رفيق خوري يبرق شعراً في ظلام الزمان
عرفت، قبل ألف عام، شاعراً بهذا الاسم: رفيق خوري..
ولقد زاملني وزاملته، فأخذ عني الصحافة، وأعجزني أن آخذ عنه الشعر، فاكتفيت بموقع بين الغاوين، أجتهد في تذوق الموسيقى وفي الطرب لخفق أجنحة الفراشات والنشوة التي نشارك فيها المحبين، ولو عن بعد.
كان العمل يستغرقنا طوال النهار وبعض الليل، فاتخذنا من آخر الليل ملجأ للتنفس وإطلاق الزفرات آهات إعجاب بمن يهزنا الحنين في صوته الجميل في ذلك المسرح الشعبي البديع، الذي كان علامة مضيئة في قلب بيروت: مسرح فاروق، في ساحة البرج. رحم الله بيروت وقلبها. وكنت ألح عليه أن يبقى في الشعر، لكنه تذرع بالخبز وهو ينتقل بين أبواب الصحافة من «خبز المطابع» إلى مستنقع المحليات السياسية حتى وصل إلى رئاسة التحرير بعموده اليومي الذي يعكس من ثقافته السياسية أكثر مما يعكس من إعجابه بالسياسيين.
افترقنا لأسباب عملية، ثم عدنا فالتقينا، لنفترق من جديد فأغرق في «السفير» مع أعباء إدارية لم أكن مهيأً للنجاح فيها، ويذهب رفيق خوري إلى القراءة في الشخصيات السياسية، وغالبها أمي، وفي السياسة الدولية وفيها من المعارف فوق ما يطلب.
صار يهرب مني ومن مطالباتي المستمرة بأن يعود إلى الشعر لكي يبقى في وجدان الناس، وكان يختلق ألف عذر وعذر… لا سيما بعدما أغلقت الحرب ديوان الشعر الرحباني المفتوح في فوار انطلياس، وسيطرت موسيقى القذائف والعبوات الناسفة واعتكفت سيدتنا فيروز، بعدما غادرنا عاصي، واحتل المسرح الجيل الذي يحاول تجاوز الإرث بمزيج من الموضوع والمنحول حتى فقدان الهوية.
مؤخراً، فاجأني رفيق خوري بديوانه الجديد «برق الزمان»… فأسعدني «انتصاري» على كسله واستعادته الى دنياه التي جاء منها وفي قمره صورة لمشتى الحلو ونضالاته الاولى من أجل انتصار الطبقة العاملة وسيادتها على الكون جميعاً:
«لم يبق إلا القليل من الندم/صخب الجنون نسيته/ والدرب قدامي يشير إلى العدم/ لغة القبائل لست أعرفها/ وما كان الوطن غمرته صحراء الطوائف/ فالملوك زواحف والناس أرقام وغابات الصنوبر تستجير من المحن».
لا أعرف: هل الندم على مغادرة الشعر بعد ديوانيه «الزئبق والدم ـ 1959» و«غابة الحجارة 1963»، أم على تأخره في إهداء «سيدتي التي كانت البرق في ظلام الزمان» قصائده الجديدة.
الديوان يوميات أسفار بين رصيف باريس وليل الفلامنك في مدريد وقمر البوسفور وليلة بيتهوفن في بودابست، وأيام فيينا، ومفكرة جزيرة يونانية، ومملكة الخائفين… ثم تأتي الاعترافات: في حديقة العشاق:
«انا من بقية ذلك الولد الشقي وأنت ما نسيته
تلك البنت تكتم سرها عن قلبها وتروح من فرح تطير»
ثم في «وجه التعب»:
«تعبت من ذاكرتي/ تعبت من عينيّ تركضان في لحمي الممحو بالدخان
المتعبون سافروا/ وتعبي يلعب بي/ يهدد البحر بأن تشربه الحيتان
من أول التاريخ جئت راكضا، من آخر الزمان/ رأيت ذاك الطفل في النهر/ رأيت الليل في الفنجان/ رأيت أمي تأكل الطيور ثدييها/ رأيت القتيل يخرج من ضريحه يكسر الشاهد والتاريخ/ يأكل بالملعقة الطريق، ويطفئ الحريق».
