طلال سلمان

هوامش

أوراق من سيرة ذاتية: الدخول في بيروت
بداية، أقر وأعترف بأنني واحد من متخرجي بيروت عاصمة العروبة، دعوة وفكراً واجتهاداً، ومنبرها ومركز إشعاعها، أميرة الحزن العربي، المتلألئة بأنوار الثقافة والعلم، وطليعة الصحافة والإعلام العربي، والتي تجتهد لتعويض الغياب المفجع للقاهرة وبغداد وعواصم أخرى كثيرة.
من أمام صرح المقاصد عند الحرج وحتى ساحة الشهداء، كنا نمشي إلى فلسطين، وكنا نمشي ضد الاحتلال، فرنسياً أو بريطانياً أو مشتركاً، كما في العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956، الذي انتهى بنصر للعروبة جميعاً ممثلة بمصر عبد الناصر وشعبها العظيم.
لقد تلقيت من العلم قليلاً في بعض مدارس بيروت، لكنني قبست شيئاً من روح بيروت، هو مصدر ثروتي واعتزازي.
كنا نمشي إلى الوحدة التي رأيناها، وما زلنا نراها، الطريق إلى فلسطين، تحت قيادة جمال عبد الناصر، ثم الثورة الفلسطينية حتى غادرتنا ولم نغادرها قضية مقدسة لأرض مقدسة تخنزن روح الأمة.
كنا نخترق الشوارع حاملة أسماء الشهداء حتى نتلاقى مع الوافدين من جهات أخرى أنبتت شهداء زماننا، ولا سيما في جنوب النصر في الساحة التي كانت حناياها تتسع لكل لبنان، والتي يدوي فيها الآن الفراغ، بينما يتناهب أسواقها أصحاب المال وقد طردوا أهلها والمنتمين اليها بقرار واع، مثلي، إلى البعيد، لتخلص لتجارتهم وليستقبلوا فيها السياح وطلاب المتعة والمترفين بمال لم يتعبوا في تحصيله.
ولقد حوّمت من حول بيروت طويلاً قبل أن يتسنى لي دخول نعيمها في رحلة نصفها مشياً على الأقدام، من جديدة المتن إلى الدورة، ونصفها الآخر متنقلاً بين تراموي وآخر، طلباً لتبديل الجو… و«البرستبور» الذي كان يجبي 5 قروش كاملة عن الرحلة.
^ من بيت إلى بيت
بعدها فرضت نفسي ضيفاً غير ثقيل على صهري زوج عمتي في شارع مارون مسك في الشياح، حيث كنت أستعرض أحصنة السباق في اسطبلاتها الموقتة وسط حدائق البرتقال والأكي دنيا، قبل أن تخلي مكانها لتجار الأراضي ومتعهدي البنايات التي تنجز في شهور ويدخلها مستأجرون كمغامرين بحياة أطفالهم، والله ولي أمر المؤمنين و«ابن تسعة لا يموت ابن سبعة» و«اللي انكتب على الجبين لازم تشوفه العين».
وعندما انتبهت الى أنني قد غدوت ضيفاً ثقيلاً ادعيت أنني قد عثرت على غرفة لا يحتاج اليها أحد في جريدة «الشرق» التي عملت فيها لفترة تدريب، مجاناً… ومن أين لعمتي أن تعرف أن الجريدة كلها غرفة، وأنني سأذهب إلى برج حمود لأسكن في غرفة مفروشة عند عائلة شمالية تريد التخفف من شعورها بالأقلية وسط الإخوان الأرمن.
لكن الضيافة لم تطل، لأنني تعرفت ـ مصادفة ـ الى صاحب مجلة «الحوادث» الزميل الراحل سليم اللوزي موقوفاً في سجن مستشفى الكرنتينا الذي كان «حاكمه العسكري» والدي الرقيب في الدرك… وكان سلام، وكان كلام، وكان تعاطف، وكان ان انتقلت إلى مجلة «الحوادث» في مكتبها، خلف قصر هنري فرعون، وغير بعيد عن قصر القنطاري الذي كان المقر الرئاسي لكميل شمعون… وقد أخرجته منه ثورة 1958 المعززة بالوحدة ممثلة في الجمهورية العربية المتحدة، التي قتلها الخطأ وهي تحبو، بعد.
