طلال سلمان

هوامش

أنيس صايغ: جمعنا المتفرق… في طبريا!
هو الآن في طبريا،
يقف على شرفة بيته فيها، ملغياً من ألغاه، يستمتع بمشهدها الباهر الذي لم يغادر وجدانه، وقد استعادت عيناه ألقهما الذي لم يذهب به التفجير الإسرائيلي…
يتأمل صفحة تاريخه المكتوب بمياه البحيرة التي سكنت عينيه، ولعلها قد حمت فيهما النور بقداستها.
يلتفت الينا ويقول، كمن يكمل حديثاً بدأه قبل سنوات عديدة:
حتى نتفادى البعثرة والتفرد والتقطع والقدرات المحدودة والامكانات الهزيلة، فإنني أدعو الآن، وبكل حماسة وإصرار، الى إنشاء مركز أبحاث (شاملاً، بالطبع، قسماً للتوثيق وآخر للتخطيط) يزود تلك الجبهة السياسية العريضة ما تحتاجه من معلومات ودراسات حول مختلف القضايا المتعلقة بالشأن الفلسطيني، عربية كانت او إسلامية او إسرائيلية ـ صهيونية او دولية، مركز حديث متحضر في وسائله وغني بعلمائه ومعلوماته متقدم في أدواته التقنية وموضوعي في دراساته، يتابع الرسالة التي حاول مركز الأبحاث ان يؤديها الى ان جرّد من فاعليته سنة 1976 ثم خنق سنة 1982 ثم دفن نهائياً، بل ان المركز الجديد مدعو الى ان يفعل، ويتفاعل مع القضايا الراهنة، بأقوى من السابق، وعليه ان يتعامل مع المثقفين الملتزمين الأوفياء للعهد، وأن يؤمن لهم جو الحرية الذي لا يستطيع مفكر خلاق ان يعمل من دونه.
ما زال الصح هو الصح وسيبقى.
لقد غدت كلمات أنيس صايغ وصية تنتظر المؤمنين بها لتنفيذها.
لم يحمل أنيس صايغ من السلاح الا أخطره: العلم. البحث المعمق. الدراسة المتأنية، كشف المطموس والمعتم عليه من المعلومات والوقائع الدالة على طبيعة العدو وتحالفاته الدولية وخطط تحركه.
لم يدرس من أساليب المواجهة الا افعلها: ان تعرف عدوك.
في وقت مبكر اكتشف أنيس صايغ ان الظاهر من عدوه ليس الأخطر، فلا الطائرات الأسرع من الصوت بطياريها المدربين فينا، ولا تلك التي لا تحتاج طياراً وهي تصور ما فوق الأرض وما تحت الماء وما في الصناديق المغلقة، ولا المراصد التي تتوغل مناظيرها في الليل فتكشف النوايا، ولا شبكات التجسس التي تخترق الحدود والصدور والعقول، الوزارات والإدارات والمؤسسات فتصل الى مكامن الأسرار والافكار والخطط فتنزحها ثم تقتل حملتها او المكلفين بالمراقبة او التنفيذ.
اكتشف أنيس صايغ ان عدوه مصفح بالعلم، وأنه لا يتحرك الا على قاعدة معلومات، وأنه لا يرتجل تصرفاته بالانفعال او تحت الشعور بالقلة في مواجهة الكثرة، وأنه تحرر من خوفه بمعرفة عدوه فصار هو القوي أقوى، وصار عدوه الضعيف اصلاً اضعف، وافتقد التوازن كلياً فانفتحت أمامه الطريق الى أهدافه بأقل كلفة ممكنة.
كان أنيس صايغ يعرف ان التحرير معركة هائلة ومفتوحة بغير مدى معروف، بين أسلحتها الوعي بالتاريخ، والصلة الحميمة بالأرض وما تختزنه من دروس، فهي المعلم وليست المعالم فحسب، وأن أبناء الأرض جاهزون اذا ما توفرت القيادة، وأن المال أغزر من ان يحتاج الى جباة، وأن السلاح من الرصاصة الى الصاروخ جاهز لمن يقدر على استخدامه في موقعه الصحيح وبالتوقيت الصحيح وليس لغواة الاستعراض المسلح والتسليم من قبل التفاوض.
كان أنيس صايغ يعرف، مثل منح الصلح، أن الثورة ليست فن تدبير المال والرجال والسلاح، بل هي أكثر سمواً وأكثر تعقيداً لأنها تتصل بإعادة كتابة التاريخ وتصحيح الخرائط والمصائر بالوعي والمعرفة وفهم حركة الأحداث في العالم .