يهزه الوجد أحيانا فيستعيد لغته الأولى مطعمة بمرارة التجربة:
«ألم أر من قبل ما رأيت؟ جنية ترقص مثل غابة تضربها الرياح؟
بلى، رأيت ما رأيت، لكنه الجنون، عاد إلي بعدما قتلته من قبل أن يقتلني!».
رفيق يدرك أنه إن قتل الجنون انتهى قتيلاً لكنه مصرّ على أن يندب نفسه:
«لم يبق إلا القليل من الندم/ ليس إلا بقايا من زمان الأمنيات.
ما لم يكن لن يكون/ هذا مكان يدور/ هذا زمان يدور
يقول الحكيم جننت/ يقول المغني مللت/ يقول المحب تعبت
تعب الوقت من الوقت/ أترك آخر العمر حليف الوهم/ والوهم هو العمر ـ المحال».
يقول العقل: إياك والغرق في السياسات المحلية حيث يتزاوج الأنبياء الكذبة والدجالون ونهازو الفرص وزعماء المصادفات وتجار الكلام… من غرق اغتال قلمه ولغته. عليك أن تغسل قلمك بدمك ليبقى نظيفا وقادرا على قول الحق، ولا تسأل «أين الطريق إلى الطريق».
لماذا، اذاً، تقطع طرف الحلم:
«زارني البرق/ كان جناحاه خوفا/ وكانت طيور الخريف تستجير من النار تحت البروق/ وتهرب فوق الحريق/ سقط الجسر/ ما أبعد الدرب/ أين الجهات/ آه لو يعرف الخائفون كيف تبكي أمام السراب/ طفلة في يديها الينابيع/ في مقلتيها بحار الحنين».
حتى في رحلات السياحة والمتعة والترفيه عن النفس، حتى أمام حدائق الموسيقى والمنحوتات والنساء اللواتي يتعرين للمارة وليس للفنانين، تسيطر أحزان الشاعر المتقاعد على لغته فتلوي عنقها حتى لا تغني… ففي «مفكرة جزيرة يونانية»:
«وقعت تحت اسمي/ سمعت الصوت منكسراً خلف بريق الموت
ختيرت الرعية/ تكلس الراعي على كرسيه. هاجرت البرية. ختيرت الأسماء ولم تعد تعرف ظل وجهها الأشياء. من يعرف الوقت الذي لا وقت له. من يعرف الوقت الذي يسير فوق الماء».
وفي ليل الفلامنك في مدريد يقول «العجوز» متحسراً:
«ما كنت ميتاً كي أقوم/ ما كنت حياً خائفاً كي أحتمي من كل أشباح الهموم
فأنا بقايا عاشق يحيا على وهج الحنين لأميرة لا تغلق المرآة حين تنام خوفاً من تجاعيد السنين».
وعند «رصيف باريس» يرحل الولد ـ الشيخ بعيداً:
«كان لي وهم بيت في أزقة باريس/ حيث الحجارة فضاء والمصابيح ذاكرة لجنون الماء والنساء نساء، والكراسي مواعيد قبل الرحيل بكل اللغات إلى ما وراء اللغات هنا أنا الولد ـ الشيخ/ لا اللعب يغريه/ لا الحب يغويه/ لا الذكريات ترمم فيه الحنان.
هرب العمر/ لم يبق لي في كتاب الزمان/ غير مطر المكان
ليس لي في بياض المكان/ غير برق الزمان».
اذهب إلى الشيخوخة وحدك، يا رفيق خوري… شعرك هو شبابك وأنت تصر على هجره، أطلق شعرك تستعد شبابك، أليس الشعر نبض القلب ومتعة الأذن وبهجة الروح لأنه يخاطب أمثال سيدتك التي كانت البرق في ظلام الزمان.
ها هو الزمان. ها هو البرق.. ها هن اللواتي سيصبحن سيداتك لو كنت حاضراً، فأين أنت، والشاعر فيك يرفض أن يموت؟ هيا تنفس ملء رئتيك وانس أصحاب الألقاب وعد إلى قلمك ومن سيغدون سيداتك أو سيدات غيرك لأنهن سيدات المكان والزمان.
