طلال سلمان

هوامش

التوحـد فـي الحـزن… خـارج الوطـن؟
الحزن نبيل، يطهر الإنسان من أغراضه وأحقاده، من عصبيته وفئويته، يُنسيه، للحظات، ما يجعله «الآخر»، يعيده واحداً من مجموع، وتجرفه مشاعر الجمع فترفعه الى المشترك: الضعف أمام المقادير، الاحتياج الى التعاطف والتضامن. أن تشعر بوحدتك يجعلك في قلب القلق، والاجتماع مصدر للاطمئنان.
ها هم لبنانيو الطائرة المنكوبة قد تلاقوا في أحضان المصاب الجماعي. لم يكن بعضهم في موقع المدبر، والبعض الآخر في موقع الضحية. لم يكن بعضهم في موقع المنتقم، والبعض الآخر في موقع الجاني الذي يستحق العقاب. انهم الآن شركاء في الحزن… والحزن يجمع، يُسقط الحواجز والتحفظات والريب والشكوك في الآخرين. ينبه الى التوحد في مواجهة المقادير.
ها هم في حومة الفقد واحد: الجنوبيون الذين «اكتشفوا» أفريقيا قبل قرن تقريباً، فوجدوا فيها «لبنانيين» قد سبقوهم حين تاهوا في عرض المحيط عن أميركا، بينما عرف آخرون منهم الطريق الى أميركا فلما وصلوها استقبلهم شماليون وجبليون وبقاعيون سافروا كرعايا للسلطنة، او المتصرفية، ثم صاروا او صُيّروا «لبنانيين» بينما «دولتهم» تفاضل بينهم قبل ان تقرر مَن منهم يصلح ان يكون «ناخبا»، ومن لا يجوز احتسابه حتى لا يختل ميزان التعادل الطوائفي.
الحزن شفاف… لذلك يتهاوى دونه التهييج السياسي.
الحزن نبيل… لذلك لا يحتمل التصنيف الطوائفي.
الحزن رقيق… لذلك تتكسّر عليه سيوف المذهبيات المموهة الأغراض.
الحزن سامٍ… لذلك تتصاغر امامه «المقامات»، رئاسية ونيابية ووزارية، وتتضاءل الوجاهات وتتقزم الثروات، ولا يبقى من مجال للتسامي إلا في صدق العاطفة والتنزه عن الغرض.
هل من الضروري ان يغرق لبنان في الحزن كي يتوحد أبناؤه؟
هل من الضروري ان تتوالى النكبات القدرية كي يستشعر اللبنانيون الحاجة الى دولة تتوحد بهم وفيهم، ويتوحدون بها ولها؟
على امتداد ثلث قرن او يزيد، ظل اللبنانيون يقتتلون ولا يشارك بعضهم «اخوته» في أحزانهم، بل كان كل فريق يُظهر شيئاً من الابتهاج الوحشي إذا ما تساقطت الضحايا لدى الفريق الآخر… ولم ينتبه الجميع الى أنهم إنما ينتحرون وينحرون وطنهم الصغير عبر مباراة التقتيل الجماعي التي يندفعون إليها بحمّى التعصب وعمى الكراهية للذات.
كيف يمكن ان يدعي حب الوطن، والإخلاص له، والاستعداد لافتدائه بحياته، من يندفع كالوحش لقتل أخيه ـ شريكه فيه، الذي من دونه لا تكون الأرض التي تحولت الى مقبرة جماعية، وطنا قابلاً للحياة؟
كيف يبقى وطن إذا كان كل طرف فيه يقتل بعضا منه، حتى لا يكون لأخيه الذي يندفــع الى قــتل البعض الآخر.
لا وطن حيث الشعب بعضه قاتل وبعضه مقتول، والعكس بالعكس.
الوطن ان يكون حياتنا: هو مصدرها، له وفيه نولد ونعيش، يحفظنا فنحفظه ونعيش به وله، ولا يكون إلا بنا وقد اجتمعنا فيه.
ولا وطن حيث لا دولة تحفظه. ولا دولة حيث الشعب رعايا طوائف، والطوائف إقطاعيات الزعماء، والزعماء لا يعيشون إلا عبر الصراع حتى الموت بين رعاياهم، فينفردون عندئذ بالدولة ويقسمونها قطعا وشرائح: لكل بحسب قدرته على حشد الضحايا.
طائرة الوطن ـ الدولة ـ الشعب ستظل مهددة بعواصف متتالية تلعب بها، رفعاً وخفضاً، وتدفعها دفعاً الى التفكك والسقوط والغرق في لجة الأمواج الهائجة، بل المهيّجة بفعل فاعل.
لعل قافلة الشهداء الهاربين من ضيق وطنهم بهم الى حيث يجدون الرزق مغمّساً بالدم، مع الكرامة، تكون لحظة الصحو. لعلنا معها نستطيع ان ننقذ من تبقى من أهل الوطن فيه (او خارجه) بالانتباه الى ان الدولة هي ضمانة الحياة مع الكرامة.

