سمية وعبد الكريم وخالد ونهر النشوة عيداً
لا يأتي الفرح مع «العيد» المفروض بالأمر، بل يولد «العيد» من قلب الفرح بالانجاز.
وربما لأن «العيد» المستحدث عطلة رسمية، شملت الصحف دون غيرها من وسائل الإعلام، قد غيب «السفير» عن الناس في الذكرى السادسة والثلاثين لانطلاقتها في 26 آذار 1974، تعاظم الإصرار على الاحتفال، تقديراً لعرق التعب من أجل صحافة تستحق الحياة.
كان السبت هو الموعد، أما المدعوون فكل من يعمل في «السفير» ولها، حرساً وعمال طباعة وموظفي المقسم وسعاة ثم محررين في الأقسام جميعاً وإدارات التحرير وهيئة أركان الإدارة العامة، وقلة من الأصدقاء الذين طالما عززوا فينا الروح للتغلب على زمن الصعوبة وقد عشنا في قلبه دائماً.
أطلق خالد عبد الله صوته الشلال كالنفير…
غنى فأطرب، ثم غنى فأشجى، قبل أن يحتضن عوده الذي يطوّعه فيطيعه: يذوب رقة، أو يتفجر قائداً الإيقاع فإذا الجمهور يتقافز إلى الحلقة راقصاً، قبل أن يفرض عليه زهو الطرب الانتظام في أرتال الدبكة وقد تراصف فيها المبتدئون مع المحترفين الذين تتحول أيديهم في لحظات إلى سيوف يمانية تقطع الهواء وتنثره صيحات انتصار بالبهجة على زمن البؤس.
لا لجنة فاحصة ولا علامات تشجيعية، كل يتحرك مع النغم على هواه.. وتتعاظم الحلقة اتساعاً وتتسارع الأقدام مع الإيقاع وخالد يرفع عوده فوق رأسه متابعاً العزف بينما جمهوره يرتحل إلى حيث النشوة متخففاً من أثقال أمسه وهموم غده.
.. وكانت سمية بعلبكي التي نشأت مع «السفير» فصارت بعض وهج الفرح في صفحاتها تجلس كضيف شرف، تهتز قليلاً قليلاً مع النغم الشجي، وتزغرد عيناها غبطة «والأسرة» تحيطها بالتقدير منتزعة منها الوعد بأن تعطي من فنها ما يروي عطش القلوب إلى الحب.
لكن عبد الكريم الشعار لم يطق صبراً، فأطلق صوته العريض لتفيض الحلبة بالنشوة، قبل أن يعود «الجمهور» إلى طاولاته لكي يسمع بقلبه الطرب الأصيل، متدفقاً بحب الحياة، ومرتفعاً بأبناء الحياة إلى ذرى الحب الذي لا حياة إلا به.
وجاء عبد الكريم إلى سمية يتقدمه نهر الشجن، فقامت وقد اتسعت أمامها الحلبة، إذ عاد الكل إلى مقاعدهم وهم يدركون أن الحفلة تقارب الآن قمتها طرباً ومتعة.
وصل محمد عبد المطلب متعجلاً لينبه «الناس المغرمين» إلى أصول العشق الذي لا ينفصل عن الحنان، ولا يخدش الكبرياء، محذراً من إيذاء الشعور «وشماتة العدا».
وفي الموعد المضروب للنشوة القصوى أطلت «الست» ليتبارى عبد الكريم مع سمية، فإذا بهما يتكاملان، وإذا نهر الأصالة يجمعهما عند ذروة الطرب… وإذا «الجمهور» سكارى وما هم بسكارى.
تدفق الصوتان نهراً من الطرب المصفى وهما يضفيان على الشعر العذب طلاوة تضيف إلى رقة المعنى بهاء الأداء الأصيل، ثم يندفعان مع تنويعات «الست» وإعاداتها التي تحاصرك في دائرة النشوة وتكاد تعجزك عن رفع صوتك بالآه إلا انفجاراً.
غمر النهر الحضور جميعاً، وسبح العشاق فيه وقد تخففوا من محاصرة الفضوليين والحساد.. واستعاد الكهول بعض الزمن الجميل فأطلقوا التأوهات، وتمايلوا فوق مقاعدهم بينما تسافر بهم أخيلتهم إلى المباهج المعتقة التي تسكن المهج ويستعيدها الذهن تهويمات من بهاء وشجن.