قال لي نيازي جلول، رسام الكاريكاتير الممتاز الذي يتحدث العربية كالأرمنية، إنه عثر على بيت رخيص بين النبعة وبرج حمود، وإنه بوسعنا أن نشترك في السكن متقاسمين الإيجار. كنا كل يوم نضيع عنه، فنعود إلى خط السكة الحديد ونستعين بأعمدة الكهرباء التي اتخذنا منها علامات فارقة، فإذا ما بلغنا دكانة الحاجة زنوب كان بيتنا الأول إلى اليمين.
بعد شهر واحد من محاولة إنشاء صداقة ثابتة مع هذا البيت، تدخل شمسطاري أصيل كانت لعمه بناية فخمة قريبة لها مداخل شتى، بعضها عبر الحبال، وبعضها من باب إلى باب، فأجرنا شقة سرعان ما اكتشفنا أن شركاءنا فيها كثرة، فهربنا لا نلوي على شيء وقد سامحناهم بالفرش (بضم الفاء)!
بعدها عدت إلى مارون مسك مستأجراً هذه المرة، أدخل غرفتي، التي صارت مضافة لأهل قضاء بعلبك، مرفوع الرأس.
سيكون علي أن أنتظر انتصار ثورة 1958 في لبنان، وعودة سليم اللوزي من ملجئه القريب في دمشق، لأتلقى الترقية إلى سكرتير تحرير وزيادة المرتب مئة ليرة دفعة واحدة… وهكذا أغوانا الشيطان، وجيه رضوان وأنا، أن نستأجر شقة في بعض البنايات الجديدة في الحمراء، نتقاسم إيجارها الذي يعادل نصف راتبينا معاً، ونتدبر أمر الفرش.
ولشهرين كاملين كان الفرش عبارة عن فراش في الصالون، وسرير استعرته من المرحوم الزميل أسعد المقدم، وبعض الكتب والمجلات المرصوفة على ما يفترض أن يكون البار أو المطبخ الحديث.
^^ ضيف شرف على «فنادق» العسس
بعدها سأنتقل من مجلة «الحوادث» إلى مجلة «الأحد» لصاحبها الراحل رياض طه، وسأوفق بشقة في حي السريان، وطى المصيطبة، وتجيء أختي إليها لترتيبها غير مدركة أي مفاجأة ممتعة تنتظرها. فذات ليلة صيف، من أواسط آب 1961، حظينا بزيارة ودية عند الثالثة فجراً قوامها ثلاثة عمالقة من موظفي الأمن العام، رئيسهم مصارع متقاعد، بذريعة أنني احتفظ عندي بأوراق تخص ممثل منظمة التحرير الوطني الجزائرية، أحمد الصغير جابر، الذي كان واحداً من أذكى من عرفت، والذي كان جيشاً إعلامياً في فرد… وكان ذنبي أنني صديقه.
سيكون لي بعد الزيارة شرف النـزول في غرفة مستقلة في المديرية العامة للأمن العام، وكانت آنذاك في التباريز، أثاثها عبارة عن كرسي واحد، طلب إلي أن أنام فوقه، وقد رُبط قيدي به. ومع الصباح جاء من ينصحني بأن أقول الحقيقة له بالذات «لأنه مسلم، وليس كغيره من الكفار»، مع وعد بالتبرئة!
سكنت في تلك الغرفة تسع ليال، أحياناً مع رفيق سجن وأحياناً مع ثلاثة. حتى صدر الأمر بنقلنا إلى شقة لا نظير لها في فخامتها وأناقتها واتساعها ونظافتها، هي نظارة المحكمة العسكرية في شارع فؤاد الأول.
وكان الطلب على الشقة شديداً، حتى أن مسؤوليها كانوا يستضيفون في بعض الليالي حوالى أربعين مواطناً، بتهم مختلفة: حمل سلاح غير مرخص، ملاسنة مع رجل أمن، تخابر مع العدو، المشاركة في تظاهرة من أجل فلسطين بغير ترخيص، الانتماء إلى تنظيم فلسطيني يقول بالثورة، اطلاق النار ليلاً على ثعلب كان يلتهم عنب الكرم… الخ. وكان أيضاً بيننا قائد نقابي هو المرحوم فؤاد نصر الدين. ولأن فؤاد متخرج من سجون ومعتقلات بوصفه «تقدميا مشاغبا»، فقد وجد نفسه مضطراً الى القيام بدور رئيس المحكمة، لتدريب الموقوفين على الأجوبة التي لا تورطهم إذا ما اعتمدوا على سذاجة البراءة.