بهاء طاهر يستعيد رفاعة ومحمد عبده.. في الغد
قرأت، قبل حين، بعضاً من نتاج بهاء طاهر، فقررت أنه صديقي… وهكذا تصرف كلانا حين جمعتنا حضرة الصديق ابراهيم المعلم الذي تضيف داره «الشروق» الى الكتاب ما يجذبك اليه، سواء أكان رواية أو تأريخا أو دراسة، ببريق العمل الفني الممتاز، فتسعد باقتنائه، وتباشر قراءته وأنت تحت تأثير سحر حلمي التوني، مثلاً، أو بعض القلة من أقرانه أو بعض الكثرة من تلامذته.
وسمعت بهاء طاهر يشرح لزوجته التي اكتشفته في الغربة فأحبته وأحبها باللغة المشتركة التي ابتدعها، فاستمتعت بسماع الفرنسية بلهجة أبناء الصعيد الجواني.. وبغير أن أقصد عادت إلى ذاكرتي صورة ذلك المغني العجوز من حراس معبد الملوك في الكرنك، كان يناديه أصدقاؤنا بهجت ونسيم وناجي وعنايات باسم «حسن أبو ليلى». ولقد جمعتنا ليلة حظ غنى فيها «العم حسن» ألحاناً شجية لغزل برقة شعر «المجنون» وإباحية «أبي نواس»، قبل أن يفاجئنا بأهزوجة لعله سبك كلماتها وهو في الطريق بين دياره في النوبة، حيث مقام السد العالي، والقاهرة، يعتبر فيها ذلك الإنجاز العظيم انتصاراً بالتحدي: «على راسك يا اسرائيل». كانت مواويله تشابه بكلماتها والنغم، وتكاد تتطابق لحناً ومعنى مع شروقيات وفراقيات أبي وأعمامي في بلاد بعلبك: يحلق بك الشجن في سماوات الحزن وأنت تهتز طرباً.
بهاء طاهر كروائي ليس صياد جوائز، مع ذلك تكاد كل من رواياته الست تتوج واحدة من الجوائز، وبين الأهم: خالتي صفية والدير، الحب في المنفى، وواحة الغروب..
أما كتابه القديم ـ المجدد «أبناء رفاعة ـ الثقافة والحرية» فعبارة عن مجموعة من الدراسات التي تستهدف إعادة الاعتبار الى بعض بناة النهضة العربية الحديثة في مصر والمحيط العربي، من الكتاب والدعاة الرواد. وهو قد قسم كتابه بما يؤكد هذا المعنى. فالقسم الأول: النظرات ـ أما القسم الثاني فيحمل عنوان: العبرات. وهو يهتم بأن يقدم لقارئه خريطة لخط صعود الدولة المدنية وانحسارها، وخطى التقدم التاريخي لخروج مجتمعنا من ظلام العصور الوسطى الى أنوار الحداثة والحرية.
إنه يحاول تقديم كشف حساب بما أعطاه المثقفون لمصر.. وعناوين الفصول دالته: النور يأتي من طهطا ـ عن ريادة رفاعة الطهطاوي ـ ضد التغريب وضد التتريك ـ نحن والغرب في أدب طه حسين ـ يوسف ادريس: واليك ما لم أقله ـ يحيى حقي: عيد الميلاد الأخير ـ توفيق الحكيم: ألغاز شهرزاد ـ يحيى الطاهر عبد الله: الكاتب، الكلمة، الموقف.
وباختصار فإن الجزء الأول هو دليل قراءة إلى صعود الدولة المدنية وانحسارها ـ خطى التقدم التدريجي من ظلام العصور الوسطى الى أنور الحداثة… في حين تعرض الفصول الأخيرة خطى التراجع التدريجي والمنظم لمشروع النهضة، لينتهي بالحديث عن ترنح الدولة المدنية تحت وطأة الضربات المتلاحقة لدعاة الدولة الدينية وأنصارها.
