طلال سلمان

هوامش

رفيق خوري الذي اغتال الشاعر فيه بعمود من الفضة
أظن أننا، رفيق خوري وأنا، نشكل حالة فريدة في بابها: فلقد عشنا صداقتنا، كرفيقي سلاح في مهنة الصحافة التي نتشرف بالانتماء اليها، لخمسين سنة طويلة حفلت بعشر حروب وأكثر، ومع ذلك بقينا على عشقنا للكلمة ولخدمة ما رأيناه ينفع الناس في حاضرهم ويحمي مستقبلهم في وطنهم ومعه، ولا يخرجهم منه او يخرجه منهم.
كنت قد سبقت الى الصحافة بينما كان رفيق خوري يناضل بشعره من اجل حق الإنسان في الخبز مع الكرامة، ومن أجل التقدم والعزة…. وحين جاء الى الصحافة كلاجئ سياسي استقبلته بفرح من يحتاج الى إنعاش بالطيران الى العالم السحري للكلمات التي تغزل الحب وتطلقه عالماً من الفرح بالحياة والأرض والناس.
وكل ذلك تختزله امرأة واحدة جعلها رفيق خوري ديوانه، بينما اكتفيت بأن أكون الشاهد والراوية… واستكثر علي هذا الذي خان شعره أو باعه بأعمدة من الفضة، أن أكتب هوامش تومئ أكثر مما تقول، بلسان «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة الا الحب.
عشنا معاً الطموح والخيبات، عشنا أحلام العروبة، التي كنا نرى الأمة فيها، دولة عظمى بالوحدة، وتجرعنا غصات الهزائم التي التهمت تاريخنا وألقتنا على قارعة الدنيا، نستجدي سلماً مستحيلاً من عدو يرى نفسه خالق الإله لا مخلوقه، ويسخر الله لخدمته فإن تقاعس عن تحقيق أغراضه الشريرة خلعه عن عرشه واستغنى عنه وصرفه من الخدمة.
هل نقول إنه كان الزمن الجميل؟
كان لنا ما نؤمن به، وما نحن على استعداد للنضال من اجله حتى دخول السجن… ولقد دخلناه، وان تعددت مواقعه.
وكنا نضمّن الكلمات ما تكاد تعجز عن حمله من طموحاتنا وأحلامنا.
كان العرب في نهوض. وكنا نفترض ان تحرير فلسطين في مدى سيوفنا. وكنا نرى لبنان حادي مسيرة التحرر والتحرير، بثقافته وحريته التي تجعل الخلاف مصدراً للحيوية، وشارعه المتنبه دائماً لما يدبر للأمة من مؤامرات تستولد الأزمات وتفرّق بين الإخوة، وتأخذ الى الضياع عن الهدف.
كانت بيروت المنتدى الفكري والشارع الوطني والمشفى والمقهى والمطبعة والجريدة والكتاب.
كانت عاصمة الحرية وحق الاختلاف.
وكانت الإطلالة الأولى لرفيق خوري عبر «خبز المطابع» وهي الزاوية التي اختارها لعرض النتاج الأدبي والفكري الجديد في مجلة «الأحد» حيث كان لقاؤنا الأول في مكتب صاحبها الراحل الكبير رياض طه.
فقراء كنا… لكننا نحب الحياة، وتنعشنا الأفراح الصغيرة، كأن نكتشف ان محمد عبد المطلب يغني في مسرح فاروق، فنذهب اليه مع انتصاف الليل لنغسل بصوته ذي البحة العابقة بالشجن تعب نهاراتنا، ثم نطوي ضلوعنا على الحلم بحب سيقتحم علينا دنيانا، من حيث لا نتوقع.
ولقد تحقق حلم رفيق بسرعة قياسية، فاختطفه حبيبه وطار به الى زحلة حيث ديوان الشعر يتقطر عرقاً مثلثاً، وبدأت السكرة الممتدة حباً مصفى وأحفاداً يتزايدون لتأكيد امتداد العشق أجيالاً وأجيالاً.
