طلال سلمان

هوامش

من تيمور الشرقية إلى الفلسطيني البلا هوية
افترض أنكم، على ثقافتكم الواسعة، لم تنتبهوا إلى وجود بلاد عظيمة يقطنها شعب متميّز بالعبقرية والأهمية الاستثنائية لسلام العالم وأمنه ولحقوق الإنسان، وأولها حق تقرير المصير، يدعى وتدعى »تيمور الشرقية«.
إلى ما قبل سنة أو اثنتين كان هذا الجزء من الجزيرة التي تحمل اسم »تيمور«، نسياً منسياً، لغفلة الأمم المتحدة، ونتيجة لعمى المجتمع الدولي وانشغال القيادة الفذة للألفية الثالثة في »تحرير« دول أخرى كالعراق وليبيا والسودان وسوريا ولبنان من »الإرهاب«، الداخلي، وتحرير العالم من إرهابها، خارجياً.
ثم فرضت الضرورة تحرير يوغوسلافيا من وحدتها السياسية أولاً، ثم تحرير الشعوب الخاضعة للإرهاب الصربي من الصرب، وبعد ذلك تحرير الصرب من طاغيتهم الإرهابي الداخلي، وربما غداً من صربيتهم!
أما بعد الإنجاز التاريخي بتحرير كوسوفو، ومعه أو إلى جانبه »اتفاق واي« المعزز »باتفاق شرم الشيخ« لتحرير إسرائيل والسلطة الفلسطينية معاً من الفلسطينيين ذوي »السجل الإرهابي« الحافل والطويل.
… فقد حان الحين لولادة أعظم دول الأرض، ولتمكين »الأكثرية« من شعب تيمور الشرقية من نيل استقلالها والخروج من نير الاستعمار الأندونيسي الذي يمتد ظله الثقيل على أكثر من ألفي جزيرة، كلها أكبر من »تيمور« بجهاتها الأصلية الأربع، لكن ليس »لشعوبها« مثل عبقرية أولئك الذين يقطنون شرق هذه الجزيرة، والذين بالمصادفة يدينون بغير دين الأكثرية الإسلامية الساحقة في ذلك الأرخبيل الآسيوي البعيد.
اليوم، نكاد نعرف أسماء جميع أفراد الشعب الشرق تيموري، أما وجوههم رجالاً ونساءً وأطفالاً فنحفظ ملامحها جميعاً لأن شبكات التلفزة ووكالات الأنباء العالمية لا تبث منذ شهرين أو يزيد إلا وجوه هؤلاء الذين كانوا أندونيسيين ثم انتفضوا فصاروا تيموريين إلا قليلاً (أخذاً بالاعتبار الجهات الأخرى من الجزيرة الخالدة المكتشفة حديثاً).
من قبل، اكتشفنا، مع العالم، الأكراد في العراق، فأقمنا من حولهم حزاماً من نار، تتولى حراسته الطائرات الحربية الأميركية والبريطانية، لتمنع من تسوّل له نفسه أن »يرتد« إلى عراقيته من ارتكاب مثل هذه المعصية!
… وأقمنا جحيماً ثابتاً فوق يوغوسلافيا يمطرها ناراً حارقة كادت تمحو صربيا عن وجه الأرض، تمكيناً لألبان كوسوفو، الذين لم يكن العالم يعرف عنهم شيئاً، من أن يكونوا »مواطنين أمميين« تحت الرعاية الدولية في كوسوفو التي اغتصبها الصرب ومارسوا فيها الاضطهاد الديني والعرقي معاً.
هذا يدل على أن »روما الألفية الثالثة« لا تعرف التمييز، لا على أساس عرقي ولا على أساس ديني، ولا تعترف إلا بالتمييز العنصري الوحيد المبرّر دينياً وتاريخياً وثقافياً وفكرياً وفنياً وإنسانياً وتكنولوجياً عالياً هو ما يتصل بشعب الله المختار.
ولأن واشنطن تقبل هذا التمييز وتقرّ وتسلّم بمشروعيته، وتحميه بقوة سلاحها إذا لزم الأمر، فعلى الآخرين أن يقبلوه، وإلا كانوا »عنصريين«، وبالتالي »إرهابيين«، وحق عليهم العقاب.
أللهم لا اعتراض.
ولكن من الضروري رواية الحكاية.
