه ويمنعه عنا، فقاومنا بأرضنا وبشرف انتمائنا اليها حتى يتم لنا النصر، فنصير جديرين بالحياة فيها.
لم تكن «السفير» أول جريدة تصدر في بيروت، ولن تكون الأخيرة. ولكنها أرادت، ويمكنني الادعاء بغير زهو، أنها نجحت في ان تكون صحيفة القضية، بشعاريها الأثيرين وقد التزمت بهما في الغالب الأعم من سنوات صدورها التي تقارب الست والثلاثين وأولهما: جريدة لبنان في الوطن العربي، جريدة الوطن العربي في لبنان… وثانيهما الذي صار هتافاً: صوت الذين لا صوت لهم.
بالتأكيد فإنني لم أكن في هذه الرحلة الممتعة والمضنية والمشرفة والمكلفة وحدي.
وانه لشرف عظيم لي أن أستذكر وأذكّر بجيلين وربما ثلاثة من الصحافيين والمبدعين رسماً وشعراً والباحثين والإداريين والمصورين والفنانين… ولسوف أستذكر هنا فقط من قدموا نتاجهم الإبداعي ثم رحلوا أو رُحّلوا وهم لما يكملوا المهمة، وتركوا لنا، نحن رفاقهم شرف إكمالها، ومنهم: ابراهيم عامر من مصر، وسعد الله ونوس من سوريا، وعبد الرحمن منيف من الجزيرة العربية، والعظيم ناجي العلي الذي أعطى فلسطين رمز ثورتها التي لا تموت لان حنظلة سيظل يتوالد جيلاً بعد جيل حتى يستقر في أرضه المحررة بهويتها لأهلها وقد حفظتهم فحفظوا بها ومعها تاريخ الأمة في مواجهة من يحاولون، من الخارج كما من الداخل، حذفها من الوجود الإنساني جميعاً.
كذلك فإنه لشرف عظيم لي ولزملائي الذين ساهموا معي في إصدار «السفير» وما زالوا يجتهدون في مساعدتها على الصمود المكلف والاستمرار الصعب، أن نكون قد نجحنا في نقش اسم «السفير» في ذاكرة بيروت، كما في كتاب المقاومة المجيدة، في مختلف مراحلها، والتي ظلت أهدافها واحدة وان تعددت الاعلام، ما دام العدو في أصله واحداً، وان تلاقت على دعمه وتعزيز قدراته الدول العظمى والكبرى والمتوسطة، على اختلاف مراحل الجهاد من اجل تحرير الأوطان وحماية هوية الأمة.
[[[
اجتاحت إسرائيل لبنان في حزيران 1982 بهدف معلن: إخراج فلسطين، المقاومة والقضية من..
وها هو لبنان المقاومة في قلب فلسطين، يجدد فيها بالأمل النبض، لا مجال لإخراجه منها، كما كان مستحيلاً إخراجها منه، ولو ذهبت قيادة حركتها المقاومة، بغواية النظام العربي وتخليه عن مبدأ الثورة ، الى السلطة في ظل الاحتلال.
ان لبنان الأصغر من فلسطين بعديد شعبه، والذي لم تحظ مقاومته الاحتلال بمثل الدعم العالمي الواسع الذي حظيت به فقصرت في حفظه المقاومة الفلسطينية، واستخدمته في طلب السلطة بدل ان توظفه في خدمة تحرير الأرض بالإرادة، ولو طال زمن الجهاد، قد أنجز فحرر أرضه بمقاومته، ثم رمى عدوه بالخوف الذي كان بين أسباب الهزيمة العربية الأولى في العام 1948، ثم بسوء التقدير الذي تسبب في هزيمة 1967، ثم بالتلهف على الرضا الاميركي الذي أضاع مقدمات النصر الممكن في حرب 1973 وحوّلها الى انهيار عربي شامل ما زال يثقل على صدورنا حتى اليوم.
ولسنا في هذا المقام، في مجال التباهي بمقاومتنا على إخوتنا وشركائنا في المصير، شعب فلسطين… ولكنها التجربة بنتائجها المحققة، مع وعينا الكامل بأن ثورة الشعب الفلسطيني العظيم لما تنته، ولن تنجح السلطة في حرفها عن هدفها المقدس… وهذه تجربة غزة، قد نجحت في الصمود برغم إخفاقاتها الكثيرة، والبعض الأعظم من هذه الإخفاقات هو من نتائج الحصار العربي قبل الحصار الإسرائيلي وبعده فضلاً عن بعض الارتباك القيادي، تشهد ان هذا الشعب الذي يناضل منذ تسعين عاماً او يزيد، والذي قدم من الشهداء أكثر مما قدم أي شعب آخر، في هذا القرن، لن يتنازل عن حقه في أرضه… بل انه الآن أقرب مما كان في أي يوم من النصر، بشرط أن يستعيد وحدته، لكي يفيد الإفادة الكاملة من مناخ التعاطف الدولي الذي بلغ حد بذل الدماء من اجل فك الحصار عن غزة هاشم.. علماً ان معظم الدماء التي سالت هي لمناضلين جاؤوا أساسا من تركيا وبعضهم مشاركون من دول غربية وشرقية كثيرة، لا يشكل العرب بينهم إلا أقلية من المجاهدين يتقدمهم من قدموا من ارض «فلسطين 1948»، كما بات اسمها، تمييزاً لها عن فلسطين السلطة المعترف بها دولياً في رام الله، وفلسطين السلطة المقالة كما تم التواطؤ على تسمية من يمسك بالزمام في غزة.
