طلال سلمان

هوامش

ما بعد المعرض: الاغتراب عن الوطن وحفظ الهوية في المنفى
أطفئت أضواء العيد في آخر أيام المعرض الثالث والخمسين للكتاب العربي والدولي في بيروت، الذي ينظمه سنوياً النادي الثقافي العربي، ويشارك في ندواته عدد مختار من المفكرين والكتاب والشعراء العرب، وفيهم روائيون وقصاصون وبحاثة وعلماء يتابعون مكتشفات العصر فيشرحون ويحللون وقد يضيفون.
وكالعادة، جرى الحبر غزيراً في التقويم وإعطاء «درجات» النجاح والتميز عبر مناقشة نتائج المبيعات، أو مدى الإقبال الجماهيري، فضلاً عن مستوى الندوات التي عقدت والمحاضرات التي ألقيت وما أثارته من جدل فكري أو اهتمام جماهيري.
البعض نظر إلى المعرض وكأنه بداية البدايات، وبعض آخر حاكمه وكأنه الدليل القاطع على حيوية الحركة الثقافية في حين اندفع آخرون الى نعي الثقافة عبر الاشارة إلى تناقص حركة البيع أو إلى تركزها على كتب التراث أو الفقه أو النتاج الذي يتخذ من الدين موضوعه الأثير، مع إشارات إلى التنامي المطرد في الكتابات عن الجنس، أو الموقع الممتاز الذي تحتله دائماً كتب الأبراج والتنجيم والطبخ والتكنولوجيا الخ.
ومع أن المعرض حدث ثقافي ممتاز إلا انه ليس أكثر من فرصة للتأمل في أحوال الثقافة والمثقفين العرب كجزء من اللوحة الشاملة للأوضاع التي تعيشها مجتمعاتهم في ظل العلاقات المتوترة مع السلطة، وكعنوان للدور الذي يلعبه المثقفون في نصرة قضايا الحريات العامة التي باتوا بين محترفي الندب على قبورها، في حين ان كثيرا منهم يساهم في تشويهها عبر ارتباطه بالنظام، أو عبر اغترابه الكلي والتحاقه بثقافة الآخرين وتهويمه في سماء قضايا وجودية لا تخص مجتمعه شبه الأمي، بل هي تؤكد الانفصام بين بعض ضروب النتاج الثقافي وبين قرائه المفترضين الذين ـ في الغالب الأعم ـ لا يعرفون اللغة الأجنبية التي ترجم منها هذا النتاج، وليسوا معنيين بإشكالاتها التي تتصل، بداية وانتهاء، بالمجتمعات الأخرى التي عبر عن اهتماماتها مثقفون منها يعيشون أحوالاً لا تتصل بأي حال ولا هي تشابه الأحوال التي تعيشها مجتمعاتنا العربية.
ان بعض النتاج الثقافي العربي، وفي مجال الشعر والكتابة السياسية تحديداً، يأتي من خارج السياق، ويبدو وكأنه قد أسقط بالمظلات فوق الناس في بلادنا، فيعبر كالبرق أو كقوس قزح: يلتمع للحظة وقد يثير الدهشة، ولكن من غير أن ينزل بعده المطر فيمكث في الأرض وينفع الناس.
ان أحوالنا بائسة بمختلف جوانبها، خصوصاً ان النظام العربي بات مدربا وعظيم الخبرات ليس فقط في القمع، بل في توزيع الأدوار في ما بين مراكزه المختلفة، فبعضه يعطيك كل الحرية لتشتم نقص الديموقراطية عند غيره، وكأنه كعبة الديموقراطية، وكله يرحب بالكتب المهومة في فضاء حقوق الانسان على إطلاقها، وما دمت لم تحدد ولم تتطرق إلى الأسماء والأمكنة والعواصم والألقاب الدالة على أصحابها فقل ما تشاء… أما إن رغبت في الكتابة عن مغامراتك الجنسية بلغة النقاط فلك من النقاط ما يملأ الأرض ماء! فإن ألححت على موضوع الحرية فأنت حر، تماما كما هو حر، واذ كل يمارس حريته من دون أن يصطدم بحرية الآخر: قل أي شيء وكل شيء مضمراً من تعني، فهو قادر على أن يذهب في التفسير الى حد الادعاء بأنك انما تعني غيره…
أليس لافتاً أن تكون أحوالنا في ما اتفقنا على تسميتها «مرحلة النهضة» أفضل بكثير من حالتنا هذه الأيام؟!