وما زلت اذكر أننا كنا نحضر أنفسنا بتهيب اذا ما أردنا زيارته، او لقاء بعض الأصدقاء العاملين تحت إدارته في مركز الأبحاث. كنا حين ندخله يداهمنا الإحساس بأننا في معبد، يجلله الصمت، وينصرف كل من فيه الى ما بين أيديهم من مراجع وأوراق وكأنهم في طاعة الصلاة.
كانوا يتصرفون وكأنهم في سياق عملية فدائية ضد العدو.
[[[
أنيس صايغ لم يتخلف عن الركب. لم يخطفه الموت فيخرجه من الساحة.
انه يتقدمنا. انه يسكن غدنا.
لقد حدد لنا الطريق، ورسم لنا خريطة العودة. عرف عدونا فعرّفنا به كما يجدر بنا ان نعرفه. لا هو اسطورة في القوة لا تقهر، ولا هو قطيع من شذاذ الآفاق.
أقوى مصادر قوته ضعفنا. وأعظم أسباب هيمنته عالمياً غيابنا عن مواقع التأثير وتخلينا عن اخطر الأسلحة: معرفة العدو.
لقد تعاملنا مع إسرائيل في إحدى صورتين: في البدء كعصابات من شذاذ الآفاق تكفي لمواجهتها هبة النشامى وأصحاب النخوة والمجاهدين الذين قدموا أرواحهم رخيصة في مواجهة التنظيم والجيش المعزز بأقوى عدة للقتال، الطائرات والدبابات والخطط الحربية والإسناد الدولي غير المسبوق.
وبعد مسلسل من الهزائم انتقلنا في نظرتنا إليها من النقيض الى النقيض: فإذا هي مجسم للقوة المطلقة، يساندها العالم كله في عدوانها واحتلالها وهيمنتها، لا قبل لنا بمواجهتها ولا نستطيع وقف تمددها السرطاني الا بتنازلات بلا نهاية، وبالمساومة المفتوحة على الحق حتى يذهب الحق كله.
وكما جابهنا الحرب العسكرية «بيا فلسطين جينالك»، ذهبنا الى المواجهة على المستوى الدولي بأحد وجهين: إما ان العالم يعرف عدالة قضيتنا وبالتالي فهو سيكون معنا حكما، بغض النظر عن مصالحه وموقعها من هذه المصالح، وبغض النظر عن غربيتها وأنها في صميم وجودها بعضه، ليست غريبة عنه، ولا هي طارئة عليه، رجالها من دياره، وأهداف زرعها في المنطقة تتقاطع مع أهدافه في الهيمنة عليها. هي منه. ليست غريبة عنه ولا طارئة عليه ومؤقتة.
أنيس صايغ يعيش لفلسطين مع كل كتاب نقرأه لنفهم العالم، مع كل بحث نعطيه من نور عيوننا لنعرف عن عدونا ما يكفي لمواجهته. مع كل جهد نبذله لكي نتعرف أكثر على أرضنا. مع كل متخرج جديد من مختلف جامعات العلم. مع كل باحث جدي يهتم بأن يفهم. مع كل دارس لأسباب التحولات السياسية التي يحركها الاقتصاد والمصالح عبر شبكة الشركات المتعددة الجنسية التي باتت تغطي الكون وباتت تموه الدول وهوياتها وتمنح اسرائيل غطاء مصفحاً يصعب خرقه.
لن نعرف غدنا حتى نعرف عدونا، ولن نعرف عدونا قبل أن نعرف أنفسنا.
وبحيرة طبريا تقرئكم السلام. لقد ارتسمت صورة أنيس صايغ على صفحتها ولسوف تحفظها كالتميمة.
ان أنيس صايغ هو اسم حركي لفلسطين. هو عنوان لعروبتها، ودمه هو الطريق اليها. لقد أعطاها نور عينيه، في مركز الأبحاث الذي جعلته إسرائيل هدفاً حربياً، لتمنع شعب فلسطين من ان يحفظ تاريخه وجغرافية أرضه المقدسة ووقائع نضاله فيها لمنع المؤامرة عليها، التي شارك فيها العالم اجمع، ومن ضمنه بعض القادة العرب.
لقد عاش أنيس صايغ حياته جميعاً على انه العربي بامتياز، تتمازج فيه الهويات الكيانية التي فرضت على الأرض الواحدة فقسمتها وجزأتها وأقامت بين الأخ وأخيه السدود والحدود بالعسكر الذي يحرسها من خطر استعادة حقيقتها الواحدة.