منذ خمسين عاماً، أو يزيد قليلاً، يعيش أكثر من ثلاثة ملايين بني آدم معلقين في الهواء، في انتظار البت أو الاعتراف بوجودهم كبشر… وهم تحديداً أولئك الفلسطينيون الذين أُخرجوا بالقوة من فلسطين.
ذلك أن البت بالوجود من شأنه أن يلغي هويتهم.
.. أما الإقرار بهويتهم فقد يلغي وجودهم!
فهم إذا كانوا ما زالوا »فلسطينيين« كما وُلدوا، وكما كان آباؤهم وأجدادهم من قبلهم، فليس لهم مكان في هذا العالم على اتساعه.
أما إن هم اعترفوا وأقروا أنهم مجرد »لاجئين«، مشردين، مستقرين مؤقتاً في ديار الشتات ويمكن أن يبقوا فيها أو يتم ترحيلهم إلى غيرها (ما الفرق؟) ليستقروا هناك، في أي هناك؛ كندا، أو استراليا، الولايات المتحدة، البرازيل، السويد، النروج، الدانمارك الخ. فيمكن من ثم أخذ إنسانيتهم بالاعتبار، وتكليف »الدول« لا سيما تلك الفقيرة بالسكان والغنية بالموارد والتي تحتاج إلى أيد عاملة (بغض النظر عن مهارتها) باستيعابهم تمهيداً لأن تمنحهم جنسيات جديدة فيصيروا »مواطنين« في أي مكان يختارهم ولا يختارونه.
المهم أن ينسوا فلسطين، التي لا يتذكّر العالم منها إلا من يسعون الى الغائها بسلطة الاتفاقات والشرطة، والمزيد من الشرطة المتعددة الجنسيات والاتفاقات المفسِّرة للاتفاقات السابقة.
والمهم أن يكفّوا عن الممانعة والمعاندة عدا عن المقاومة والإصرار على الهوية الفلسطينية.
إن هم طلبوا وطنهم الأصلي سقطت عنهم هويتهم المتصلة به والنابعة منه والدالة إليه وعليه.
وإن هم ارتضوا أن يعيشوا ضمن شروط إنسانية مقبولة في أي »دولة« يختارها لهم المجتمع الدولي، من بلاد الله الواسعة، صارت لهم هوية وجواز سفر وحقوق الإنسان الأخرى كافة، عدا ذلك الأمر البسيط: الأصل.. أي الوطن وهويته وأهله من الجدود إلى الأحفاد، ومن النهر إلى البحر، ومن القدس إلى القدس.
فلكي يكون »الفلسطيني« إنساناً معترفاً به، وبالتالي »مواطناً« في أرض ما، عليه أن ينسى أنه »فلسطيني«.
أما إن هو أصر على البقاء »فلسطينياً« فليس له لا وطن ولا حتى ملجأ.
من أجل بضعة آلاف من الألبان في كوسوفو، وعلى الأصح بذريعة هؤلاء »المنسيين« المرفوضين سابقاً والرافضين لاحقاً بلادهم الأصلية: ألبانيا، لا مانع من تدمير ما تبقى من يوغوسلافيا.. صربيا، نصرة للإسلام والمسلمين!
… ومن أجل بضعة آلاف من »مسيحيي« تيمور الشرقية، وعلى الأصح بذريعة حقهم في الاستقلال (؟!)، لا مانع من تهديد أندونيسيا كلها (دولة المئتي مليون) بخطر التقسيم، نصرة للمسيحية التي تطل علينا الآن ألفيتها الثالثة.
أما ملايين الفلسطينيين حيث تمحي الفروق بين المسلم والمسيحي لتصبح الهوية الوطنية والقومية هي الرابط والجامع وأساس الوحدة، فممنوع عليهم أن يكونوا هم، وعليهم أن يقبلوا تزوير هويتهم وسلخ جلودهم لتبديل لون بشرتهم ليكونوا »رعايا« هنا أو هناك.
ما لنا ولحديث الهموم هذا.
هل وصل تيمور؟! طمئنّا عن صحته.
لا توقظه إن كان نائماً.. فقط »سلّم لي عليه«!!

مضطهد دولي اسمه: المدخّن!
نصيحة للمدخنين: تجنّبوا السفر، لا سيما الرحلات الطويلة التي تجبركم على ركوب طائرات ذات نظم صارمة وتغط في مطارات ذات نظم أكثر صرامة!
أقولها بعد خبرة مؤلمة وبعد تجارب مضنية جعلتني أحسد الكلاب وأصحاب العاهات والمرضى و»المقطوعين« لأنهم أضاعوا تذاكرهم أو جوازات سفرهم أو… أُخذت منهم بلادهم، فجأة!