… وافترقنا زمناً، ثم عدنا فتلاقينا وتبادلنا المواقع: صار رفيق رئيساً للتحرير واخترت ان أجول في الوطن العربي هارباً من المحليات التي غالباً ما تكون خارج المعنى، ثم لا تلبث ان تتفجر حروباً أهلية تفضح طبيعة النظام المتوحش لهذا الوطن الصغير الذي جعله حكامه بلا داخل.
ولقد استقر رفيق خوري في دار الصياد التي أعطيتها عشر سنوات من عمري، يكتب المعنى لمن لا يحسنون القراءة السياسية، غالباً، ويجتهد في التنبيه والتحذير ودق نواقيس الخطر، وأهل النظام لا يسمعون ولا يتعلمون من التجارب التي كادت تذهب بالوطن الصغير، غير مرة، فلا يتعظون ولا ينتبهون ويكررون الأخطاء والخطايا مفترضين في ذواتهم عبقرية لم يبلغها غيرهم، وقدرة على اللعب على الحبال جميعاً، حتى لو ثبت أن هذه الحبال تخنق الوطن وأهله.
أما أنا فقد مضيت مع مغامرتي في «السفير» أحاول ان أضيف جديداً، بقدر ما أعرف، الى سجل التاريخ العريق لمهنة الصحافة في لبنان، محاولاً غواية رفيق خوري بأن ينضم الينا لنقول ما هو مختلف، ولكنه كان دائماً يستعير من شعر غيره ليقنعني بأننا على البعد «سيفان في سيف واحد» و«صوتان في صوت واحد» وهذا أنفع للناس وقضيتهم.
شهادتي في رفيق خوري لم تكن موضوعية يوماً ولن تكون.
انه رفيق عمري… ولقد اختلفنا في السياسة كثيراً، لكننا بقينا صديقين، واتفقنا كثيراً وبقينا صديقين، وهذا أصعب.. وظل كلانا يؤمن بأنه يحاول جهده خدمة قضية وطنه، بمنطقه وبأسلوبه وبمعارفه ومعلوماته المتعددة المصدر، منبهاً من خطورة التباهي بأن لبنان هو ساحة، والساحة لينا وهي مزينة.. للغير!
وإنه لمن أسباب اعتزازي أن أشهد أن رفيق خوري هو أفضل كاتب تعليق صحافي، في لبنان، وانه من أبرع من أوجز فأوعى، ومن أبلغ من استل المعنى من قراءاته ومتابعاته التي تتجاوز الصحف والمجلات والدوريات ذات الصدقية الى الكتب الغنية بالأسرار والمعلومات وفيها ما لا نعرفه عن حاضرنا وعما يدبر لغدنا.
ومع أن هذا التميز في كتابة التعليق اليومي أمر مهم، إلا أن هذا الماثل أمامكم مجرم وقاتل: لقد اغتال الشاعر فيه، وهو الابقى والابهى والأنقى.
إن رفيق خوري الشاعر أخطر من رفيق خوري الكاتب أو المعلق، فهو عاشق ينطقه الحب ويعيد خلقه فتى غراً مقبلاً على الحياة، برغم كل محاولاته لاغتيال موهبته التي تشيخ وتغليب نبرة التأسي والندب على مغامراته ، ربما للتمويه، ولكنها تظهره وكأنه عجوز لم يعد يملك غير التحسر على ما فات.
الشعر هو رحيق الحياة . أليس الشعر هو الحب؟ أليس مجرماً من يغتال الشاعر فيه مدعياً أنه قد اكتفى من الحب؟
ليدم الله عليكم وعلينا نعمة الحب، فبغيره لن يكون واحدنا إنساناً.
ولقد يعتبر البعض قولي هذا حسداً. وأعترف بأنني أغبط الشعراء وأنني واحد من الغاوين، وأنني أجتهد في تقليدهم فأغدو كالغراب الذي حاول تقليد الحجل، وأنتم تعرفون ما أصابه.
الاحتفاء بشاعر هو بعض الإيمان بسر الخلق ومصدره.
ألا يأخذنا الشعر الى الهتاف المدوي: الله، الله، أعد..
