طلال سلمان

هوامش

كتاب خطير بتوثيق بدر الحاج وأحمد أصفهاني: مخبر القنصلية
من زمان لم نقرأ كتاباً على هذا المستوى من الدقة يوثق ما كنا نستنتجه بالتقدير أو بالقرائن أو بالروايات المتواترة عن مراحل معينة من تاريخنا التي اعتمدت له ـ رسمياً ـ صياغة غير أمينة بحيث اختلط الصح بالغلط فإذا ذاكرتنا مثقوبة، وإذا بعض من نصّبتهم القوى الأجنبية حكاماً هم «أتباع» حتى لا نقول عملاء، وإذا للأحداث سياق آخر غير الذي تعلمناه في كتب المدارس.
الكتاب يحمل عنوان «مخبر القنصلية»… وهو عبارة عن عملية توثيق مضنية لحقبة حافلة بالأحداث عاشها لبنان، بوصفه امتداداً لولاية دمشق، قبل أن يشتعل بنار الفتنة المدبرة، بتخطيط دقيق، والتي انتهت بإجبار السلطنة العثمانية على الاعتراف بوضع خاص لجبل لبنان، ومن ثم استيلاد «المتصرفية» التي اتفقت الدول أن يكون «المتصرف» فيها مسيحياً من رعايا السلطنة، يعاونه «مجلس إدارة» مسيحي الطابع وإن ضم إليه بعض وجاهات المسلمين…
واضح أن الزميلين بدر الحاج وأحمد أصفهاني قد بذلا جهداً خارقاً، وأمضيا شهوراً طويلة يجمعان ويدققان في مركز الشرق الأوسط التابع لكلية سانت أنطوني، يعاونهما في مهمتهما الصعبة يوجين لوغان، المدير، وديبي اشر، مسؤولة الأرشيف، وكذلك بيتر بلانكيت أحد أحفاد ريتشارد وود (قنصل بريطانيا في دمشق في الحقبة التي يؤرخ لها الكتاب)…
و«الوثائق التي يضمها هذا الكتاب تنشر للمرة الأولى، وهي عبارة عن رسائل وتقارير كتبها يوحنا (ويعرف أيضاً باسم حنا) مسك (1808 ـ 1888) القواص في القنصلية البريطانية في دمشق إلى السير ريتشارد وود المعتمد البريطاني في دمشق بين 1841 ـ 1855»… وهي الفترة التي تمتد بين فتنتين وجدتا من يغذيهما في كل من جبل لبنان وسوريا، الأولى في 1840 والثانية في 1860، وقد أسهمتا معاً في استيلاد «المتصرفية» التي على أساسها ستقوم «دولة لبنان الكبير» بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1919)… كمقدمة لتقسيم «سوريا الطبيعية» بل المنطقة عموماً.
وقد برز في الفاصل بين الفتنتين بطل «عامية انطلياس»، طانيوس شاهين، في مواجهة الإقطاع الذي كان يمثله المشايخ الذين يحظون بدعم الكهنوت بزعامة البطريرك الماروني.
للتعريف بكاتب التقارير، التي تكاد تكون «الكتاب»، حنا مسك وبمتلقيها ممثل الإمبراطورية البريطانية ريتشارد وود يستشهد معدا الكتاب بما ذكره عيسى اسكندر المعلوف في كتابه «ديوان القطوف» من أن أصل عائلة «مسك» من اللاتين الصليبيين، وكانت تقطن بلدة رياق، في البقاع. والواقع أن يوحنا يشكل نموذجاً فذاً للمخبر بالإيجار استعمله البريطانيون ما يزيد على ثلاثين سنة لتزويدهم بالمعلومات حول ما يجري في لبنان بنواحيه المختلفة كما بمعظم أرجاء سوريا وإن كانت دمشق هي المركز لمزيد من الدقة نقتطع:
^^ من حنا مسك إلى ريتشارد وود
«كان يوحنا مسك قواصاً في القنصلية البريطانية في دمشق، يلتقي القنصل يومياً ويرافقه في رحلاته داخل سوريا. وعندما تلقى فرنسيس بورتن أمر عزله من منصبه في آب 1871، اثر خلافه مع يهود دمشق، غادر المدينة بسرعة ولحقت به زوجته اليزابيت إلى بيروت لوداعه. وأثناء عودتها إلى دمشق لترتيب أمور عودتها إلى بريطانيا التقت هذا الحنا. تقول: «ناديته، وبالطبع لم تكن لي أية وظيفة رسمية، فأدار رأسه ومر متجاهلاً..».