لقد ذهبت طلائع مثقفينا إلى الغرب فتعلموا أو قرأوا وانتبهوا إلى واقع المجتمعات التي درسوا فيها، وأدركوا معنى الترابط بين الأحوال السياسية والحالة الثقافية، وان الوعي بالواقع هو الأساس في الطموح الى تغييره، وهو الدليل الى ما ينبغي أن يكون… وهكذا فإنهم حين عادوا فإنهم قد دعوا إلى تغيير واقعنا، بالعلم والمعرفة والوعي والثورة، ليس من أجل الالتحاق بالغرب والاندماج فيه وتبني معاييره، ولكن من أجل الافادة من ذلك كله. في تأكيد الهوية العربية (كما يؤكد الغرب هويته) وفي تجديد الثقافة وفي تنوير الطريق إلى الغد بالثقافة المجددة ومفاهيمها المعمقة في أحوال المجتمع وتقدمه، والعودة إلى العالم، إلى الحياة.
وبين الأسئلة الكثيرة التي تطرح نفسها: متى تنتهي غربة «نخبنا» المثقفة؟ متى يتقدمون من داخل مجتمعهم لا من خارجه؟! متى يكفّون عن التنصل من تخلفه فيهربون منه ليعيشوا أغراباً في غيره بينما هم أغراب فيه؟!
على هامش هذا الحديث، يفرض «التزامن» الاشارة إلى واقعة منع المثقف العربي الكبير نصر حامد أبو زيد من دخول الكويت، وقد دعي اليها لإلقاء محاضرة بدعوة من بعض هيئاتها الثقافية، فأثارت الواقعة ضجيجا عظيما في صحافة مصر التي انبرت تدافع عن هذا المبدع العربي الممتاز، متجاهلة انه ـ شخصيا ـ قد اختار المنفى حين أصدر بعض السفاحين من قضاة الشرع حكم تفريق بينه وبين زوجته بعدما وجهوا اليهما تهماً خطيرة لا تمت الى الحق والحقيقة، ولا الى الدين الحنيف بأية صلة.
لقد فرضت الغربة على نصر حامد أبو زيد لكنه ظل عربياً من مصر، واستمر يناضل من أجل حقه في أن يقول رأيه بحرية، ولو من المنفى… ولقد نسيه المغتربون في أوطانهم تماماً!
عن حارس الزمن الجميل ورفقة السلاح

لمناسبة الحديث عن معرض الكتاب، أستأذن في نشر كلمة التحية في حفل التكريم الذي أقامه النادي الثقافي العربي، يوم الجمعة الماضي، وضمن أنشطته المتعددة على هامش المعرض.
«التهيب هو التهيب أمام هذا النادي العريق، حارس الزمن الجميل، الذي ساهم في نشر الدعوة، وعزز إيمان أجيال من الرجال والنساء بعروبتهم، وحمل لواء الدفاع عن المقدسة فلسطين وحق شعبها في هويته، في قلب أمته جميعاً.
على امتداد عقود أربعة، بل خمسة، كنا ندخل الى المقر البسيط لهذا النادي العريق، متهيبين كمن يدخل الى دار عبادة أو الى مكتبة في جامعة عريقة، نلتقي بعضاً من الرواد الذين كانوا في منزلة القديسين والدعاة، فنجلس خاشعين، نستمع اليهم فتحملنا كلماتهم على أجنحة الحلم الى غدنا الأفضل، مخترقين المستحيل بما امتلأت به صدورنا من ثقة بالنفس وإيمان بحقنا في إعادة صياغة حياتنا إذا ما ملكنا قرارنا.
