طرابلس ـ الشام: بدر الحاج يعلن حبه بالبطاقات البريدية
أثار الشجن في نفسي كتاب بل مجلد فخم الطباعة، عظيم الحجم، أنيق الإخراج، يحمل عنوان «طرابلس الشام ـ جولة مصورة مع البطاقات البريدية»، جمع مادته ونسق أبوابه وصفحاته الزميل المهاجر موقتا بدر الحاج.
ليس المجلد تأريخاً للمدينة، لكن بدر الحاج وجد فيه الفرصة كي يجهر بعاطفته تجاه طرابلس، وهو ابن القرية التي تبعد عنها مسافة نصف ساعة بالسيارة، وكانت زيارته الأولى لها وهو طفل، أمنية ربطها أبوه بعلاماته المدرسية… ثم انه عاش فتوته فيها طالباً وعاشقاً، فوجد فيها ما كان كتبه عنها الموظفان الفنيان محمد بهجت ورفيق التميمي في العام 1915: «أبهى بلدة على ساحل سوريا، وهي معرض فخم للبدائع والمحاسن».
لم يكتب بدر الحاج إلا صفحات قليلة في هذا المجلد، لكنه أودع الكلمات عاطفته الصادقة تجاه هذه المدينة التي عرف ساحاتها وشوارعها، مساجدها وكنائسها ومقاهيها، كما جاس في بساتين الحمضيات والبرتقال، بروائحها الرائعة، واشجار الزيتون العتيقة وقد كانت تغطي المساحة ما بين البحصاص وساحة عبد الحميد كرامي (التي ابدلوا هويتها مرات ومرات حتى صارت غريبة عنها).
وينقل بدر الحاج ما ذكرته بعثة الاونيسكو برئاسة بول كولارت من ان «مدينة طرابلس القديمة عمل فني إذا ما أخضعت للقليل من الترميم وإعادة التخطيط».
^ التاريخ بالبطاقات البريدية
المجلد «مجرد معرض مصور بواسطة البطاقات البريدية، معظمها من السوق الفرنسية، قديمة، او صور شمسية للقلعة، من جوانبها المختلفة، وساحة التل والميناء (كمدينة) ومجرى نهر أبو علي وطرق المواصلات والمنتزهات.
أما أبرز المصورين ممن انتجوا تلك البطاقات فهم: ميشال دافيد، وكان يملك ستديو تصوير في التل، والاخوة صرافيان اخوان، وسامي غرابيديان، وصليبا الدهان، وصبحي البارودي، واحمد الهواري ويوسف قطان وسباط ارابيان ويعقوب ابراهيميان وبغدسار اوفاليان واستديو وليم صبحية في طرابلس، وفوتو سبور، ومعظمها تم تصويره في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته…
يشير المجلد الى ان طرابلس كانت، تاريخيا، في موقع الميناء. وعندما استولى السلطان قاوون عليها سنة 1289 قام بتدميرها واحرق القلعة، وهرب الصليبيون منها، وقد أعيد بناؤها في موقعها الحالي على بعد 3 كلم من الساحل، وشيدت سلسلة أبراج للمراقبة. وهو من بنى فيها الجامع المنصوري سنة 1294 وأكمل بناءه الملك الاشرف بن المنصور.
^^ لمحات عن تقدم الماضي على الحاضر
أما الميناء فكانت تحوي ألفي منزل، ولوكنده واحدة لصاحبها من أصول يونانية، وكان على السياح فور وصولهم الى المرفأ الاتصال بالقناصل لتأمين مساكن لهم. وفي العام 1906 كان في طرابلس فندقان: بهجة الشرق بإدارة اسكندر شاوي، وفندق أوروبا بإدارة تيودور كيركيادس.
أما خط سكة الحديد طرابلس ـ حمص فقد افتتح في حزيران سنة 1911، وخط شركة نفط العراق 1922، وكان عدد السكان 36 ألف نسمة. وفي العام 1947 زادوا الى ثمانين ألفاً، وفي 1952 صاروا 110 آلاف نسمة… وقد شهدت المدينة هبوط اول طائرة فرنسية فيها في العام 1913. أما المكتبة السورية فقد افتتحت في العام 1920.