هو الفلسطيني من طبريا لأب سوري المنبت من حوران وأم لبنانية من البترون. هو من يسقط باسمه وبنسبه سايكس بيكو وأداته التنفيذية وعد بلفور.
أنيس صايغ هو جمعنا المتفرق
أنيس صايغ هو نحن… حين نتلاقى مع فلسطين وفيها.
(كلمة في حفل تأبين أنيس صايغ في اليونسكو)
جورج جرداق: الطفل العجوز يعشق شعراً

أعترف أنني أغبط، بل فلأقلها صريحة: أحسد هذا الفتى الغر الذي لا يهرم ولا يشيخ وإن توكأ على عصا له فيها مآرب أخرى.
نعم، اعترف أنني احسد جورج جرداق وأغار منه.
أحسده على شبوبيته وعلى قامته الرشيقة، وأغار من انجذاب النساء اليه والتفافهن من حوله يضاحكهن ويداعبهن ويعابثهن، فإذا ما اقتحم عليه جلسة الإنس مقتحم أحسن منه طلعة وأغزر شعراً وأعظم أناقة حلق في سماء الشعر يرسله رقيقاً فيسحر الصبايا ويدغدغ مشاعرهن حتى البكاء، ويسقط المقتحم سهواً بأرجوزة مباشرة.
اعترف انني أغبط هذا التسعيني العاشق الذي يرفض مغادرة سن المراهقة، فتراه مستقراً فيها وقد جعلها ديوانه.. بل إيوانه الذي يتسع لنساء الأرض جميعاً مع ان واحدة منهن تكفي لتملأ الدنيا والآخرة…
اعترف أنني أتحسر على أنني اكتفيت منه بالود، ولم استطع ان أقبس منه شيئاً من مواهبه العديدة التي لا اعرف اين يختزنها جسده الضئيل… فلا هو أدخلني جنة نسائه، ولا علمني السحر وهو يصوغه شعراً ونثراً غزلاً ندياً او هجاء شرساً،
لقد ارتكب هذا الطفل العجوز جرائم خطيرة: تصدى لفضح العلاقات السرية بين فاغنر والمرأة حين تسلل غراً الى مخدعهما وعاد منه بأول كتبه.
ثم إنه سبح في بحر البلاغة ونهجها في اتجاه منارة علي بن أبي طالب، التي طالما بهرت الدعاة والمفكرين فنجح في رسم الصورة الحية لأعظم رجل عربي بعد النبي محمد، على حد تعبير ميخائيل نعيمة… وهو قد اكتشف في البلاغة ما لم يكتشفه المتقدمون او المعاصرون في صوت العدالة الإنسانية فكتب ثم كتب ثم كتب حتى أنجز خمسة مجلدات في هذا العظيم الذي اعتبره يخص كل إنسان «لست من قوم ومن دين… أنت للناس أجمعين».
من فولتير وموليير الى ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي ومن المتنبي وغوركي الى فيروز وعاصي الرحباني وفيلمون وهبي، ومن حديث الغواني وأبي نواس وإبليس في الخمارة وحديث الملاهي والصبايا والمرايا الى قضية وحرامية التي جمع فيها الممثلين جميعاً كما لم يجتمعوا في أي عمل آخر، دريد لحام ونهاد قلعي والياس رزق وفريال كريم وناديا حمدي…
على ان الأخطر في هذا المراهق الذي لا يعرف مهنة الا العشق انه مغرم بالمرأة والجمال، لان المرأة الجميلة هي في إحساسه طوفان من الفتنة يلبس الوجود أبهى حلله.
ثم انه يعتمد بعض الأسلحة المحرمة دولياً، كالسخرية، ويبررها بأنها أمضى سلاح في يد الحياة ضد شبح الهلاك… وهو يستخدمها ضد من يراهم ظلمة وفاشلين وأعداء البساطة والجمال.
كذلك فإن هذا الجرداق متخلف ومعاد للعصر، اذ انه ضد المغني الحديث والرسام الحديث والمزارع الحديث الذي يستنضج الثمر بالسماد الكيماوي… وضد كل من يمشي مسرعاً ويقعد مسرعاً وينام مسرعاً ويقوم مسرعاً ويموت مسرعاً… ويتطرف فينسب السرعة والتسرع الى الإمبريالية الاميركية.