كان مجرد الذهاب الى النادي الثقافي العربي إعلان انتماء، أو طلب عضوية في تنظيم يطمح الى تغيير العالم بالأفكار المشعة والكلمات الناضحة بصدق الإيمان.
لكأننا نريد أن نجهر بانتمائنا الى عروبة قسطنطين زريق وحركة القوميين العرب بجورج حبش وغسان كنفاني وناجي العلي وغيرهم كثير ممن حاولوا تجسيد الفكرة تنظيماً اأو إبداعاً يأخذنا الى الغد، وجوزف مغيزل وتلك الكوكبة من الدعاة الذين تناوبوا على منبر النادي الثقافي العربي، الذي كثيراً ما تحولت مكاتبه البسيطة الى ما يشبه مجلس قيادة الثورة، بالشباب الذين يجيئون ليعرفوا أين مواقعهم في التحرك من أجل ثورة الجزائر ، من أجل عروبة المغرب، من أجل توحيد اليمن، من أجل حماية السودان، من أجل استعادة ليبيا من الاستعمار الثلاثي، من أجل نصرة سوريا وقد حاصرتها الأحلاف، ومن أجل ثورة جمال عبد الناصر الذي جاءنا بمصر قيادة مؤهلة وقادرة على المواجهة في قناة السويس كما في مواجهة العدوان الثلاثي في بر مصر كما في السد العالي كما في إعلاء راية الوحدة.
وفلسطين من قبل، وفلسطين من بعد، وفلسطين في القلب، لا يضيع منا الطريق اليها، ولا تضيع قضيتها في غمار السقطات والتنازلات وغياهب التفاوض على طمس إشعاعها بقتل الوقت بمتهافت الكلام حول سلام لا قوام له ولا قدرة على فرضه، بينما إسرائيل ترفض الانسحاب داخل فلسطين وتملأ أرضها المصادرة بالمستوطنين المستقدمين من أربع رياح الأرض ليجعلوها دولة اليهود في العالم.
وأي سلام يمكن إقامته مع قاتل الشمس والأطفال وعيون الأمهات وأشجار الزيتون وتراتيل الميلاد في كنائس بيت لحم وأذان الفجر في الأقصى الذي بارك حوله.
[[[
أغتنم هذا اللقاء العائلي الدافئ، لأناشد الجميع، حاضرين ومتغيبين في مشاغلهم، أن نتعاون على حماية حارس الزمن الجميل المسمى النادي الثقافي العربي.
وحماية هذا النادي لا تكون إلا بتجديد الفكر القومي، عبر إعادة صياغة العروبة بما يتلاءم مع خطورة التحديات التي تواجهها وتكاد تشوّهها بإضعاف مضمونها أو بإظهارها وكأنها من نتاج زمن مضى وانقضى ولن يعود.
لقد ضُربت العروبة بلعنة الأنظمة التي حكمت باسمها وهي منها براء، أكثر مما نجح أعداؤها في ضربها أو تشويهها.
فليست العروبة حكماً دكتاتورياً بالعسكر والمخابرات
وليست العروبة دعوة عنصرية، ولا هي تبشير ديني يختص بفئة ويستثني المنتمن الى دين آخر، أو يستبعد الأقليات القومية ويستعديهم،
لا تقبل العروبة قهراً لمن لا يؤمن بها أو يخاف من توهم الشوفينية فيها، بل هي تتعزز بالحوار وتغتني بالتنوع الذي ميز تاريخ هذه الأمة وأبعدها عن لوثة العنصرية، إنها روح الأمة وليست نظام حكم.
