طلال سلمان

هوامش

محمود ستيتية المعلم الذي أنجب شعراً بلغتين
التقينا بلا موعد، بعد دهر من الافتراق، أمام الباب المفتوح لمنزل الرئيس سليم الحص: كان السفير ـ الأمين العام للخارجية (بالاضطرار) صلاح ستيتية قد أنهى زيارته اليومية لرئيس الحكومة (بالاضطرار) بعد اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، وكنت آتيا للقاء مع دولته، في ذلك الزمن الصعب…
هتف السفير فرحاً بالمفاجأة، مخاطباً الرئيس الحص: أتعرف يا دولة الرئيس انني كنت استاذاً لطلال… لقد علمته لمدة سنة..
سأل الرئيس الحص: وماذا علمته؟!
وعندما قال ستيتية، ببساطة: علمته اللغة الفرنسية..
عاجله الرئيس الحص: لعل هذا يفسر بلاغته باللغة العربية..
ضحكنا وانصرف السفير الذي انتصر على وظيفته وصمد الشاعر فيه، بل لعله أفاد من منصبه الذي أتاح له ان يعرف أنحاء مختلفة من العالم، وان يلتقي كثيرا من الأدباء بعامة والشعراء خاصة، وأن يقرأ مكتبات غنية، ليغدو واحداً من كبار شعرائنا بالفرنسية، تكرمه الهيئات الثقافية بجوائزها القيمة تقديراً لإبداعه المميز الذي تدفق وما زال يتدفق نهراً من الرؤى والموسيقى واللوحات المبهجة، وان خالطته أحيانا التماعات فلسفية تعبر عن موقفه من الحياة وأبناء الحياة.
الآن يمكنني أن أنفخ صدري معتزاً بأنني قد تتلمذت قليلاً قليلاً، ولمدة شهور لا تزيد على تسعة، في الكلية العاملية في بيروت، على يدي هذا الشاعر المبدع، فصار بإمكاني أن أقرأ شعره وأن أفهمه.. ولو قليلاً قليلاً.
سيمضي زمن قبل أن نلتقي مرة ثانية… لكن مفاجأة مبهجة ستحمل إليّ بعض شعر صلاح ستيتية مترجماً إلى العربية بعناية مروان فارس، وقد أضاف إلى النص بعض روحه فزاده جمالاً.
ولسوف يمضي زمن آخر قبل ان تأتيني مفاجأة مبهجة جديدة حين أتلقى اتصالاً من د. عاصم ستيتية الذي بادرني بقوله: قبل ان تسألني سأعترف بأنني شقيق السفير الشاعر صلاح ستيتية، وأن كلينا ابن شاعر أظن أنك لم تسمع به ولم تعرف عنه شيئا! هل لي ببعض من وقتك لأطلعك على بعض الخواطر التي كتبت؟!
… وجاءني عاصم ستيتية يحمل، إضافة إلى خواطره الطريفة، هدية ثمينة جداً: ديوان شعر لأبيه محمود ستيتية، حققه وقدم له توفيق أحمد شهاب، أما الإهداء فإلى «زوجتي رئيفة ـ في ملتقى الشعر والموت».
جلست إلى عاصم فإذا هو يفوق صلاح ظرفاً وان أعترف بأن أخاه يفوقه نبوغاً، ولكنهما رضعا الأدب والثقافة في بيتهما، وأخذا اللغة عن أبيهما الشاعر الراحل، خصوصاً ان البيت قد تحول إلى منتدى أدبي، وقد سمعا في جلساته الكثير من فنون الأدب، شعراً وقصة ورواية ولطائف.
«التهمت» الديوان خلال ساعات عشت معها في زمني محمود ستيتية وبيروت الأربعينيات وباروك الجبل في الثلاثينيات، حيث التقى محمود الشاعرين الكبيرين رشيد نخله وابنه أمين فغدوا أصدقاء عمر.
يروي توفيق شهاب نشأته و«زميله» محمود ستيتية منذ مرحلة الدراسة الأولى في مدرسة حوض الولاية التي كانت كبرى المدارس الرسمية والتي يعرفها من أدركوا العهد التركي بالمدرسة العسكرية: «ما زلت أذكره بأناقة أبناء البيوتات البيروتية العريقة.. نطقه المتأنق، القريب من الفصحى، وتلك المناقشات التي كانت تجري أحيانا بينه وبين المدير حسن فروخ شبيهه في القيافة وعم الدكتور عمر فروخ الذي كان يوقع قصائده ومقالاته بإمضاء طفيل الغنوي… أما «الحكم» فكان راشد عليوان الذي أخذ اللغة عن أحد أئمتها الشيخ مصطفى الغلايني».