كان للشقة الفخمة حمام أنيق في الزاوية، وليس من ستارة تحمي من عيون الفضوليين المتطفلين على الأسرار الشخصية التي لا بد من أن تنكشف لسبعين عيناً أو يزيد، وواحدنا يحاول أن يتستر في قضاء حاجته.
^^^ مع الذبابة في زنزانة
بعد ذلك، أتيح لي أن أسكن في جو هادئ لا يعكر صفوه إلا ذبابة تائهة.
فقد نُقلنا إلى سجن الرمل، ولما كان لي موقعي الخطير في العصابة الجزائرية التي ستقلب الدنيا العربية رأساً على عقب، فقد أُقطعت زنزانة لا يدخلها الضوء من نافذة وهمية إلا ساعة أو ساعتين، ولا أغادرها إلى النـزهة إلا لنصف ساعة مرتين يومياً، قبل الظهر مرة، وبعده مرة ثانية.
ثم جاء الإفراج الأول، وتمثل بإخراجي من الزنزانة الانفرادية كي أقيم وسط الشعب في القاووش الذي كان شاويشه من الأخوة الأرمن يسانده بعض قومه. وفي الليلة الأولى، شهدنا واحدة من معارك الترف: سجين جائع تسلل ليسرق بعض الخبز من كيس سجين آخر، فانتبه إليه، وكان لا بد من أن يُرفع الأمر إلى الشاويش الذي عقد محكمة أمرت بجلد الجائع السارق عشر جلدات. لكن المروءة هزت بعض السجناء فتدخلوا لتخفيف الحكم، فانقلب التدخل الى حرب عرقية بين العرب والأرمن جاءت برجال الدرك مهرولين لفض الاشتباك قبل أن يتحول الى حرب أهلية في الخارج.
ومع الأسف، فقد طُردت من جنة سجن الرمل بعد عشرين يوماً بصك يعلن براءتي من التهم الفظيعة التي كنت مستعداً لقبولها لو أنني مؤهل لها: إعداد انقلابات في البلاد العربية، تهريب أسلحة عبر الحدود، تزوير هويات، تزوير عملة.
وحين سألت القاضي، وهو برتبة «زعيم» التي تعادل «العميد» الآن، نهرني قائلا: اشكر ربك يا ابني، وانصرف… قبل ان تغير المحكمة رأيها!
^^^^ من بيروت إلى الكويت… وبالعكس
وعندما استعدت حريتي اكتشفت أنني فقدت عملي.
وهكذا ارتضيت ان أرتحل الى جنة الكويت حيث كانت السيادة للطوز خلال نصف سنة، وللحر القاتل خلال النصف الثاني، ولم تكن الثروة النفطية قد حولتها الى جنة مبردة بعد. وكان علي ان اعمل والفريق الذي صحبته ليلاً ونهاراً كي نصدر أول مجلة سياسية، بغلاف ملون، في الكويت في عيد الجلوس الواقع فيه 25 شباط 1963، وكانت بعنوان «دنيا العروبة» لصاحبها مؤسس الصحافة في الكويت الراحل عبد العزيز المساعيد. وغني عن البيان ان مجلة بهذا الاسم يستحيل صدورها الآن، حتى كنشرة سرية.
عدنا والعود أحمد، بدليل أنني اضطررت الى استخراج جواز سفر بدلاً من ضائع، واستدانة ثمن تذكرة السفر. لكن فرحي كان عظيماً: لقد تحررت من كلمة «لو»… لو انني سافرت الى الخليج لكنت؛ لو أنني قبلت المغامرة لكنت قد ملأت أكياسي بالدنانير؛ لو، لو، لو.
عدت الى الشياح، وكنت قد استأجرت شقة في عمارة محترمة في شارع اسعد الأسعد. وعين الرمانة في مواجهتنا تماماً، وبين عناوين جيراننا الأديب العالمي الذي كان «مجرد صحافي» مثلي، انما بالفرنسية، أمين معلوف.
ولقد بقيت فيه حتى انفجار الحرب الأهلية وتحول الشارع الى جبهة.