[[[
اسمحوا لي أن أستعيد معكم بعض الصفحات المجيدة من تاريخ بيروت مع الاجتياح الإسرائيلي، بدءاً من بدايات حزيران 1982، وحتى تحكم الاحتلال بتعيين رئيس جديد للجمهورية، لم تمكنه إرادة المقاومة من الوصول الى قصر بعبدا، ولم يكن بالإمكان تجنب اختيار شقيقه الذي ألحق بلبنان من الدمار أكثر مما ألحق به العدو الإسرائيلي. ويكفي أن نستذكر اتفاق العار في 17 أيار 1983 الذي قاتلتموه جميعاً، وكانت «السفير» راية من رايات الانتصار بإسقاطه.
كانت عناوين الصفحة الاولى تتجاوز الوقائع الحربية إلى دلالاتها السياسية، وهذه نماذج منها:
كان العنوان الرئيسي يوم الخامس من حزيران 1982:
حرب إسرائيلية ضد لبنان: 14 غارة على بيروت والجنوب.
36 شهيداً و233 جريحاً ضحايا القصف على المدينة الرياضية والمخيمات.
أما في اليوم التالي 6/6/1982 فكان العنوان الرئيسي:
القنابل الإسرائيلية تقتل وتدمر في 55 منطقة وقرية
غارات جوية وبحرية وقصف مدفعي يغطي الجنوب وإقليم الخروب والمدنيين في خلدة.
وفي 7/6/1982: الجنوب يقاتل… غزو إسرائيلي يطوق صور وصيدا والنبطية
والقوات المشتركة تقاتل مدرعات العدو ولبنان يطالب بقمة عربية.
في 13/6/82 خرجت «السفير» بالعنوان الإنذار:
أيها اللبنانيون… الوطن في الأسر. إسرائيل تحاصر رئيس الجمهورية في بعبدا.
في 20/6/82، كان عنوان «السفير»:
إرباك اميركي للحل وإغراق بيروت بالقلق
تل أبيب: اتفاق بين بيغن وهيغ على إخراج المقاومة بواسطة اللبنانيين.
في 26/6/82: بعد اعنف يوم من القصف البري والبحري والجوي على بيروت والضاحية: انقسم الحكم ـ استقال هيغ . توقفت النيران. الوزان و6 وزراء استقالوا وجنبلاط انسحب من هيئة الإنقاذ وبري جمّد عضويته.
في 28/6/82: طائرات العدو تقصف بيروت بقذائف نفسية وسركيس يحذر من كارثة محققة.
في 12 /7/82: بيروت الصامدة تتعرض لعملية إحراق بشعة:
8000 قذيفة على العاصمة وضواحيها تشعل 20 حريقاً وتذهب بعشرات الضحايا
في 7/8/82: إسرائيل تتحدى العالم.. وأميركا تمنع معاقبتها
في 13/8/82: 11 ساعة من القصف المجنون على بيروت
220 غارة و44 الف قنبلة تسقط 500 إصابة وتدمير 800 منزل معظمها في المخيمات
في 30/8/82: أبو جهاد وأبو صالح وغوشه وأبو العباس غادروا بحراً ولواء القادسية براً
عرفات يودع بيروت المقاتلة: اليوم سقطت الأوهام المريضة الى غير رجعة وأمانة الوفاء للبنان في عنقي.
في 31/8/82: الى اللقاء ياسر عرفات.
قيادات بيروت الإسلامية والوطنية رافقته الى المرفأ.
أبو عمار: قلبي سيظل في بيروت وكل الدروب تؤدي الى فلسطين.
الدفعة الأخيرة من المقاومة تغادر اليوم
[[[
ما زلنا في قلب المعركة. وما زالت بيروت تعلمنا. وما زالت الرصاصات الأولى التي أطلقها المجاهدون على جنود العدو، هنا في قلب بيروت المحاصرة تدوّي في آذاننا فتنبهنا الى ان المعركة مفتوحة بعد، وتبشرنا بأننا لم نعد وحدنا، ولم يعد شعب فلسطين وحده.
وما زالت بيروت تعلمني وأنا أستزيدها علماً لأعرف طريقي إلى غدي.