عن الخازني الذي استضاف بن بله والمهدية في القليعات
… وليست هذه السطور رثاء. انها تحية ود الى صديق غادرنا، اندفاعاً مع شهامته، بلا وداع.
[ [ [
قال، وهو يقتحم عليّ مكتبي تتقدمه ابتسامة عريضة: احمل إليك سلاماً من «مهدية»…
أدهشتني المفاجأة بينما تحولت ابتسامته الى قهقهة وهو يتأملني وقد غرقتُ في لجة التساؤلات: كيف عرفها هذا الخازني؟ وأين التقى الشيخ الكسرواني ابنة رئيس الاستقلال في جزائر الثورة، أحمد بن بله؟!
قال خليل الخازن: الأمر بسيط. كنت في لندن. ولقد دعاني صديق الى العشاء في منزله. هناك التقيتها، إذ انها صديقة ابنته. وحين عرفت أنني من لبنان بادرتني بالسؤال عنك: هل أعرفك حقاً، وما الذي يجمع بيننا؟ ولما اطمأنت روت لي كيف عرفتك وهي يافعة، حين كنت تزورهم في بيت اللجوء في جنيف.
بعد لحظات هتف خليل: لقد دعوتها، ولسوف تلبي الدعوة وتأتي الى لبنان، ربما مع والدها الرئيس، وربما قبله.
أيّ خازني هذا الخليل!
بعد شهرين او يزيد، هتف لي «الخال» الشيخ رشيد الخازن، قال: لك عندنا مفاجأة سارة. ننتظرك على العشاء، غداً، في القليعات.
في الطريق الى القليعات كنت استعيد مشهد ذلك الطابور من طلاب العلوم الاجتماعية الذين جاءوا من أقطار عربية عدة، ذات صيف، ونظمت لهم «السفير» جولة في أنحاء لبنان، كان من بينها محطة للعشاء في منزل «الشيخ رشيد» في القليعات. كان العدد في حدود المئة، ولقد أشعرتهم الحفاوة الخازينة بأنهم بين أهلهم، وإن أضفى مشهد أعلام دولهم المرفوعة من خلف المائدة، كأنهم في حفل تكريم رسمي.
ها هي القليعات دار ضيافة عربية مرة اخرى: الرئيس أحمد بن بله هو ضيف الشرف ومعه ابنته المهدية، وقد أحاط بهما الخازنيون والعديد من ضيوفهم من العامة، والجو بهيج، وشرط الدخول الى النادي ان تلتهم صحناً من «الغمّة» او صحنا من «الهريسة» او الصحنين معاً، قبل ان تلتفت الى سائر ما حفلت به المائدة العامرة.
كان خليل الخازن في غاية السعادة، خصوصاً وهو يرى أحمد به بله قد تحرر من الرسميات والبروتوكول، واندفع يشارك المدعوين في أحاديثهم كأنهم في بيته، ومهدية تدور وسط الجمع كفراشة وابتسامتها تشع حبورا.
[ [ [
لا يستأذنك خليل الخازن، بل هو يقرر انه صديقك، فيكون، ويقرر ان يهتم بكل ما يعنيك، متجاوزاً «الحدود السياسية» و«حروب المواقع» التي تفرض شيئاً من الغربة والتباعد المفروض بالخشية من «الآخر»، صديقا كان أو خصماً.
له آراؤه طبعا، وله موقفه السياسي، وله موقعه، لكنه لا يرى في ذلك كله سببا للقطيعة مع الآخر ـ المختلف، مؤمنا ـ بحق ـ بأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. وعلى هذا، كنا نتبادل الرأي، ثم نحمي صداقتنا بقبول كل منا وجهة نظر الآخر باعتبارها تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ.
أما حين يحتدم النقاش، فكان خليل الخازن ينزل الى الميدان بالسلاح الثقيل: نوادر نامي الخازن.
ونامي الخازن هو الصديق الأكبر لخليل، ومثله الأعلى، ومرجعه في مخالفاته وخروجه على السائد… بحيث انك، من قبل ان تعرفه، تستشعر له وداً عميقاً وإعجاباً مفتوحاً بحكمه الطريفة وأقواله التي تصلح قاعدة حياة لمن أراد ان تكون حياته نزهة، لكل مشكلة فيها حل، إما بالنسيان، وإما بإحالتها على غيره، وإما ببيع بعض الأملاك، وإما بالتنازل عن منصب، وإجمالاً بالابتعاد عن كل ما قد يثير إشكالاً او مشكلة، او تنافساً مع الآخرين، ولو بظلم الذات.
تدريجاً، صار نامي الخازن مرجعا لكثير من أصدقاء خليل، نتبادل طرائفه، ونعتمد حلوله السحرية التي لا يمكن ان يبتدعها إلا من كان مثله زَهِداً بالمواقع والشكليات والارتباطات التي قد تذهب بالحرية الشخصية، او تضيّق عليها.
كنا نتحلق من حول خليل نسأله ان يروي لنا الجديد من «حكم» نامي الذي لم يشر إليه مرة بصفة «الأب»، بل لطالما روى لنا فصولاً من «التنافس» بينهما، إذا ما تلاقيا لسوء في التنظيم في مكان واحد لم يألف أهله ان يستضيفوا الأب والابن معاً… كصديقين.
[ [ [
…وذات يوم، ضاقت الديموقراطية اللبنانية الفريدة في بابها بمحطة تلفزيون «ام تي في» التي كان خليل الخازن «الدينامو» ورجل العلاقات العامة الناجح التي قربها حتى ممن كان مالكوها يعتبرونهم خصوصاً.
عبر المواجهة مع قمع الرأي، تعزز موقع خليل الخازن حين أكد أهل الرأي في لبنان، والإعلاميون في الطليعة، وقوفهم صفاً واحداً في وجه الكيدية السياسية.
وأذكر انني ذهبت والصديق فؤاد شبقلو الى المحطة، ثم لحق بنا العديد من المناصرين والخصوم، ليتخذوا موقفاً موحداً انتصاراً لحرية الرأي وحق الاختلاف.
وعاش خليل الخازن لحظات من السعادة وهو يتأكد من ان التضامن في وجه القمع يتجاوز الاختلاف السياسي، خصوصاً ان أكثر من ذهبوا الى المحطة كانوا كمن يقوم بزيارة تحية وتقدير لمن عرفوا تلك الشاشة من خلاله، وليس من خلال الموقف الخاص لأصحابها ومموليها.
[ [ [
خليل الخازن قصد إثيوبيا في الطائرة المنكوبة لنجدة صديق.
لن أقوى على تعزية «نامي» و«مهدية»، ولا الرئيس الذي سجنته دولة الاستقلال أكثر مما سجنه الاستعمار الفرنسي: أحمد به بله.
سنقول انك في سفر طويل، وسنروي سيرتك كلما التقينا، ايها الذي عشت اقوى من الحروب الأهلية، ثم غيبك القدر… بلا قتال.
الرحمة لك ولكل رفاق تلك الرحلة التي فضحت نظام «المقهر»، فإذا هو طارد لأبنائه حتى أعماق البحور!