ولقد رحل محمود ستيتية في العام 1952، وقبل ان يشهد نجاح «وريثه المرتجى متفرداً بلغة راسين، يغرس قدميه في تربة بلاده ويفتح جناحيه في فضاء العالم..».
يقول توفيق شهاب: إن أهم ينبوع ثقافي لمحمود كان «نهج البلاغة» و«كتاب الأغاني» ثم دواوين المتنبي وأبي العلاء والبحتري، ومن ثم شعراء النهضة شوقي وحافظ ابراهيم والرصافي والجواهري وابو شبكة وايليا ابو ماضي وخليل مطران:
«وقرابة الآداب تقصر دونها
عند الأديب قرابة الأرحام»
سأختار، عشوائياً، نتفاً من الديوان في مواضيع عدة لا تزال محل اهتمامنا حتى اليوم. فقد رد على من يتعرض لعملية التعليم بسوء قائلاً وكأنه يتحدث عن حكامنا الحاليين:
«مهلا رجال الحكم في لبنان قد
أسرفتم في الجور والطغيان
«ما هكذا تحيا البلاد وانما
إحياؤها بمعاهد العرفان
«أقفلتموها والصغار تشتت
في الخافقين ونمتم بأمان؟!»
ثم فرضت قضية فلسطين نفسها، عشية احتلال الاسرائيليين لأهلها بالقوة، فانبرى محمود ستيتية يدعو إلى الثورة، وإلى الوحدة، ونبذ التعصب والتفرقة: يا شرق لبيك ولبيك فلسطين.. ثم يستدرك منبهاً:
«ما للتعصب بيننا لا يذهب
واهاً لهذا الشرق كم يتعذب
«ما دام جهل في البرية سائداً
إن الجهالة للتعصب تُنسب»
ويندفع إلى التحريض بنبرة تنضح باليأس:
«واهاً لأهل الشرق كيف أراهمو
أمماً على فعل الشقا تتقدم
«واهاً لأهل الشرق كيف تقسّموا
بين الاله ودينه لا يقسم
«إن الرقي بعصرنا لا يرتجى
إلا اذا كان الوفاق هو الدم»
ويشهد الديوان بأن محمود ستيتية قد نظم في الاجتماعيات واللغة، وعن الموظف واليتيم والأم، والعلم والتعليم والمدرسة ومعاهد العرفان، وعن تعليم البنات، الاستقلال، السياسة، الدين، ثم الغزليات مع تناول للثغر والشفاه والعيون والنهود:
«صبي رضابك في فمي
تجري الكهارب في دمي
«ما الثغر الا سكّر
إن لم تصدق أُقسم»
أما في الشفاه فقال:
«ما في الحياة ملذة
كفم تلاصق فوق فم
ما الكهرباء وسرّها
بأشد هولاً في الجسم
من قبلة تعنو لو انها منظمة الأمم..»
وفي النهود قال:
«أنهد ما أرى أم ذاك ورد
يحف به من الآمال برد»
على أن أخطر الغزليات قالها محمود ستيتية في زوجته… وهو كان يرددها في ليالي السمر التي كان يتلاقى خلالها في بيته دوريا بولس سلامه وبشاره الخوري الأخطل الصغير، واحمد الصافي النجفي وحليم دموس في ما يشبه المنتدى الثقافي.. فلما أعجز المرض بولس سلامه كان يذهب إليه ليقرأ عليه النتاج الجديد.
[[[
لقد ازددت غنى بمعرفة آل ستيتية: الأب المعلم الشاعر والمحرض على الحب، ثم عاصم، الفنان في مجاله، كما في طرافة حديثه، وصلاح الشاعر المبدع الذي حملنا إلى العالم الذي ما زالت لديه القدرة على تذوق الجمال، بينما نغرق نحن في وحول الفتنة وتتهددنا الحرب الأهلية دائماً..
وأكاد أحسد الشاعر محمود ستيتية لأنه رحل قبل ان تتكامل دائرة الكوارث الوطنية والقومية من حولنا بعدما أضعنا فلسطين فأضعنا معها حاضرنا ثم أضاعتنا الخلافات عن مستقبلنا:
«يا شرق هاج فؤادي
ولن أطيق اصطباراً
«بالأمس كنت عماراً
واليوم صرت دمارا»
كاد الشعراء ان يكونوا أنبياء.