في العام 1912 كان في طرابلس 14 مسجداً اثرياً وعدد مماثل من الكنائس وكنيس يهودي! وكان في تل الرمل سباق للخيل، وكانت تجري فيها مباريات قذف الجريد من على ظهور الخيل.
^^^ المولوية ـ القلعة والطرق شركات… بالتبرعات!
أما القلعة (سان جيل) فقد اعاد بناءها الصليبيون، وكان الفينيقيون قد أقاموها في موقعها في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ثم تم إحراقها وتدميرها على ايدي المماليك في العام 1268… وقد شُيدت القلعة الحالية على أنقاضها، وتولى الإشراف عليها حاكم طرابلس اسندمر الكرجي ثم حسنها العثمانيون.
وأما المولوية فكانت للدروايش ومعروفة بهذا الاسم، وقد بنيت كما يذكر ابن المحاسن في كتابه «المحاسنية في الرحلة الطرابلسية سنة 1619» على يد مندوب السلطنة حمصمجي في محلة أبي سمرا، على ضفة نهر أبو علي. وهي من ثلاث طبقات وتضم قاعة كبيرة مربعة الشكل لإقامة حفلات «الفتل»، وهو نوع الرقص الذي تؤديه المولوية. والفرق تأسست في القرن الثالث عشر في مدينة قونيه التركية من قبل المتصوف الفارسي صاحب «المثنوي» جلال الدين الرومي، ثم انتشرت في الأقطار الإسلامية.
يبقى ان نشير الى ان مدحت باشا قد أمر في العام 1879 بتحسين الطرق، فدفع أغنياء المدينة اكلافها، إذ دعاهم الى تأسيس شركة مساهمة برأسمال كان لإنشاء طريق جديدة، وتم تدشين الطريق سنة 1880، واستقدمت 5 عربات من بريطانيا للاستعمال على هذا الخط بطابق علوي و2 من دون طابق علوي وواحدة مكشوفة.
^^^^ الفيحاء بين لعنة الكيان وحقد النظام
لا يقول بدر الحاج صراحة انه عاشق لطرابلس، وان كان عشقه يطل في كل سطر من سطوره القليلة في المجلد الفخم.
وما دام الحديث عن طرابلس فلا بد من الاعتراف:
بيروت في القلب، لكنني وغيري ممن عرفوا طرابلس، قد احببنا هذه المدينة التي احتفظت بقلبها نابضاً فصارت «بلد الفقير»، قبل ان تتعرض للقتل عمداً مع سبق الإصرار.
لقد ضربها الإهمال باليتم، فانطوت على نفسها مجرّحة ومهانة، أبية ومنكرة عليها حقوقها، وأُسدلت فوقها ستارة النسيان، فكاد الناس خارجها يُسقطونها من ذاكرتهم المزدحمة بمواجع الحروب الأهلية التي شهدت طرابلس أقساها تدميراً للعمران والهوية والروح في آن معاً.
يئس أهلها من دولتهم التي لمّا تصر دولتهم، كأنها لا تزال تعاقبها على اسمها التاريخي «طرابلس الشام»، فتعايشوا مع الظلم حتى لا تكون مدينتهم ـ مرة اخرى ـ ساحة اقتتال بين من كانوا اخوة فافترقوا، وبين من كانوا رفاق سلاح فاحتربوا، ثم حولوا أسلحتهم ضدها وتنازعوها حتى حطموا البنيان فيها وزوّروا لها هويات لا تليق بتاريخها ولا بنضال أهلها في ساحة كل قضية عربية.
انتفضت طرابلس بداية ضد مشروع سلخها عن سوريا، هي طرابلس الشام.
ثم انتفضت مع الثورة السورية، ومع ليبيا عمر المختار، ومع فلسطين عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني، قبل ان تنخرط في ركب النهضة العربية الحديثة مع ثورة جمال عبد الناصر في مصر التي جاءت به الى الوحدة في دمشق.