وكنت قد أصدرت «السفير» من شقة سكنية ارتضى صاحبها المغفور له الحاج عيسى مكي، أن يؤجرها لنا، وهي تقع ضمن بناية مكي في شارع منيمنة، نزلة السارولا، غير بعيد عن مقرها اليوم، فكان لزاماً علي ان أجد بيتاً قريباً منها، وهكذا سكنت مرة تحت البريستول، ومرة في مواجهة البريستول. أما الآن فأسكن عمارة أعلى من البريستول هي عمارة «ما شاء الل»ه في قريطم … ومن اسماها «ما شاء الله»، كان يعرف بالتأكيد انني سأسكن فيها!
^^^^^ المشي فوق المتفجرات
هكذا تجدون انني عرفت بيروت من شرقها، ومن شمالها، ومن جنوبها، ومن قلبها، هي التي سكنت قلبي، قبل ان أستقر مع عائلتي، عائلتي الصغيرة وعائلة «السفير». أما جنة الغرب فلم اعرفها لأن علاقتي بالبحر نظرية، وكثيراً ما أنقذني بعض من اغواني بمصارعة الامواج من الغرق تبرعاً!
… وها أنا ما زلت امشي في شوارع بيروت التي أعطيتها قلبي وبعض دمي وكل أيامي، وأعطتني ما يفوق أحلامي عبر ناسها الذين احتضنوا «السفير» منذ صدورها في السادس والعشرين من آذار 1974، وعلى امتداد السنين الست والثلاثين الماضية بكل ما حفلت به من أحداث مصيرية، وحموها حين عطلها قرار جائر فتدفقوا الى مكاتبها ثم الى قصر العدل يدافعون عنها بوطنيتهم وباحترامهم تاريخها معهم، مقدّرين لها صمودها كعنوان لصمودهم في مختلف مراحل المقاومة، بدءاً من نهايات الستينيات، مروراً بالاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وصولاً الى الاجتياح الإسرائيلي صيف العام 1982 والمقاومة التي صدته تحت العنوان ـ الراية: «بيروت تحترق ولا ترفعه الأعلام البيضاء».
وبين الصفحات التي لا تطوى في تاريخ بيروت و«السفير»:
تفجير المطابع في الاول من تشرين الثاني 1980، محاولة نسف المنزل بسيارة مفخخة، ثم محاولة تدميره على رؤوس سكان البناية جميعاً بغير ذنب إلا جيرتنا في اوائل 1981، لتليها محاولة اغتيالي فجر يوم الرابع عشر من تموز 1984، امام باب منزلي بعد يوم طويل من التعب.
ولقد تعرض كثيرون مثلي، ومؤسسات عدة مثل «السفير»، للاعتداءات ومحاولات التغييب من دون ألم… لكن بيروت سرعان ما عوضت عليهم بروحها الوثابة وبقدرتها الهائلة على التجدد وبث الحياة في أهلها والعابرين فيها، من جديد.
لكن عمر الشقي بقي، كما يقول إخواننا المصريون. وهكذا قُيض لي أن أعيش وأن أتابع جهدي في «السفير» مع زملاء كبار، بعضهم من قضى نحبه وبعضهم من بقي وما بدل تبديلا، وبعضهم الثالث جاء الينا ليكون في المقاومة المجاهدة من اجل التحرير والعزة والكرامة ومعها، فالصحافة رسالة أيضا، وليست وريقات تتزاحم في أعمدتها التصريجات التي جلّها ثرثرات جنباً الى جنب تهديدات العدو الإسرائيلي الناطق بالاميركية.
أيها الأصدقاء…
عاجز عن الشكر ومؤكد انني أتعبتكم بالكلام وتعبت منه… ولم يبق لي غير ان أقول: عشاء شهياً، طبقه الأول النميمة على من خطب… كما على الذي سمع الخطباء، مستكيناً يحضر للانتقام في الشفهي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(كلمة أُلقيت في قاعة دردشة في مركز توفيق طبارة في تكريم أقامه أحمد طبارة مع ندوة العمل الوطني)
مــن أقــوال نســمة
قال لــي «نسـمة» الــذي لم تُعــرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا يــــعترف الحــب بالعــمر. يمكــنك ان تحــب منــذ بـدايــة وعيـــك بتفاصيــل الحيــاة وحــتى آخــر نفــس.
أشفق كثيرا على من عاشوا خارج المعنى، وظل الفراغ يدوي في تجاويف قلوبهم.
أبأس ممن لم يسمع كلمة «احبك»، هو ذاك الذي لم يقلها لمن أحب.

Exit mobile version