لكم نضج الصوت في الحنجرة الماسية لهذه الصبية التي رافقنا تدرجها صعوداً حتى ذروة الأداء المنشي.
ولكم قاومت إغراء الانحراف نحو السهل من الطرب السوقي الذي قد يحرك أقدام الراقصين من سكارى علب الليل، ولكنه لا يطرق أبواب القلوب ولا يدخل الوجدان.
من زمان إبراهيم مرزوق الذي طهّر أذواقنا وعلمنا كيف نسمع وكيف نتسلق السلّم الموسيقي الى الطرب، ونحن ننتظر سمية وقد رعاها مع بعض التلامذة المجتهدين لإبراهيم: حسين الخطيب ثم نبيه ثم علي حتى لا ننسى الجيل الثالث ممن تعلموا السحر.
عرفنا ابراهيم مرزوق الذي سمت إنسانيته بفنه حتى الذروة، رسماً، وغناء يستمد أصالته من محمد عثمان وعبده الحامولي وسيد درويش قبل الوصول إلى زكريا أحمد والسنباطي وعبد الوهاب…
ولقد علمنا إبراهيم مرزوق كيف نربط بين تذوق الفنون وإرادة التقدم، وكيف يرتبط الحب الإنساني العظيم بالأرض وأهلها ارتباط الكلمة بالوجدان.
ولقد تتلمذ آل الخطيب المتحدرون من شبعا على أيدي هذا الفنان العظيم الذي أنجبته بيروت وتربى في ظلال العروبة ثم سفحت دمه الحرب الأهلية أمام باب الفرن في محلة أبي شاكر، وهو ينتظر دوره لكي يأتي بالخبز لأطفاله.
لم يكن غياب إبراهيم مرزوق ممكناً. كان يملأ علينا الأفق.. خصوصاً وقد وجد في الرسام المصري العظيم بهجت عثمان شارحاً لفنه، يأتينا بين الحين والآخر بأشرطة وتسجيلات محفوظة لأولئك الفنانين الكبار الذين أسهموا في صياغة الوجدان العربي، شعراً وموسيقى وغناء أصيلاً.
ثم جاءتنا الأقدار بابنة العديسة التي نشأت في أسرة من الفنانين، رسماً وشعراً وغناء ورقة، فإذا سمية بعلبكي تخترق الحلقة لتغدو محورها، يحيط بها أبو علي الخطيب ونبيه وصبحي توفيق وعصام ناصر الدين وآخرون، سرعان ما صاروا «فرقة» تحيطها بالرعاية مجموعة من الذواقة فيهم الفضل شلق وآله، والثنائي حسان شاتيلا وسونيا بيروتي، وحفنة من المتدرجين بإحساسهم نحو اكتمال المعنى، كلمات وألحاناً وأداء.
ذلك من التاريخ… لكن سمية التي تسحبنا الآن إلى فيء الآه، وتحرك فينا المواجع، قد صارت مطربة تتجاوز بأصالتها سوق الطرب المعلب والموسيقى الآلية التي لا روح فيها ولا وجدان يسهر عليها وينميها، فإذا ما عزفها أحسست بروحه تنبض فتملأ الأفق شجناً يسحبك إلى ذرى النشوة التي منها ينبع الحب وفيها ينمو ويتكامل ليصير جنتك.
أما عبد الكريم الشعار الذي أطل لأول مرة من ستديو الفن، ودار يعلم نفسه بنفسه، وهو الآتي من حلقات الذكر وتلاوة الآيات المباركة والأذان الذي يأخذ إلى الله، فاجتهد، وتعب وهو يدرس علم الأصوات، ويغني بلا طلب، لأن النهر الحبيس الذي كان يهدر في صدره يكاد يتفجر بالآهات والمغنى الأصيل.