وهي بالفكر والمعنى المستقبل لا الماضي،
إنها التقدم والتحرر، إنها العلم والكفاءة، إنها الوعي بالواقع لتجاوزه، وهي استجلاء صورة المستقبل والعمل الدؤوب من أجل الوصول إليه.
إنها الفكرة الجامعة التي تحتاج الى برنامج يشارك في صياغته كل الطامحين الى استعادة هويتهم، وبالتالي حقهم في أن تكون لهم أوطانهم مستقلة الإرادة، المتكاملة في مواردها تكاملها في أهداف نضالها، الموحدة في برنامج العمل للنهوض القومي بغير قسر للمختلفين أو ترهيب لأصحاب الرأي الآخر، الذين سيقنعهم الإنجاز لا القهر والمصالح لا حملات التخوين، والبرامج العملية المدروسة المتفهمة لمصاعب الواقع، وليس الرشوة بالنفاق والمجاملة.
[[[
لقد أعطانا هذا النادي العريق عيداً سنوياً بهياً عبر المعرض العربي الدولي للكتاب الذي ينظمه ويشرف على تطويره ليكون مساحةً للتلاقي والحوار بين المبدعين روائيين وشعراءً وكتاباً، ثم بينهم وبين جمهور القراء الذين يرون فيه شهادة إضافية لبيروت المنتدى الفكري والمنبر الثقافي والشارع الوطني العربي والمطبعة والكتاب وصحيفة الصباح.
وبهذا الجهد فإن النادي الثقافي العربي يقدم إضافة نوعية لسعي المناضلين والمخلصين من أهل الرأي والحكمة الى كشف التشوهات التي لحقت بلبنان عموماً وبيروت خصوصاً نتيجة للجولات المتكررة للحروب الأهلية المتعددة التي استهدفت روحه وتشوقه للعب دوره الاستثنائي في خدمة قضايا أمته، وأولاها حماية تميزه ودوره التنويري عامة وعلى الخصوص دوره في فضح المشروع الصهيوني وكشف عنصريته التي تؤكدها إسرائيل كل يوم عبر سعيها لمحو فلسطين كقضية محقة لشعب عظيم يدفع بالدم، ما يؤكد حقه في أرضه التي كانت له بعمرانها وقداستها عبر آلاف السنين.
لقد شرفني النادي الثقافي العربي بهذا التكريم، الذي زانته مشاركة صديق أيام الكلمات الأولى على الطريق الى صحافة الذين لا صوت لهم، رفيق خوري، وصديق الزمن الصعب ومواجهة رصاص الانحراف بالموقف الصلب بوطنية العروبة كما جسدها كمال جنبلاط، وحزبه الذي جمع شتات المناضلين ذات يوم، غازي العريضي.
لست أجد الكلمات المعبرة عن تقديري لهذه اللفتة الكريمة إلا بتجديد العهد بأن أظل و«السفير» معي، بإذن الله، على الطريق الى ما أردناه بالقصد هدفنا من إصدارها: «صوت الذين لا صوت لهم ـ جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي في لبنان».
وأظننا بهذين الشعارين كنا نؤكد التكامل مع المهمة الدائمة للنادي الثقافي العربي.
تحية لهذا النادي الذي يمنحنا عيداً سنوياً، في زمن كادت تختفي الأعياد فيه. تحية للأخ رئيس النادي عمر فاضل وكل رفاقه الذين يحفظون لنا حارس الزمن الجميل، هذا».
مــن أقــوال نســمة
قــال لــي «نسـمة» الذي لم تعــرف لــه مهــنة إلا الحب:
ـ اذا صادفت حبيبي يقف بين الناس أرى بعض ملامحه في الوجوه جميعاً، ويغمرني الخجل وأنا أفترض أنهم سيجدون صورته في عيني فيعرفونني به ويعرفونه بي.
الحب يجعل الناس أجمل، فيسكنهم في عيوني لتكتمل صورة حبيبي.

Exit mobile version