ولقد امتدت مسيرة المقاومة وتعاظمت متخذة من «جنوباً در، جنوباً سر وانتصر» شعاراً، ولان الجهاد يستولد القادة التاريخيين فلقد أعز الله مقاومتنا بمجاهد بطل قاد مسيرة التحرير حتى إجلاء العدو في مثل هذه الأيام من العام 2000، ثم أعّز هذا الشعب بنصر مؤزر في حرب تموز 2006.
… وليست مبالغة ان يوصف هذا النصر بأنه نقطة تحول تاريخي يمكن اعتماده بداية العد العكسي للاحتلال الإسرائيلي، بل لوجود دولة يهود العالم في أرضنا التي لم تضن يوماً في تاريخها الطويل على اليهود بحقوق المواطنين فيها، ولكنها لن تكون رهينتهم، ولن يسمح أهلها بأن تحتلهم إسرائيل بنفطها، الذي تنهبه الشركات الاميركية ثم تقاتلهم به في فلسطين وفي لبنان وفي العراق وفي السودان والصومال واليمن ومصر وفي الجزائر وفي كل ارض يرتفع فيها صوت المؤذن بـ«الله اكبر».
[[[
كانت بيروت والمقاومة والتحرير دائماً العناوين المضيئة في «السفير».. وستبقى.
ولسوف أبقى تلميذاً في بيروت تعلمني فأتقدم على الطريق الى الأهداف التي تؤكد فينا شرف الانتماء الى هذه الأمة المجيدة.
(مقتطفات من كلمة ألقيت في حفل أقامته
«رابطة أبناء بيروت» تكريماً لـ«السفير»)
حكاية/ النشوة بالأمر
بادرني وهو في الباب، وقبل أن يتخذ له مقعداً: إياك أن تجامل في الليل. احفظ الليل لنفسك، ولا بأس ان ضحيت ببعض النهارات..
لم أعلق، فأضاف مهتاجاً: تهبط النشوة بالمظلة تلبية لأمر «شيخ» حاصره الضجر فقرر أن يطرده بالضجيج. كنت في الخليج. ولقد دعاني صديق إلى العشاء فلبيت. دخلت فوجدت صالة الاستقبال قد تحولت إلى ما يشبه استديو تلفزيونياً: فرقة موسيقية تتوزع مكبرات الصوت أمام أبواقها الزاعقة، ومطربان يتناوبان على أداء أغان خارج ألحانها، وقد استبدلا كلماتها بما يناسب المقام والمزاج، ومجموعة من الفتيات يتناوبن على الرقص، أو يشتركن في التلوي معاً في الحلبة الضيقة، وقد انصرفن عن «الجمهور» إلى «طويل العمر» وحده، وان رصدت أذكاهن الحضور «لحجز» دعوات مسبقة إلى حفلات لاحقة.
رشف بعض قهوته بتسرع، وأضاف كمن يريد أن يفرغ من حديثه قبل ان يطرأ ما يمنعه من إكمال الرواية:
ـ كانت الراقصة ـ المفاجأة بدينة، ثقيلة الحركة، ان اقتربت منك خفت فانكمشت على نفسك، حريصا على رسم ابتسامة لياقة على شفتيك، ومتى ابتعدت تنفست الصعداء وتأملت وجوه المنافقين من حولك وكلهم لا ينظر إلا «اليه»، فإذا ما انتبهوا إلى انه لا يراهم عادوا اليها يغمزونها ان «اقتربي» منه، ثم التفتوا إلى المطرب يهمسون بعنوان أغنية يحبها، أو الى صاحب الكمان ليأتي فيقف عند رأسه ويعزف له وحده، أو إلى صاحب الرق ان يقود الراقصات جميعاً فيجــعلهن في دائرة، يتلـوين امام المضيف وكأنهن في حلقة ذكر. واحد من المطربين كان جميل الصوت، لكنه لا يتقن النفاق، فكان يغني لنفسه فلا يسمعه أحد غيري.
وقف لينصرف وكأنه قد فرغ من أداء مهمته.. قال مختتما خطبته الصاعقة:
ـ لا يمكنك ان تشتري الفرح. والمطرب بالأمر لا يطرب، والراقصة بالأمر تسقط في فخ عرض الجسد على الزبائن، والنشاز لا يأخذ إلى النشوة، والصحبة شرط السهر، فلا تسهر الا مع من شابهوك وشاركوك همومهم قبل أفراحهم. لا يعرف الفرح من نسي آدميته في البيت لأنها قد تمنع عنه رزقه الذي مدخله النفاق.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب مرهف. هو أرق من جناح فراشة، لكنه قاطع كسيف فارس مجرب.
كثير من المحبين استخدموا السيف في تمزيق أجنحة الفراشات بدل ان يعيشوا في نشوة خفق الأجنحة وهي تغمرهم بألوان الفرح.