* * *
مبنى المطار، أي مطار حديث، عظيم الاتساع، متعدد الأضلاع، تتوزع صالاته في مختلف أنحائه وقد زُيِّنت جميعاً ورُصِّعت بشعار العصر: ممنوع التدخين…
والشعار إلى يمينك، إلى يسارك، فوقك، ومن أمامك، فإلى أين المفر.
في المدخل ممنوع. في الممرات ممنوع. في الصالات ممنوع. في استراحات الدرجة الأولى ممنوع. في الحمامات ممنوع، وفي الطائرات طبعاً ممنوع… أين يذهب البؤساء والمساكين وأبناء السبيل من المدخنين؟!
في ركن منعزل ومعزول، يشار إليه بالأسهم، وكأنه »كرنتينا« لعزل المصابين بالطاعون، يتلاقى أصحاب الكيف (سابقاً… الحيف حالياً).
كأنهم قرود أو مخلوقات نادرة في قفص من زجاج!
لا يتسع الركن إلا لبضعة رجال وأقل من النساء…
يدخل واحدهم كالمحموم، أو كالحاقن… متعجلاً، بل متلهفاً، كمن أوشك أخيراً على أن يبلغ اربه بلقاء عشيقته المشتهاة. يتخلص من حقائبه بسرعة فائقة، يرميها أرضاً أو يسقطها كما كرة السلة في زاوية خالية من الزبائن، ويضع الأخيرة بين قدميه، بينما تُخرج يمناه العلبة من جيب وتنهمك يسراه في البحث عن الولاعة في جيب آخر.
يشعل اللفافة، يمجّ النفَس الأول بشيء من التلذذ، ثم يلتفت إلى من حوله فيجدهم يتعجلون أمرهم فيتعجل أمره، خصوصاً أن الأصوات في الإذاعة الداخلية لا تتوقف عن تذكير الناسين أو الغافلين أو المنساقين إلى لذاتهم الخاصة بمواعيد طائراتهم.
تتوهج جمرات السكاير كنجوم في عز الظهر، ثم سرعان ما يطمسها الرماد المتوالد من رحمها.
وكما يدخل »الكيّيف« ينصرف وكأنه كان مكلَّفاً بمهمة عسكرية نفذها في وقتها بالدقة، ولا بد له من الانصراف.
يطفئ اللفافة وهي في شرخ شبابها، أو يرميها في المنفضة من دون أن يطفئها، ليظل دخانها شامخاً متصاعداً نحو السماء.
ينصرف وهو مثقل بالشعور بالظلم!
كل الناس يتحركون بحرية. يجلسون حيث يشاؤون. يطلبون من المقهى أو يحملون معهم ما لذّ وطاب من المأكل والشراب، فلا يعترضهم أحد.
الأغنياء، الفقراء، الأزواج، العازبون، العشاق المتعانقون المتخاصرون، المتحاضنون، اللاهثون المتأوهون، المصابون بالشذوذ الجنسي، متعاطو المخدرات، السكارى، كلهم يتصرف بحرية وكأنه في بيته، ويمكنهم ممارسة هواياتهم على اختلاف أطوارها أو غرابتها في كل مكان… إلا المدخّن!
مع ذلك، ما زال عبد الوهاب يغني: الدنيا سيكارة وكاس!
ومع ذلك لم نسمع عن إفلاس أي من شركات السكاير العظيمة، وكلها أميركية!
أليس ظلماً أن يسمح الكونغرس الأميركي للرئيس العظيم بيل كلينتون أن يستخدم السيكار لغير ما أُعد له، ثم يمنع السيكارة عن المدخن »الطبيعي«، أو يمنعه عنها؟!
ولو.. أين الوطنية الأميركية؟!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
مع الحب تعرف معنى الحياة، والأهم: قيمة الحياة. أعرف صديقاً أصابه المرض الخبيث فانتصر عليه ببساطة. قال لي: لقد قاومته بحبي. أليس الحب هو الحياة. أللهم امنحنا من الحب ما نقضي به على الأمراض جميعاً. دعِ الطب للمرضى، أما المحبون فلا يقربهم المرض. إنهم أقوياء وهو علامة ضعف. أللهم اجعلني قوياً كقيس.. أجنّ حباً فأمنح الناس أحلى قصائدهم، وبحبهم أبقى فلا أموت.

Exit mobile version