… وحين أحاط جمهور «السفير» بهذا الثنائي المتكامل أطلت أم كلثوم عبرهما تغني من كلمات بيرم التونسي وألحان زكريا أحمد النشوة المطلقة في «أنا في انتظارك»، فساد صمت مطلق كما في الصلاة… وتناوبت سمية مع عبد الكريم في التطريب، وفي مد الآهات بامتداد لهفة القلب المتشوق إلى لقاء الحبيب، فإذا أفق القاعة يزدحم بالتأوهات، وإذا كثير من العيون قد أشرقت بالدمع… واختلطت أشواق المغرمين بذكريات العشاق القدامى فإذا القاعة تعبق بالتنهدات والقبلات الطائرة أو المختطفة.. بينما وقف خدم المقهى وقد غمرتهم النشوة ليذكّروا المحتفلين بأنهم في الحب شركاء، وبأنهم يتذوقون، هم أيضاً، وينتعشون بالنغم الأصيل وشجن الكلمات المثقلة بالحب، وتنهدات المحبين الذين لم يعد من موجب للتستر على عواطفهم الملتهبة.
عن الخفير الذي صار وزيراً وظل إنساناً
بهي حضورك في لحظة الغياب، يا أبا هشام.
جاء الكل الى من كان كلهم: الأهل من شمسطار وجوارها الممتد عبر لبنان شمالاً حتى آخر جامعة في دمشق وحلب واللاذقية، وشرقاً حتى آخر منتدى في الجزيرة والخليج، وجنوباً الى قلب المقدسة فلسطين وعبرها الى مصر المحروسة وما امتد بعدها حتى المغرب الأقصى.
الكل هنا، وعائلتك القلب، وسيرتك الكتاب، أما الحاضنة فالجامعة الوطنية التي أسهمت في تدعيم ركائزها لتتسع لطموحات الأجيال الجديدة المتطلعة الى الغد الأفضل بالعلم والكفاءة لا بالمحسوبية والرشوة والنفاق والارتهان لزعماء الطوائف والمذاهب.
هذه جامعتك، نتلاقى من حولك فيها، طالباً وأستاذا ومديراً ورئيساً.. وهؤلاء بعض البعض من أصدقائك الكثر، يا من عشت عمرك كله ثم رحلت وليس لك خصوم أو أعداء إلا من خرج على وطنه فأخرج نفسه من قائمة من يستحقون شرف الصداقة.
أيها الخفير الذي صار وزيراً وظل هو هو، ودوداً، طيباً، لا يتنكر لأصله ولا يزوّر هويته ادعاء لنفي منبته في شمسطار التي كان الكثيرون يستهجنون اسمها ويضحكون منه، ثم قبلوه على مضض، قبل أن تجعله مع سائر الطليعيين من رفاقك اسم علم بفضل النجاح الباهر المغلف بالدماثة المعتقة.
أيها الطالب الذي طرزت بقدميك الطريق بين الضاحية والمطار، وثانوية البر والإحسان في الطريق الجديدة، ثم كلية الحقوق في اليسوعية بداية ومن ثم كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية في الصنائع، قبل أن تدخل جنة القضاء لتعيش عبرها نتاج جهنم الحرب الأهلية.
يا أبا هشام.
لم تهنأ شمسطار التي احتفت بك قبل شهور قليلة عضواً في المجلس الدستوري، فأهلك بالكاد فرغوا من تبادل التهاني بأنك قد أثبت جدارتهم بأن يكونوا بين بناة المؤسسات، لو كانت مثل هذه المهمة متاحة ومجازة من طرف الذين أقاموا من أنفسهم بديلاً من الدولة بمؤسساتها جميعاً. ولقد صار بيتك مرادفاً لاسم بلدتك، يتصدرها إعلانا بقدرتها على إنجاب من يستحقون أن يستوطنوا الوجدان حتى بعد الرحيل.
هل تذكر يا أبا هشام؟
قبل أكثر من خمسين سنة باشرنا معاً، يا صديق العمر، العمل لإنشاء النادي الثقافي في شمسطار… وكانت خطوة أولى على طريق الدخول الى العصر.
كنا ندور على دور النشر نتسول الكتب لأول مكتبة عامة في تلك المنطقة التي كانت خارج الذاكرة الرسمية، ولعلها لا تزال… وكان البعض يستعيد اسم شمسطار لكي يحسن نطقه.
وكأي عمل ريادي، كان علينا أن نتحمل التقولات وضروب الاشتباه وعبء الخروج على طاعة الوجاهات المحلية والزعامات التقليدية التي كانت تنتزع الوكالة عنا، ثم تنسانا حتى الدورة الانتخابية التالية.