لعلني وكثيرا غيري قد احببنا طرابلس لأننا وجدنا فيها مزيجاً من المدينة والبلدة والقرية، بمجتمعها الذي يختزل عوالم كثيرة، مستبقيا نكهته الخاصة. فهو المتعدد على محافظة، وهو المنطوي على ذاته شأن المدن الساحلية التي صنعت تاريخها الحروب وإغارات الأجانب، واستبقت آثارها في جنباتها، وحتى في تركيبتها السكانية.
هل هي لعنة الكيان: «هجرتها سوريا وهي طرابلس ـ الشام، وعاقبها «لبنان» المستولد «كبيرا» مع الانتداب بوصفها «طارئة» او «دخيلة» عليه، متهمة في ولائها، خصوصاً في الزمن الفرنسي… فلما جاء الاستقلال ظلت مستبعدة إلا حين يشجر الخلاف في قمة «النظام»، فيلجأ الى طرابلس للانتقام من زعاماته البيروتية، الشركاء الأثيرين في السلطة حتى انقلاب الزمان في العام 1958. وقد اعادت إليها اعتبارها نهضة العروبة وبلوغها الذروة بإقامة دولة للوحدة تحت قيادة جمال عبد الناصر، وكان لا بد من تحصين النظام بلبننة طرابلس وإدخالها قصر الحكم. لكن ذلك حديث آخر.
ولقد اعتبرتُ هذا المجلد الذي صرف بدر الحاج في إعداده وتنسيقه زمناً طويلاً، تحية الى طرابلس وتاريخها ودورها الذي اغتيل قهرا.
^^^^^ شراكة في حب طرابلس الضحية
المهم أن لغة هذا الكاتب الشمالي تحفل بالحنين الى التاريخ، حين كانت طرابلس «عاصمة» فعلية بالنسبة الى الجهات جميعاً، من بشري الى القبيات في عكار، مروراً بإهدن ـ زغرتا والكورة والضنية وبلدات الساحل، المنية ـ حلبا. فيها المدارس الممتازة، للرهبانيات او للإرساليات، وفيها المسرح ودور السينما، وفيها الأسواق الغنية بكل ما تحتاج اليه البيوت، وفيها الطيبة ـ الدعة ـ البساطة. تستحق لقب أم الفقير.
فيها الميناء. وفيها الأسواق التي توفر لأهل الريف احتياجاتهم بلا مبالغة في الاسعار. وفيها المقاهي البلدية التي «يتوحد» فيها الناس في اسباب لهوهم، انتظاراً للسيدات المنهمكات في التسوق.
كان الشماليون عموماً يتباهون بعاصمتهم طرابلس، ففي مدارسها درسوا، وفيها عاشوا شتوياتهم، وفيها نشأت الصداقات متجاوزة حساسيات اللهجات والطوائف التي لكل منها حضورها وإن بقي المناخ الإسلامي هو المسيطر.
كانت الطريق، منها وإليها، حدائق توزع شذى زهر الليمون على القادمين والعائدين من حيث جاءوا، مزودين بما أتوا من اجله وبجديد لغتهم، فاشتروه من المدينة التي ظلت أسعار الحاجيات فيها غير قابلة للمنافسة.
[ [ [
ولم اعرف كل طرابلس التي يضمها هذا الكتاب النفيس الذي يقدم لوحات جميلة للمدينة في العقدين الأولين من القرن الماضي، مع لمحات من تاريخها الذي ما زال له بعض الأثر في المباني التي امكن استنقاذها من الهدم بقصد التجديد او بقصد التخلص من الهوية.
لكنني عرفت من طرابلس ما يغني ذاكرتي، وعرفت فيها ما عزز وطنيتي وعروبتي قبل ان تجتاحها حروب العصبيات والتنظيمات، التي تحولت في بعض الاحيان الى حروب دينية، وفي احيان اخرى الى حروب مذهبية، ضيّعت ـ بمجملها ـ عمران المدينة وهوية أهلها ومكانتهم.
شكراً لبدر الحاج. ان كان يحق لبعلبكي ان يشكر هذا الشمالي، بوصفه شريكاً له في حب الفيحاء التي اغتالها «محبوها» ألف مرة، ومع ذلك بقينا نحبها… رغما عنهم!