ولقد ساعد حنا في «مهمته» شقيقه فرنسيس الذي كان في خدمة الإنكليز أيضاً ولعب دوراً أهم من خلال دعم دور له في بلاط الأمير بشير القاسم (الثالث) الذي حل محل الأمير بشير الشهابي (الثاني)، إذ عينه الإنكليز سكرتيراً له مع أنه تاجر بيروتي يجهل الجبل وتاريخ الجبل وسياسته وتقاليده»، حسب ما يقول المؤرخ المعروف يوسف إبراهيم يزبك.
أما ريتشارد وود فهو من عائلة بريطانية عملت في الشرق منذ العام 1800 في خدمة «شركة المشرق».. ويحيط الغموض بمكان ولادته وبهوية والدته لوسي هل هي أوروبية أم مشرقية؟ ويذكر أحد أصدقائه في مرحلة تونس 1876 أن ريتشارد نصف أرمني ونصف يهودي وبعد أن أتقن الإيطالية والفرنسية واليونانية والتركية، عمل على خدمة المصالح البريطانية فأوفد إلى سوريا بهدف معلن هو دراسة اللغة العربية لمدة سنة. لكن السبب الحقيقي كان التجسس على نشاطات المصريين الذين احتلوا سوريا (حملة إبراهيم باشا)… وقد تلقى وود دروسه العربية في بلدة غزير ـ كسروان على يد الخوري ارسانيوس الفاخوري ـ اليهودي الأصل والذي اعتنق المسيحية على المذهب الماروني، وكان يتعامل باستمرار ويقدم خدماته للقناصل البريطانيين على رغم توجهات البطريركية المارونية الميالة للسياسة الفرنسية. وكان له دور في إثارة التمرد ضد إبراهيم باشا (ابن محمد علي باشا وقائد حملته على تركيا) وتلقى 15 ألف غرش ثمناً لأتعابه.
نكتفي هنا باقتطاف واقعة أوردها المعدان في سياق التعريف بوود هذا وبأصل المهمة:
«كانت حركات التمرد ضد الجيش المصري، بقيادة إبراهيم باشا، خلال حملته على السلطنة، موضع مراقبة دقيقة لدى وود الذي كان يتجول في سوريا بصورة سرية أحياناً بحيث زارها ثلاث مرات قبل العام 1840. وقد أشار في تقاريره منذ العام 1838 إلى أن لحظة اتخاذ القرار بإعلان الثورة قد أزفت. وكان من الواضح أن العائلات الإقطاعية التي لها عداوات قديمة مع الأمير بشير الشهابي باتت في مقدم القوى الجاهزة للثورة أمثال عائلات جنبلاط والعماد وأبو نكد. وكتب بونسونبي إلى بالمرستون قائلاً: «سوف أحرك الدروز ضد إبراهيم باشا عندما تختار».
في أواخر حزيران سنة 1840، أصدر بونسونبي أمراً إلى وود بالتوجه سراً إلى سوريا. وفي 3 تموز وصل الى مرفأ بيروت وبرفقته ضابط بحري عثماني هو طاهر بك. كانت الاشتباكات عنيفة فلم يستطع الاتصال بالقنصل الإنكليزي نيفن مور إلا في 22 تموز. وكان وود قد مُنح فرماناً من الباب العالي يعطيه صلاحيات «ترتيب وتسوية الشؤون العملية في سوريا». وكان يحمل آنذاك لقب نائب القنصل، لكن هذا اللقب تبدل في تشرين الثاني وأصبح وكيلاً للباب العالي ومرجعه الوحيد في اسطنبول بونسونبي والصدر الأعظم فقط. وبعد أيام من وصوله انتقل من بيروت إلى ذوق مكايل وتوجه للقاء البطريرك الماروني يوسف حبيش، فكانت النتيجة «ناجحة جداً».
ومع استمرار الاشتباكات، أقدمت البوارج الحربية البريطانية والنمسوية على قصف بيروت في أيلول، ثم قصفت صيدا وكان أول الفارين الوالي سليمان باشا. أعقبها نزول قوات عسكرية إلى جونية بصحبة وود الذي انتقل إلى غزير بحراسة 200 جندي عثماني و100 جندي من البحرية البريطانية. وفي اليوم التالي هبط آلاف المواطنين إلى جونية فجرى توزيع البنادق على الجميع، وبلغ عددها مع اندلاع الثورة أكثر من 84 ألف قطعة.
