فؤاد مطر يحاول استنقاذ الدين والعقل من «ألف فتوى .. وفتوى»!
هي شجاعة من فؤاد مطر ان يتصدى لهذه القضية الخطيرة التي تتسبب في فضائح بل وكوارث اجتماعية بغير حصر، فضلاً عن اساءتها البالغة إلى الدين الحنيف: فوضى الفتاوى التي تطلق بغير ضابط او رادع من الضمير أو حس المسؤولية تجاه الناس الذين يجدون في الدين (كما يصلهم وليس كما هو بأصله) طوق النجاة، ويرون في رجال الدين ـ وبغض النظر عن كفاءتهم العلمية ـ المنقذ من الضلال.
لقد عرفنا هذا الزميل الكبير من خلال عمله الصحافي الممتاز، كمحاور للكبار من السياسيين ممن لعبوا ادواراً مؤثرة في السياسة العربية، ثم من خلال كتبه ومؤلفاته في الحقول السياسية والعسكرية وقد انطلقت من حروب لبنان واللاعبين فيها وفيه إلى محاولة توثيق سنوات الحرب الأهلية ومراحل الصراع والتحالفات وحرب الخليج، إضافة إلى العديد من الاحداث والتطورات المهمة التي وقعت في مصر أو السودان أو ليبيا أو جهات عربية أخرى.
في كل كتبه، كما في كتاباته ومحاوراته الصحافية من قبل، كان فؤاد مطر صحافياً ملتزماً ومحاوراً دقيقاً، لا ينطق عن هوى، ويجتهد في توثيق كل ما يكتبه بغض النظر عن رأيه أو موقفه الشخصي من القائل أو مما يقوله.
لهذا كان السؤال الأول الذي فرضه انتقال فؤاد إلى حقل الألغام هذا: ما الذي دفعك أيها الصديق إلى التورط في ما لا نفقه فيه، لا سيما وان الخطأ هنا، مقصوداً أو غير مقصود، يودي إلى التهلكة؟
وكان جواب فؤاد بسيطاً كما الصدق: لقد اندفعت اليه اضطراراً، لكي أجيب عن نهر من الأسئلة وجهتها إليّ ابنتي ومعها أخواها، وهم يتابعون ـ ولو بالمصادفات ـ شلالات الفتاوى التي يتدفق بها رجال دين لا تسمح لهم مكانتهم العلمية ولا كفاءاتهم باطلاق الفتاوى، خصوصاً وهي قد طالت العظيم من الشؤون كما تفاصيل الحياة اليومية والعلاقات بين الازواج، بل هي توسعت لتشمل الخاص والحميم من العلاقات الانسانية ثم تعدتها إلى توافه الأمور… فإذا الفتاوى تتدفق من الفضائيات التي تتنامى كالفطر، يطلقها قلة من العارفين المحترمين، وطابور من المدعين والجهلة أو انصاف المتعلمين المحصنين بالعمامة ولقب «الشيخ» واللحية المشذبة وهات يا تحليل وتحريم بالطول والعرض بحيث بات يصعب على المؤمن تبين الحدود فيتوه عن ثوابت الدين والأخلاق إلى البدع والهرطقة والافتراء على القرآن الكريم وعلى النبي العربي وعلى أولياء الله الصالحين.
لقد أقام بعض هؤلاء الشيوخ أو المستشيخين دكاكين للفتاوى، كما في سوق العطارين، وطفقوا يبيعون فتاويهم، ثم وفرت لهم بعض الفضائيات ان يعمموا الجهل وان يطلقوا عواصف من التعصب والكراهية، بين اتباع المذاهب الإسلامية، كما بين المسلمين واتباع الأديان الأخرى والمسيحيين بشكل خاص.
يمكن ايراد عشرات الأمثلة حول الفتاوى المخزية بمجافاتها للعقل والعلم والمنطق، فضلاً عن الدين، حتى لقد ابتدع بعض هؤلاء «المفتين» تفسيراً ذكورياً للقرآن الكريم يقابله تفسير نسوي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: فتوى د. عزت عطية، رئيس قسم الحديث في كلية أصول الدين في الأزهر وهي تجيز ارضاع امرأة لزميلها في العمل خمس رضعات منعاً للخلوة المحرمة!! ومنها أيضاً تحريم صعود رجل مع امرأة داخل المصعد لأن الشيطان سيكون ثالثهما… ومنها منع اجتماع طالب وطالبة في فصل دراسي واحد! وثمة بين المفتين من تدخل في أسماء الأبناء، ومنهم من حرم المسلسلات المدبلجة التركية والمكسيكية بذريعة انها تفسد المراهقات! ومنهم من أفتى في المظلل وغير المظلل من زجاج السيارة للأنثى! وثمة من يعتبر احتفالات ذكرى الزواج والميلاد مخالفة للشرع!
أما في السياسة فأمر الفتاوى أخطر بكثير: فلقد أصدر الشيخ القرضاوي فتوى مباغتة حول الغزو «الشيعي للبلاد السنية»، كما اعترض الشيخ التسخيري على اعتبار التبليغ الشيعي أخطر من التبشير المسيحي!