جورج جرداق: من أين أتيت بكل هذا النجاح، أيها الجنوبي المتخلف ابن جديدة مرجعيون؟! لقد سبقت الى المقاومة لأنك أناني وتريد دائماً ان تكون الأول، ولأن هويتك اليوم وفي الماضي وفي الآتي توجز بالانتماء الخالص الى الإنسانية، وإلى الحرية، وإلى الأرض وإلى أهل الأرض.. أي انك ضد الصهيونية، وضد الاحتلال الإسرائيلي وضد الهيمنة الاميركية، ومع فلسطين وحق شعبها فيها… وهذه جريمة، كما تعلمون خطيرة، لأنها تقع تحت طائلة قوانين مكافحة الإرهاب الدولي.
جورج جرداق: اعترف… من أين سرقت الأجراس الموسيقية المتكاملة التي تحملنا في شعرك الى ذروة النشوة طرباً؟
اعترف أيها الفتى الأغر الوسيم، الأنيق، كيف تستطيع ان تجمع بين ميلك للكاريكاتور الذي يلازم قلمك وبين لقائك مع ابي حيان التوحيدي في الفكرة الواحدة.
وكيف استطعت ان تكون شاعر الفقراء وعشاق الحرية وأنت تتباهى وتجعل ام كلثوم تتباهى معك وتغني لغيرك «هذه ليلتي»؟!
جورج جرداق… أيها الدكتاتور، لماذا تريد ان تفرض على اللبنانيين قرناً كاملاً من الصمت، وتجعلهم يتحدثون بلغة الإشارات والإيماءات…
أتريد أن تستفرد بهم قرناً جديداً، بعدما أغرقتهم في كلامك نثراً وشعراً، أتريد ان تحتكر المنابر جميعاً، بحجة انك قاهر الشيخوخة، وأنك متفرغ لعشق الجمال، وأنك لا تخاف ان تغرق في المرأة الجميلة برغم انها طوفان من الفتنة؟
جورج جرداق: ايها الماكر.. تتظاهر انك طفل في براءتك، ولكن ألف شيطان يقفزون من عينيك الناعستين عندما تطل امرأة!
جورج جرداق: أيها المتخلف الذي لا يسافر لانه يخاف من الطائرة ويفضل الحمار والحصان والبعير… كيف تزعم انك تقود ثورة التقدم في الفكر والتعبير وسائر حقوق الإنسان؟!
جورج جرداق: حتى لو لم يوزّع أثرك النفيس علي بن ابي طالب صوت العدالة الإنسانية خمسة ملايين نسخة، لم يعد اليك من ثمن مبيعها خمس ليرات،
وحتى لو لم تكن نديم محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ورياض السنباطي والأخوين رحباني وفيروز ونصري شمس الدين ووديع الصافي.
وحتى لو لم تكن الصديق اللدود لسعيد فريحة.
وحتى لو لم تكن من أنت ايها العجوز المراهق الذي لا يترك لنا فرصة لمغازلة صبية حسناء مصابة بلوثة حب الختيار.
حتى لو لم تكن إلا ما أنت عليه اليوم، فأنت أنت الصديق الكبير، نفاخر بصداقته، ونعتز بأننا تتلمذنا عليه من قبل أن نعرفه، ونعترف بأننا لم نستطع ان ننافسه في استمالة الصبايا.
جورج جرداق: انت كبير من بلادي، أعطانا الكثير ولم نعطه إلا أقل القليل.
شكراً للرابطة الثقافية في انطلياس أنها وفرت لنا هذه الفرصة لنلتقي من حول من أضحكنا وأبكانا، في آن، من علمنا وأغنى ثقافتنا، ومن رسم لنا الطريق الى غد إنساني مشرق بتفاؤله الأبدي…
فقط، لو انه يزيح من الدرب ويترك لنا بعض حريمه إذاً لكتبنا من الشعر أعذبه.
جورج جرداق: دمت لنا شاعراً، كاتباً، محدثاً، وصاحب مجلس أنس ونميمة… لكي يبقى لنا من نستغيب معه الآخرين، كل الآخرين، بمن فيهم هذا المراهق الذي أحب الحياة فأكرمته.
ولولا خوفي من هجائية يرد بها من رصعت هذه القاعة باسميهما عاصي ومنصور الرحباني، لقلت أكثر، لأنك تستحق الأكثر…
سلام عليك جورج جرداق معلماً كاد ان يكون رسولا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(كلمة ألقيت في تكريم الحركة الثقافية في انطلياس لجورج جرداق)
مــن أقــوال نســمة
قالي لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ العتاب فيض محبة، لكنه قد يتحول إلى طوفان يذهب بالحب. يعرف حبيبك تقصيره، امنحه فرصة لتعويضه: أحبه أكثر!

Exit mobile version