كلمات على دروب حنا يوسف الحلو
لكأن أمير الشعراء أحمد شوقي كان يقصد حنا يوسف الحلو وأمثاله ممن اعتبروا التعليم رسالة حين قال قصيدته المعروفة التي حفظناها صغاراً ورددناها كتميمة مع أولئك الذين منحوا أجيالاً نور عيونهم لكي يدخلوا إلى جنة المعرفة بالعلم: «كاد المعلم أن يكون رسولا..».
.. ومع أن حنا يوسف الحلو قد بلغ سن التقاعد وانطوى على قلمه يستكتبه تجربة عمره، فإن منهجه التعليمي يطبع كلماته بالحكمة، وربما لهذا يخصه «تلاميذه» الذين غدوا الآن كباراً بمواقعهم العملية بتقدير عال يتبدى في المخاطبة كما في الحديث عنه.
«كلمات على الدروب» عنوان الكتاب الرابع لحنا يوسف الحلو، وقد كتب مقدمته جان سالمه.. وقد ولد الكتاب عبر «صراع الجسم والعقل والوقت».. وقد ضمنه الرجل الذي أدار الثانوية الإنجيلية لسنوات عديدة، 61 فصلاً، هي أقرب إلى الوصايا أو الاستنتاجات التي تلخص تجربته، وبين عناوينها: دعاء، الله والإنسان، الله والوقت، الإنسان والله، المنطق والقوة والعقل، حوار مع الموت… ثم المحبة، والحب، فالحب والحرب، فالحب والموت، والأدب والصحافة… بغير أن يتجاوز «المرأة» أو ينساها، الصداقة والتاريخ وصولاً إلى تقاعد من يرفض أن يتقاعد.
من الحِكَم التي صاغ منها حنا يوسف الحلو كتابه:
«لا حراس في معارض الكتب لأن الكتاب غدا أرخص من السرقة.
عندما تصير الأنا أنت تفتح أمامها قلوب الناس.
«أطلق العصفور السجين صرخة يأس: متى تنهار جدران قفصي…
«أروع الرجال من حمل الحياة على منكبه مبدعاً كل يوم لونها جديداً.
أما عن الصحافة والصحافيين فكتب يقول:
«الصحافي الحر لا يستظل حالماً منتفعاً بل يمتشق الكلمة سيفاً في وجه مستبد فاجر جائر».
ثم: دم الصحافيين بذار يشق الأرض غرسات تتعملق حقاً ووعي شعوب… ولو خلا العالم من الصحافة والصحافيين لبكت الأقلام دماً وتفجعت الحرية في أقبية السجون ولتجسد العدل دمية يتقاذفها الظالمون».
لتكن لك الصحة يا من تستحق التبجيل.

مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أعجب ممن يخافون الحب فيهربون منه محولين حياتهم الى رماد.
أفضل ألف مرة ان احترق بالحب فأصير طائراً او فراشة او لحناً يتغنى به الذين سيعشقون بعدي، ويُقرئونني السلام وهم في ذروة الذوبان حباً.

Exit mobile version