ألا ينشينا الشعر فيجعلنا سكارى بغير خمر؟
ألا يدخلنا الشعر ذلك النعيم الذي اسمه الحب؟
إذاً، فرفيق خوري كافر، وخائن لموهبته التي يقدمها عموده الغني بالمعلومات، منقوصة، وان ظلت كلماتها ترقــص، مرهــفة، على حافة الشعر.
وهذه الحفاوة بالشاعر المتقاعد رفيق خوري تؤكد ما كنا نقدره من تميز لبلدية ذوق مكايل. لقد أسعدها قدرها بمن وثق به الناس فجعلوه رئيساً، نهاد نوفل، فنظم فيها ومنها وبأهلها ديوان شعره، واستنقذ فيها الأدباء والكتاب والمبدعين من أبنائها، وها نحن نتفيأ بظل عظيم منهم هو الياس ابو شبكة… الذي أتخيله يهتف برفيق خوري معاتباً: رفيق، رفيق، لماذا تركتني؟!
نجوم جديدة في أفق الكتابة … عبر «السفير»
عشت لحظات من الســعادة وأنا أتابع وقائع الاحتفال بانبثاق نجوم جديــدة في أفـق كتابة الرواية.
على المنصة، أمام الجمهور القليل عديده، والآتي محمولاً على عواطفه وزهوه بصلة القربى مع المبدعين الجدد، ثلاثة ممن نالوا الاعتراف بموهبتهم في كتابة القصة أو الرواية، لا سيما إذا ما تابعوا السعي لتمكين صلتهم بهذا الفن الممتع والصعب.
الثلاثة وجدوا في «السفير» مساحة لأقلامهم، وبالتالي لتعريف الجمهور بأنه قد يكون على موعد معهم ككتّاب، وهم بترتيب الجلوس: رشا الأطرش، هلال شومان ورنا النجار.
فأما «المديرة» و«المدبرة» و«المدربة» نجوى بركات فقد كانت تدور بعينيها في القاعة من حولها مزهوة بثمرة تدريبها، فهي من أشرف على تعليم الشبان الثلاثة كيف تُكتب الرواية… هي التي أجبرتهم على التشطيب وتمزيق المسودات وإعادة الكتابة، ثم إعادة الإعادة، ثم الكتابة من جديد، بعد نسيان ما تم تمزيقه لابتعاده عن المستوى المطلوب.
من حق نجوى بركات أن تتباهى بحصيلة التجربة.
ومن حق «السفير» أن تفخر بأن الثلاثة قد عرفوا طريقهم إلى الناس عبر كتاباتهم فيها، التي تعرضت أيضا للملاحظة والمطالبة بالإعادة سعيا للإجادة والاستقرار في قلب المعنى.
الآن أضع الرواية الأولى لرشا الأطرش «صابون» على مكتبي، مرجئاً قراءتها حتى ينتبه جميع من ألتقيهم إلى ان «السفير» تزهو بأنها تخرّج روائيين، إضافة إلى الصحافيين.
ولقد تعودت «السفير» ان تزرع وتسقي الزرع، ثم يحصده غيرها، وليس في هذا ما يسوؤها أو يسيء إليها.
ولسنا في وضع هارون الرشيد مع الغيوم التي أنى أمطرت فسيعود خراجها اليه.
لكننا نهتم بأن تنمو البذرة فتصير سنبلة بقمح كثير، وليشبع بخبزها من يرى في «الخبز» نعمة… وتعود «السفير» لتنبت مزيداً من السنابل، فالأرض ولادة، والناس جياع إلى الثقافة. ومبروك للفائزين الذين سيطعموننا من قمحهم خبزاً كثيراً.
مــن أقــوال نســمة
قال لــي «نســمة» الــذي لــم تعــرف لــه مهنة إلا الحب:
ـ قاصر وغبي من يقول متذمراً: لا أملك وقتاً للحب.. ان العمل يأخذني بعيداً عنه. سيمكنني أن أحب في وقت آخر!
انه يتحدث عن الحب وكأنه مهنة بدوام صارم.
انه يهين الحب اذ يعتبره إشغالاً لأوقات الفراغ.
أما أنا فكل وقتي للحب… وما تبقى لكل ما عداه.

Exit mobile version