ومع ان العديد من أصحاب الدين الصحيح قد ردوا على الشيخ القرضاوي أبرزهم الدكتور محمد كمال أبو المجد الذي نصحه بطي الموضوع، فان هذه الفتوى قد استند إليها كثير من المشايخ للاندفاع إلى حد اخراج الشيعة من الإسلام وتكفيرهم.
عمق المشكلة ان انتقاء «المفتين الفضائيين» لا يخضع لمعايير العلم والكفاءة والتدين، بل يجلس أي متعمم أمام المشاهدين وهات يا بدع! والعديد من هؤلاء لا يلمون باللغة العربية وقواعدها ودلالة كلماتها… فهي فتاوى أقرب إلى الأكل الجاهز الذي يباع حسب الطلب.
طبعاً هذا لا يشمل المفتين من رجال العلم والتقى الذين يحاولون مقاومة هذه الموجة التضليلية الواسعة. فشيخ الأزهر، مثلاً، يبيح العمليات الاستشهادية ضد جنود الاحتلال الأميركي في العراق، لكن هذا لم يمنعه من مصافحة السفاح الإسرائيلي شيمون بيريز قاتل الفلسطينيين، ربما بدافع الحرج وهو يرى العديد من القادة العرب يصافحونه ويعتبرونه شريكاً صالحاً في حوار الأديان.
لقد جلس فؤاد مطر أمام شاشات الفضائيات دهراً، ثم اضطر إلى ان يقرأ عشرات المقالات والأبحاث في كتب أو مطبوعات، وبالتأكيد فهو قد تألم كثيراً واصابه الفزع أحياناً وهو يسمع ما لا يقره عقل أو منطق أو دين مما يطلقه معممون لا يفقهون في الدين ولا يعرفون أصوله يتصدون لتضليل العامة من أبناء الشعب الواحد وتحريضهم بعضهم ضد البعض الآخر.
وانني لأحسد هذا الزميل الكبير على جَلَده وكما على جهده في جمع هذا الكم الهائل من الفتاوى، وكثير منها يصح وصفه بأنه هرطقة، وأكثر منه ما يعتبر تحريضاً على الفتنة، حيناً ضد المسيحيين وأحياناً كثيرة ضد الشيعة، ومن هنا فهو قد وفق في اختيار عنوان كتابه: «ألف فتوى.. وفتوى ـ مسلمون في مهب فوضى الفتاوى ـ أزهرية ـ سنية ـ وهابية ـ شيعية وخمينية».
جزاك الله خيراً أيها الزميل العزيز على صبرك، ونفترض ان كثيراً من المسلمين سيحتاجون إلى كتابك ليتبينوا مواقع الخطأ والزلل والضلال فيبتعدوا عنها عائدين إلى الدين الحنيف، والى مهماتهم الثقيلة لنفض عار التخلف والتعصب الأعمى الذي تحاول بعض الجهات الرسمية فرضه على «رعاياها» لتشغلهم عن قضاياهم الوطنية من الحرية والاستقلال إلى الخبز مع الكرامة.
غسان شربل «يندب العراق» على لسان ضحايا طغاته..
ممتع هو أسلوب غسان شربل بعباراته المشرقة والناضحة بلغة بليغة وأنيقة، انه واحد من قلة من الأقلام التي لا تزال تشع في الصحافة التي غلبت عليها، مع الأسف، لغة هجينة، تخالف القواعد بذريعة التجديد أو التحرر من التقليد، وتهرب إلى العامية أو مادونها وتجافي الذوق أحياناً بحجة اننا في عصر السرعة وان القارئ يريد المعنى ولا يهتم بالمبنى.
واعترف انني من جيل أضاف إلى تذوقه من الأساليب المشرقة لكتاب مميزين وشعراء رواة وقصاصين وأصحاب رأي وأدباء، أعطوا الصحافة أكثر مما أخذوا منها، وساهموا في تعليم أو تصحيح اللغة لدى جيل أو جيلين من صحافيي الستينيات والسبعينيات.
ومعروف ان العديد من الصحف في لبنان خاصة واقطار عربية أخرى قد أنشأها شعراء وأدباء كبار، كما ان صحفاً عديدة كانت تزين صفحاتها الأولى بقصائد للكبار من شعرائنا، قبل ان يتحول الشعر مع الحداثة إلى ترجمة مبتسرة عن بعض ضروب شعر النثر في الغرب، وقد باتت له مدارس عندنا.
لنعد إلى غسان شربل الذي لنا معه موعد مع كتاب جديد أو موعدان كل عام، فضلاً عن المواعيد الأسبوعية مع افتتاحياته في الزميلة «الحياة» والتي تضيف إلى مواجعنا من نكباتنا في مختلف أرجاء وطننا العربي وجع الخوف على اللغة العربية التي يتزايد عبث العابثين فيها بذريعة تطويعها للعمل الصحافي، كأنما للصحافة لغة هجينة أو مستوردة، أو كأنما العربية عموماً مصابة بأمراض عجزهم.