أمين الباشا يرسم عشقه بيروت بماء عينيه

لسبب خارج عن إرادتي لم تسعدني أيامي بصداقة الفنان المبدع أمين الباشا، وان كنت قد عرفت فصادقت معظم أبناء الجيل الثاني من المبدعين رسماً ونحتاً: حسين ماضي، حسن الجوني، موسى طيبا، حسين بدر الدين، مصطفى حيدر، محمد قدوره وغيرهم من رواد الجيل الثالث والرابع الذين درسوا ثم تخرّجوا من الاكاديمية اللبنانية التي أنشأها وأدارها الرائد الراحل ألكسي بطرس، والذين كانوا يتلاقون فيلتفون من حول «قائدهم» منير عيدو.
كنت أتابع نتاجه باهتمام وأفرح بمائياته التي تنشر الفرح وتعيد صياغة الطبيعة بالذوق ورهافة الاحساس، بقدر ما كنت أتابع باهتمام الصديق وشغف المتذوق نهر الموسيقى المتدفق المسمى توفيق الباشا.
قبل أيام تلقيت واحدة من أثمن الهدايا وأعظمها أناقة: «ديوان» بيروت بريشة الشاعر أمين الباشا ورقة أحاسيسه وشغفه بالجمال.
أسعدني، بداية، ان تهتم مؤسسة وطنية مثل مصرف لبنان بالإبداع الفني وان ترعاه، لان أمين الباشا ـ الذي نظم بمشاعره اللوحات الساحرة ـ ما كان ليقدر على إصدار مثل هذا الديوان الفخم الذي يضم معظم نتاجه من مائيات ورسوم في الفترة الممتدة بين بداياته في العام 1953 ويومنا هذا… وهكذا قدر له ان يشهد بعض أجمل إبداعات عمره الفني في مجلد أنيق الطباعة، زاهي الألوان، حتى لكأنه اغلى من ان يباع بثمن معلن.
قلب الديوان ومتنه بيروت: بناسها وأسواقها، بيوتها وسطوح البيوت وبحرها، بشوارعها وساحاتها ومقاهيها، بالشرفات وأصص الورد، وان ظل بين المواقع الأثيرة الى نفسه مقهى الروضة الذي طالما أنبت قصص الحب ورعى الأطفال وهم يلعبون ليتركوا لأهلهم والأصدقاء فرصة الحوار وتبادل الأخبار والتشنيعات عن الآخرين، والذي وسع للأدباء والشعراء والصحافيين الفرصة والمكان الحميم للكتابة واطلاق الشعر مطعّماً بالأريج ورذاذ البحر وتكسر اشعة الشمس على امواجه التي تتماوج صفحتها بعض أبنية بيروت وحكاياتها.
بيروت عالم من السحر والشعر، من الرغبة والشوق. في لحظات هي امرأة مشتهاة تمتد بجسدها بامتداد الشاطئ، تداعبها الأمواج وتتسابق الى غسل أقدامها… وهي ملخص للكون جميعاً بشعوبه المتعددة، بقدر ما هي مركز من مراكز السياسات العربية والدولية، تزدحم شوارعها وشققها المفروشة بالصحافيين والدبلوماسيين والكتاب والعاهرات، الباحثين عن اللذة كما بالجواسيس والباحثين عن الأخبار والأسرار في هذا العالم العربي الذي اتخذ منها العاصمة الإعلامية المذهبة.
يكاد الديوان ان يكون ذاكرة مبهجة لبيروت التي التهمها رأس المال وطرد منها اهلها الذين كان لهم البحر يعطي الأطفال زرقة العيون ويعطي العيون المدى.. والمواعيد التي يحمي فيها الموج العشاق عن تلصص الفضوليين والغيارى والحساد الذين قد يتحولون الى وشاة، كما يعطيها صورة المرأة بوجوهها المتعددة غضباً وثورة ودعة واستكانة في أحضان عشاقها.
للأمكنة ملامح الناس، وعبر الشوارع تكاد تلفحنا أنفاسهم وهم يتجولون في الاسواق التي أضاعوها فضيعوا هوية مدينتنا وصارت شققاً في أبراج ترتفع فتحجب عنا البحر وهمسات الحب، بعدما ابتلعت البيوت الجميلة في عين المريسة ومينا الحصن، والصنايع والظريف وزقاق البلاط والبسطة فضلاً عن الاشرفية ومدرجاتها التي كانت تلاً من الخضرة ذات البهاء، بالشجر في الحدائق الصغيرة.