وكنت المحاور الهادئ.. تخفف من غلوائنا، نحن الفتية المتعجلين نفض أسار التخلف عن كواهلنا، والخروج من سجن العشائرية والإقطاع، راعي التخلف وحامي حمى التبعية بالاستناد الى نظام متوحش لم يعترف يوماً بالناس كمواطنين، بل كان وما زال يفرض عليهم أن يكونوا رعايا في منظومات طائفية أو مذهبية تنفي عنهم جدارتهم بمرتبة المواطنين… حتى وهم يستشهدون من أجل تحرير الارض وكرامة أهلها فيها.
وحين نجحنا في استدراج وزيرين صديقين بداية الستينيات الى مجاهل بلاد بعلبك، تزاحم الناس للفرجة على الدولة التي جاءتهم، لأول مرة، بواجهة مدنية!
يا أبا هشام: ما كان أطول الطريق وأشقه، وما أروع الريادة وأمتعها: أن تخرج على الإقطاع، سياسياً أو دينياً، شاهراً حقك في أن تكون أنت، حتى لو تطرف الاتهام فاستحضر من علمنا الحرف الأول ـ في القراءة والسياسة ـ السيد جعفر محسن الأمين الذي لولا إدارته المدرسة الابتدائية لما صارت تكميلية فثانوية، ولما وصلت الى الجامعة طالباً ثم رئيساً.
لقد طلبت العلم فمشيت اليه على قدميك وكأنه، حقاً، في الصين! أحسب مجموع المسافات التي قطعت ساعياً اليه في علياء الصعوبة؟
وانظر الى بعض صحبك هنا، وقد دفعوا أحلى سنوات الشباب في طلب التقدم، بين انتساب الى الجمرك مثلك، أو الى الدرك مثل آخرين هنا، أو هجرة قريبة، تمهيداً لهجرة بعيدة لكي يثبتوا جدارتهم بالتقدم وقد دفعوا نصف حياتهم ثمناً حتى يوفروا لأبنائهم غدهم الأفضل.
وها هم أبناؤك الثلاثة قد وصلوا أعلى مراتب العلم، بسهرك والسيدة والدتهم عليهم، وقد أكدتما فيهم أن الناس الطيبين الذين لا ألقاب لهم إلا ما يكتسبونه بالعلم هم الجديرون بصنع المستقبل الأفضل.
يا أبا هشام: ها نحن نحتفل بك في جامعتك، وقد التف من حولك كل من يشهد على نجاحك في اقتحام الصعب وفي ترك بصماتك فوق العديد من الإنجازات، فصرت الأستاذ والقاضي والرئيس والمشرف بحماية الدستور من المتجاوزين عليه والذين يحاولون خرقه كل يوم بذريعة حماية الديموقراطية أو العدالة أو الوفاق الوطني، فيصرعونه ومعه كل تلك القيم والمطامح المشروعة للناس الممنوعين من أن يكونوا أو يصيروا شعباً.
يا أبا هشام: واجبنا أن نكمل المسيرة، على الطريق، في قلب الصعب، حتى يعترف بنا الوطن الذي سيظل من دون أبنائه مزرعة يختلف أهل الطبقة السياسية على اقتسام خيراتها، فيدفعون بنا الى حرب أهلية اثر أخرى، ليبقوا أسيادا لغدنا ويتركونا بلا غد.
ولسوف نفتقدك أخا وصديقاً ورفيقاً ونقطة مضيئة في أفق المنطقة التي تفخر بأنها أنجبتك فلم تتنكر لها ولم تهجرها، بل كنت تباهي بانتسابك إليها وقد جعلت بيتك المدخل.
يا أبا هشام: شكراً لك.. فقد تركت لنا ما نزهو به بعد الرحيل، بقدر ما كنا نزدهي بصداقتك وأنت تتقدمنا مبتسماً، أيها الذي عشت العمر كله ثم رحلت بلا أعداء.
(كلمة في وداع الدكتور أسعد دياب
في الجامعة اللبنانية في الحدث)
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ ليس الحب من البدو الرحّل، يبدّل أوطاناً وأحباباً في كل غد.. الحب يقيم فتقوم عليه الحياة.
الحب وطن أيضاً.