حمل وود الإنذار الأخير إلى الأمير بشير في 20 أيلول. وعندما رفض هذا التخلي عن تحالفه مع إبراهيم باشا، ملأ وود في 8 تشرين الأول فرماناً سلطانياً كان قد استلمه على بياض وعيّن الأمير بشير القاسم أميراً على الجبل، في حين كان الجيش المصري يكمل انسحابه من سوريا بعد هزيمته في معركة بحرصاف في منتصف آب».
^^ داوود باشا وطانيوس شاهين
تحت عنوان «حوادث» يكتب حنا مسك (وسنترك النص بلغته بكل أخطائها):
«الذي قدرنا نفهمه أن بواقي الجبل من سنين السابقة بالغة نحو سبعة وعشرون ألف كيس. فهذه الدولة سمحت بهم إلى (المتصرف) داوود باشا لأجل مصاريف فوق العادة…
«… الجمعة الماضية شنق داوود باشا 2 واحد نصراني قاتل نصراني والآخر درزي قاتل درزي وصار شنقهم في سبني (سبنيه)… ومن آكم يوم داوود باشا طلب ماية عسكري لعنده وعمال يستخدمهم في بعض المصالح.
«فهمنا سراً، قبلاً كان حصل ملاحظة عند داوود باشا من عدم حضور البطريرك الماروني (بولس مسعد) لعنده لأجل السلام عليه وبوقته لم حصل ذلك سيما أن البطريرك كان متكدر من داوود بعمله ضد يوسف بك كرم وإرساله للأستانة، كما أن داوود كان عنده البطريرك من أكبر الأحباب…
«ثم داوود باشا بأواخر جمعة الماضية حضر لجهة كسروان أولاً لابس طاقم عربي مصري. ثم بوصوله إلى نهر الكلب طلب طانيوس شاهين هذا الرجل الذي كان ريس الجمهورية ضد المشايخ، ثم نزلوا أهالي الذوق وجونية لاقوا سعادته لحد نهر الكلب جمهوراً بقواص البارود، فحضر إلى جونية وبات تلك الليلة وطلب طانيوس شاهين للعشي معه ولاطفه جداً، وكانوا حضروا البطريرك الماروني وبطريرك الأرمن لجونية لملاقاته وقد أخذ كل منهم نيشان رتبة أولى.
«… المسموع أن طانيوس شاهين يستخدم بجهة الذوق مع خلانه لأن هذا الرجل لم يزل عنده سطوة قوية عند العامة، كما فهمنا أن الأمير سليم (؟) الحاكم في غزير عندما أمر الأهالي يتوجهوا إلى الملاقاة فلم أخذ مفعوله هذا الأمر بل عندما طانيوس أرخص جميعهم أطاعوه..
أما المرة الرابعة فيأتي اسم «بطل عامية انطلياس» مشفوعاً بلقب «بك»: «داوود باشا من ثلاثة أيام رجع لبيروت وكل إقامته كانت في غزير ودير بيت خشبو الارمن وقد وعد الأهالي بالطرقات، وعمل طريق كاروساً من غزير إلى جونية وعمل مينت (ميناء) جونية وتلكراف من بيروت إلى غزير.. وأنه كان أرسل طلب أعضا مجلسه الموجود في بعبدا ليحضروا إلى جونية وهو ينزل لهناك، ثم بغضون ذلك الباين النية كانت على مسك جملة انفار ومن جملتهم طانيوس بك شاهين الذي أعرضنا أنه حصل على التفاتة كلية من سعادته، فالباين أن نيته فهموها وجميع من كانت عليهم النية انهزموا وأخفوا ذواتهم..».
^^^ انعامات السلطان وحماية النمسا!
هذه لمحات بسيطة من كتاب غني بالوقائع، خصوصاً أن مسرح نشاط كاتبه كان يمتد من بيروت إلى الجبل فإلى بلاد بعلبك (حيث كان وود قد تملك مزارع في أرض جنتا ومعربون إضافة إلى الزبداني)، ثم إلى دمشق، في فترة حفلت بالفتن المنظمة التي شارك فيها أطراف غربيون كثيرون، أبرزهم البريطانيون، والفرنسيون … ووصل الصوت إلى النمسا التي راسل البطريرك الماروني يوسف حبيش سفيرها في اسطنبول:
«قد انسنا بحضور جناب ولدنا العزيز السنيور أنطونيوس ستانيدل المتعلق بالجية دولتكم المعظمة وقرر لنا أنه مرسل إلينا على وجه الخصوص من طرفكم ليوضح لنا عن نفس دولتكم المعظمة ما تحركت به غيرة سلطان الأوستريا، سلطان الكنيسة المظفر لنمو صوالح طايفتنا هذه المارونية، وإنما اكليروسنا وشعبنا الماروني بوجه العموم، بمقتضى عوايدنا القديمة، حتى تستمدوها لنا من الباب العالي وتتخذونا نحن وطايفتنا هذه جميعها تحت حماية دولتكم المظفرة..».