لقد أُفرغ قلب المدينة من ناسه، فغدت مدينة بلا قلب وان تزايدت على سطوحها أجهزة التنصت والرصد ولاقطات الهمس الحميم المبلل بعرق اللذة.
لقد رسم أمين الباشا بقلبه قبل عينيه، وبعشقه لمدينته قبل ريشته.
رسم بحب لكل من وما في المدينة: الأحياء، الحمرا والروشة وشارع فردان، قصر سرسق وحديقته، ساحة النجمة، شارع السادات، المقاهي(التي أبيدت) من الهورس شو الى المودكا الى الكافيه دي باري.. (حمى الله سيتي كافيه).. ورسم في المقاهي «الموجودين» فيها ممن كادوا يتآخون مع موجوداتها ، على حد تعبير منح الصلح.
أعطى أمين الباشا الأمكنة ملامح ناسها، فحفظ للطربوش مكانه، وأفسح للاعبي طاولة الزهر المجال… ثم انه رسمها في الأوقات جميعاً، صيفاً وشتاء، اول الصبح وقبيل الغروب، ورسم ناسها في بيوتهم وعلى شرفاتها وعلى السطوح، كما رسم السياح بفقرائهم والاغنياء الذين تفح منهم رائحة النفط، وتحجب وجوه بنات السلاطين مناديل سوداء مطرزة بالفضة.
رسم أبوابا تفتح على الجنة، ورسم أمهات يحكن كنزات لأطفالهن على الصنارة، رسم بيوت القرميد قبل ان تنقرض، ورسم عواطف الناس واشجانهم وارتعاشات النشوة بالموسيقى او بالتلاقي بعد افتراق..
رسم بأحمر كشفاه مضرجة بالقبلات، ورسم بأخضر يستعيد ربيعاً على وشك ان يمضي بعيداً، وبأصفر يستدعي الصيف فيستبقيه على أوراقه. رسم الرجال والنساء، رسم الأطفال يتقافزون خلف فراشات لا نراها، رسم الحياة ملخصة بملامح مدينة اميرة تقاوم صامدة، فإذا حاول العدو الإسرائيلي اجتياحها احترقت ولم ترفع الاعلام البيضاء.
كتب أمين الباشا بيروت بقصائده فإذا هي مهرجان للفرح، من غير ان ينسى انها المنتدى والصحيفة والكتاب وانها مدينة العرب الهاربين من ظلم الحكام وظلم الحجاب. ولذلك كانت الصحف في ايدي قرائها وعلى ملامح وجوههم بين ما انتبهت اليه ريشة امين الباشا فسجلتها ارتعاشات او سكونا مقلقا.
ورسم بأشعار محمود درويش ونزار قباني وبول شاوول، وكل الذين ألهمتهم قصائد جميلة فجعلوا منها مزهريات لبيروت.
وكتب بأقلام روبرت فيسك وفرج الله حايك ودومنيك اده الذين عاشوا عشاقا لبيروت فأعارهم فرشاته وبعض ألوانه فإذا هم يسافرون عبرها الى الأمنيات.
استحضر تاريخ كمال الصليبي بريشة ناديا التويني وفؤاد رفقة ثم رشقه بتحليل هشام شرابي فإذا بيروت مدينة المبدعين كتاباً وشعراء ومفكرين علموها لأجيال آتية. قالوا لهم: هذه مدينتكم تدخلونها فلا تتركونها ولا تترككم. ستكون عشقكم الأعظم وستكونون سطوراً في كتابها المفتوح لكل مبدع.
أما أهم لوحة في هذا الديوان فتتمثل في ما كتبته ماهيتا الباشا اورياتا: ريشة امين الباشا التي تستل ألوانها من قلب القلب.
مــن أقــوال نســمة
قــال لــي «نســمة» الــذي لــم تعــرف له مهــنة إلا الحــب:
ـ يقرأ حبيبك الشوق في عينيك، لكنه يستدرجك لأن تعلنه. فالحب أنانية مطلقة قد تتفجر فتدمر أهلها، إلا إذا استوعبها حب أكبر فتصبح الجنة.
لا تبالغ في إظهار حبك حتى لا تطرد من جنته.

Exit mobile version