آخر نتاج وصلنا للزميل الصديق غسان شربل هو كتابه الجديد «العراق من حرب إلى حرب… صدام مر من هنا» ـ والكتاب عبارة عن سرد استذكاري لثلاثة من الساسة العراقيين القدامى وقائد عسكري كان رئيساً لأركان حرب الجيش العراقي إبان غزوة صدام في الكويت التي انتهت بتدمير العراق.
على طريقته الهادئة، نجح غسان شربل في استنطاق هذا المربع الذهبي، وبينهم ثلاثة عرفوا صدام حسين عن قرب: أولهم حازم جواد، وهو الأقل صلة شخصية بصدام والأبعد مواقع بالفكر والرأي عنه، وثانيهم هو رفيق صدام وشريكه الحربي في تنفيذ الانقلاب (أو الانقلابات) ثم الموفد سفيراً، بديلاً من الاعدام، صلاح عمر العلي، وأخيراً الفريق أول الركن نزار الخزرجي، رئيس أركان الجيش العراقي الذي عاجله السكرتير العام للقيادة العامة الفريق علاء الخبابي، ذات صباح، وهو يدخله على صدام حسين في الكارافان الذي حوله إلى غرفة عمليات: مبروك(!) لقد اكملنا احتلال الكويت!
لقد «طارد» غسان شربل هؤلاء الأربعة في «منافيهم» البعيدة، وأخرجهم من أثقال ذكرياتهم السوداء ليرووا بعض فصول المأساة العراقية المفتوحة عبر استعادة وقائع تعرفهم إلى صدام حسين أو تفاصيل علاقاتهم الشخصية به وكيف استطاعوا النجاة بجلودهم من قبضته التي لا ترحم.
جلس إليهم يسأل، «ببراءة» وتركهم يسترجعون بعض وقائع أيامهم بل أيام العراق، والتحولات في السلطة وعبر جرائم القتل الفردية أو المذابح الجماعية، دائماً، مستعيداً ـ عبرهم ـ الرواية الكاملة لمحنة ذلك الشعب الصابر الذي كان يدفع من دمائه دائماً، أعباء الصراع الذي سرعان ما أشعل حروباً عدة: الأولى ضد إيران الثورة الإسلامية، ولدهر امتد لثماني سنوات ثقيلة، ثم غزو الكويت الذي أودى بالجيش وببعض الأرض في العراق نتيجة لحرب التدخل الدولي… هذا فضلاً عن المجازر المنظمة ضد العراقيين في الشمال (حلبجة) والجنوب (النجف وكربلاء وسائر البلدات والقرى)، فضلاً عن عمليات المطاردة بالقتل ضد كل من يشتبه فيهم النظام… وكل عراقي مشتبه فيه إلى ان يثبت العكس، ولن يثبت.
ومع ان السجل الدموي لصدام حسين ناطق بأسماء الخصوم الذين صفّاهم على امتداد دهر حكمه، إلا ان رواية أصحاب العلاقة لمشاهداتهم والوقائع التي جرت بحضورهم أو سمعوا عنها مباشرة من الضحايا، تضفي طابعاً مأساوياً مريعاً على تلك الحقبة من تاريخ العراق التي تجد في وقائـع ما بعدها نتيجة منطقية لها.
ولقد لخص غسان شربل هذه الحقيقة بدقة: العراق يذهب مع حاكمه… ذهب مع نوري السعيد بعض تاريخه، وذهب مع عبد الكريم قاسم معظم تاريخه، وذهب مع عبد السلام عارف القليل، أما مع صدام فقد ذهب العراق كله. تغيرت المنطقة كلها. تصادم العراقيون بالعراقيين…
كذلك فقد استنتج غسان شربل من الوقائع وعبرها ما عاشه ويعيشه العراقيون: «ليس من عادة سيد بغداد ان يتقاعد. خياراته محددة: القصر أو القبر… شهيات الامبراطوريات المحيطة مفتوحة وعليه ان ينتبه لمكائد الداخل ومكائد الخارج».
من حظ غسان شربل انه يكتب صفحات من تاريخ هذه الأمة المكلومة من موقع «الشاهد»، متخففاً من أعباء دور «المؤرخ».
ومن حظ الصحافة العربية ان ما زال فيها أقلام مضيئة، هي قليلة حقاً، ولكنها تؤكد ان هذه المهنة المشرفة ـ متى حماها أصحابها ـ لم تنقرض.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة غير الحب:
يبتدع الحب لغته. حتى الأميون يقاربون الشعر وهم يعبرون عن حبهم. انه يمنح المحب فرصة لإعادة صوغ حياته جميعاً: طلعته، ثيابه، تعابيره وسلوكه عموماً. وكثيراً ما ينتبه إلى انه بات أرقى وأنضج، وان الحب هو الهناءة مصفاة.