لمن ستعترف ريما الليلة؟
لن نعرف لمن ستعترف ريما كركي الليلة… كما لم نعرف لمن اعترفت في الليالي السابقة، ولن يخدعنا الإهداء الى «الأم الجنوبية الهوى في مقاومتها، البيروتية في عشقها لأعتق زاروب من مدينتنا السحرية». هذه الأم التي صيّرتها ريما كركي «لبنان»، ربما بوصفه العشيق الجديد.
فإذا كانت «الكتابة كممارسة الحب بحب»، فلسوف يصعب تحديد قارئها، إذ لا بد للقارئ من ان «يعرف الرقم السري لرؤيتها كما هي، بكل جنونها، بكل حقائقها»، وهذا أمر غير متاح إلا لقارئ أوحد هو ذلك السعيد الحظ الذي يمكنه ان «يعبث بجمالها، يزيدها إشراقاً، يسبح في عينيها، يملأ خلاياه برائحتها، يمشي في عروقها، يزرع أشواقه الملونة في ضلوعها، ثم يغطيها ويغفو ممسكا يدها، غارقا في كتفها… كي لا تهرب».
ولهذا «القارئ» ان يحب هذه «المرأة» بالتحديد، ومعها مواقفها السياسية التي لا تحوي كثيرا من الحب، ولا تحرض عليه، قتتناقض مع سياق العشق رقة بمثل سياق قصائد «سيدة الأنوثة والقوة والجمال».
ومع ان السياسة تشتغل في الليل مثل العشق، فإن النهار لا يظهرها في الصورة المشتهاة، بل احياناً تكون مثل «الضربة القاضية» التي قد يذهب ضحيتها العشيق الذي «لا شيء يشبهه»، والذي «هو هي»، في حين انها «فائض من امرأة» في «نقطة عبور». وان كانت السياسة مثل هذا «الحب الذي لا يحتاج اخلاصاً».
كان افضل لريما كركي ان توحد موضوعها، فلا تمزج بين المواقف السياسية التي لا يمكن ان تكون بمثل الرقة التي تنبع من العشق، إذ انها غالباً ما تصدر عن كارهين للمحبين، وان كانوا «جمهورهم».
إن السياسة مفسدة للحب. وهي لا تطيق من الهمس إلا ما يتصل بتآمر اثنين على ثالث، او على مجموع المحبين.
دعي العشق يكتب يا ريما، فهو أروع لغة كما تعرفين.
حكاية /ليس للحب عداد
جاءني صديق يكبرني عمراً فوجدني مهموماً. قال: أهو العمر، مرة اخرى؟ لم ينتظر جوابي، بل عاجلني حين رآني اهز رأسي فصرخ بي:
ـ تشيخ حين ينضب الحب.
لا يتوقف الحب عند محطات العمر. ليس للحب عداد.
…وحين تصير السنوات أحفادا يتسلقون الشمس الى المستقبل، يتهاوى إحساسك بالعمر، فها هم يسعون بك بينهم، يؤرجحونك، يفجرون وقارك ضحكات صافية، يمنحونك املاً رحبا يتسع لاعمار عديدة.
يمنحك الحفيد طفولة جديدة. يمنحك املاً بشباب جديد، بل هو يمنحك الشباب لو اردته.
من شاء ان يذهب الى الشيخوخة فليذهب وحده. اما ابناء الحياة، عشاق الحياة، الذين يعطون الحياة من المعنى بقدر ما يأخذون من رحيقها بهاء لأيامهم، فلا يشيخون.
الحياة قرار… وقراري ان احب لأحيا.
ونظرت الى وجهه فلم ألمح فيه إلا الزهو بشبابه، ثم تعاظم الزهو مع رنين هاتفه، فأشار إليّ ان اصمت فانصرفت لاتركه يغازل شبابه المتجدد.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ للحب اللغات جميعاً: الصمت، الهمس، اللمس، اغماضة العينين، التنهدات، الشعر، الكثير من الشعر، الضوء، الظلمة، البرق والرعد، وموسيقى المطر وهسيس الثلج.
آخر لغات الحب: الكلام… لذلك يحاول المحبون ألا يكثروا من الكلام… خوفاً على الحب.