ونقتطف هنا عبارة بليغة للإمام محمد عبده يحدد فيها إنجاز جيله من المثقفين أيام الثورة العرابية. يقول:
«كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها وهي لم يخطر لها هذا الخاطر على بال مدة تزيد على عشرين قرنا… دعونا الى الاعتقاد بأن الحاكم هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وانه لا يرده عن خطئه ولا يقف أمام طغيان شهواته إلا نصح الأمة له بالقول والفعل. جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه ويد الظالم من حديد والناس كلهم عبيد له، أي عبيد».
… بهاء طاهر واحد من قلة من الدعاة الذين يحاولون استكمال ما بدأه الأسلاف الصادقون المبشرون بقدرتنا على صنع حياتنا بأيدينا.
أنور ضو: لا عليك، ارتكب الشعر!
نجح أنور عقل ضو في أن يخفي الشاعر فيه عن زملائه في «السفير» التي انتمى اليها بموقفه السياسي قبل جهده المهني وأمانته الأخلاقية، منذ دهور.
كنت أتابع نشاطه ونتاجه مقدراً إخلاصه وحركته اليومية التي وسعت نطاقها الجغرافي الحرب الأهلية، على امتداد سنوات، فجعلتها تمتد من مشارف الساحل في الشحار الغربي إلى أعمق أودية المتن الجنوبي في نقطة اتصاله بالمتن الشمالي فإلى مطل البقاع من فوق قمة جبل الكنيسة عند ترشيش، وإن ظلت عاليه المنطلق والمركز.
وها هو ديوانه «ترانيم على وقع الخيبة… والأمل» يكشف لي الوجه الآخر لأنور سواء عبر لغته المخبوءة فيها الرقة معززة بالموقف السياسي القاطع في وضوحه، أو عبر وجدانياته المصفاة، فضلاً عن قدر من السخرية كثيرا ما قرأته في عينيه ونحن نستذكر بعض الظواهر السياسية النافرة، محلياً وعربياً.
في افتتاحية الديوان رسالة إلى جورج حاوي شهيداً:
«لا أعرف من أين أبدأ أو كيف أخط الأسطر الأولى لأدخل عالمك/ لأقارب المارد فيك/ لا صوت يداني أصداء حلمك/ والمدى اقتراب لوهج لقياك ألا فاسفك دمك فوق روابي السماء. وانثر حنينك علينا لعلك تعود/ من عتم الظنون/ لأنا قتلناك/ وأرّخنا نور الشهادة بعار جهلنا..»
أما رسالته الى مروان البرغوثي فمختصرة جداً:
«أما بعد، لا شيء إلا الوعد..»
أما سمير القنطار فكل يوم يولد من عتب ونار: نقر الآن أنا لا نستأهل واحات عينيك في صحرائنا القاحلة..
.. ولكن بعد وصول رسالته أدركنا أن وجودنا يقين اللحظة.. ولسنا على قارعة الهزيمة ولان أنور عقل ضو ماركسي مؤمن، على طريقة ابن عربي، فهو يجاهر بموقفه:
«أعلن انتمائي لعتم الأزقة/ لوجع السواقي/ الطيور البحار المورقة/
وسمائي ملبدة/ بنعاس سرمدي/.. أعلن انتمائي لوجعي/ فالسماء لي، والارض لي، وأنا.. أنا/ضمير الغائبين/ ضمير الحاضرين وخاصرة التمني».
أكاد أردد مع أنور ضو بعض كلامه: «سلام على يد من نار، سلام على طهر القداسة/ ينقض دنس الجريمة/ سلام على كحل الحقيقة/ سلام على راية الله تعلو فوق سماء الفقراء وهم يذودون عن شرف المتخمين».
ايها المناضل ضد اليأس، بل عليك ان ترتكب الشعر وألا تفارق الكتابة، فغيرك يرتكب أكثر وأفظع ليحرمنا الشعر.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا يعيش الحب كطائر خرافي معلق في الهواء. انه، في لحظات، طفل يحتاج رعاية، وفي لحظات أم حاضنة، وأحيانا يصير أباً ناصحاً، ولكنه دائماً «فيك»، يكون «بك»، ولا يقبل تفويض الغير.
الحب أن تعيشه لا أن تتفلسف به وعليه.