في الوقت ذاته تقريباً يوجه «رعايا جبل لبنان عرضحال لعتاب دستورانية سعادة صدر أعظم الدولة العلية أيد الله تعالى سمو عظمته» وقد جاء فيه:
«أنه لا يمكننا أن نصف ما قد شملنا من السرور، نحن عبيد دولتكم رعايا جبل لبنان، وذلك عندما بسطوتكم المقتدرة وبأسكم الشديد وباهر حكمتكم السمية قد ظفرنا بعساكر الدولة المصرية وهزمناها من أرضنا وتخلصنا من استرقاق والي مصر ومن جوره الغير محتملين وفزنا بالدخول تحت لواء حضرة الدولة العلية صانها ونصرها باري البرية وما برحنا من المواظبة على الدعا لحضرة مولانا السلطان ظل الله الظليل الممدود على العالمين عبد المجيد خان نصره العزيز الرحمن وأبد سرير سلطنة دولته الزاهرة إلى انقضاء الدوران..».
بالمقابل كان «البطريرك الأنطاكي الماروني ومطارنته وأساقفته واكليروسه وشعبه الماروني ولخلفايهم من بعدهم يتوجهون إلى حضرة مولانا السلطان عبد المجيد بطلب انعامات تضمن نوعاً من الامتيازات وقدراً من الاستقلالية في التعامل مع رعايا ابرشياتهم، مع التنويه بأن الحاكم دايما على جبل لبنان وانطيلبنان (أي الداخل اللبناني حسب المعتاد القديم) لا يكون إلا مارونياً من العائلة الشريفة الشهابية».
[ [ [
يصعب تلخيص هذا الكتاب الخطير في عجالة، بل لا بد من قراءته بتمهل وبمحاولة للربط بين الوقائع الواردة فيه وبين النتائج كما نقرأها في الفورات والانتفاضات ومشاريع الحرب الأهلية التي تجد من يفجرها ويفجر بها لبنان، بين الحين والآخر.
إن هذا المخبر حنا مسك لخطير حقاً… فهو كان يتابع كل شيء عن كل الأطراف، بدقة ملحوظة، ويكتب التفاصيل جميعاً تاركاً «لسيده» أن يستنتج ولقيادة «سيده» أن تقرر… أما اللبنانيون فهم «أدوات» أو «حجارة شطرنج» في لعبة تتخطاهم إلى المنطقة جميعاً. وإلى مصير السلطنة العثمانية تحديداً، ومعها بل قبلها طموحات محمد علي في مصر الذي وجد من يحرضه ويشجعه على السلطان حتى إذا توغل في مغامرته ضرب فهزم، وأبقيت السلطنة في وضع الرجل المريض حتى جاء أوان إسقاطها وتقسيم ممتلكاتها ـ ونحن ضمنها ـ بين الحلفاء مع حصة مميزة للبريطانيين.
ويبقى أن ننوه، مرة أخرى، بالزميلين بدر الحاج وأحمد أصفهاني، وما بذلاه من الجهد والدأب والدقة والرجوع إلى ما يثبت الوقائع أو يفسرها، لإنتاج هذا الكتاب الخطير الذي يفسر الكثير من غوامض تاريخنا الذي يتبدى وكأنه مسلسل من الحروب الأهلية، طالما أبقينا مصيرنا في أيدي القناصل استعان بهم بعضنا ضد البعض الآخر ولا انتصار…
وليت هذا الكتاب يلحظ في كتابة تاريخنا الرسمي الذي نختلف عليه إلى حد أن كل فئة من اللبنانيين تقرأ في كتاب ما يسفه المثبت في كتاب آخر.

مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا تطارد حبيبك بالعتاب. أحبه أكثر. وانتظر عودته متلهفاً ليعطيك ما يعوّض الغياب. لا تخف على الحب أن ينقص. متى وُلد الحب عاش فيك وعاش معك وعشت به.

Exit mobile version