طلال سلمان

هوامش

عندما يلغي الحكام تاريخ بلادهم… كما العدو!
خلال غداء عائلي في بيت صديق في القاهرة جاء ذكر الرئيس المصري الذي لا يمكن نسيانه لخطورة فعلته، ففوجئت بابنة الصديق، وهي طالبة جامعية، تسأل والدها، ببراءة مطلقة: مين أنور السادات يا بابا؟
ظننتها، لوهلة، تمازحنا، لكن والدها انطلق يروي لها بجدية التاريخ الشخصي والسياسي للرجل الذي خرق المحرمات، من موقع رئيس مصر، فصالح العدو الاسرائيلي، وأخرج مصر من جلدها ومن دورها العربي ومن مكانتها المميزة دولياً.
بعد انصراف أفراد الأسرة التفت إليّ مضيفي فقال: لا تستغرب ما حصل… إن كل حاكم جديد يجتهد في أن يطمس ذكر من سبقه حتى لا يشاركه ـ ولو من قبره ـ عواطف الناس. حتى الأموات، يا عزيزي، يمكن ان يكونوا منافسين للقائم بالأمر، ولو توهماً…
غرقت في استذكار أمثلة مشابهة، لأفيق على صوت مضيفي وهو يكمل قائلاً: حالتنا الآن أرحم منها مع جمال عبد الناصر. الآن يطمسون ذكر السادات فحسب، يسقطونه من التاريخ ليبقوا وحدهم في الذاكرة، كأن ليس من قبلهم قبل، وليس من بعدهم بعد. كأن الدولة بدأت معهم وتستمر بهم فإن هم ذهبوا ذهبت معهم وعاش الشعب ـ إن هو عاش ـ حالة من اليتم! أما مع جمال عبد الناصر فقد كانت الحملة الشرسة تتجاوز أهداف طمس إنجازاته وإخفاقاته ودوره البارز في مصر والمنطقة والعالم إلى تشويه صورته و«إدانته» بأنه قد جعل مصر سجناً كبيراً، وأنه عادى فاستعدى دول العالم، وأنه رفض ان يصالح اسرائيل وبالتالي فقد أفقر الشعب المصري خصوصاً انه كان يوزع خير مصر على العربان والأفارقة وشعوب الدول البعيدة في آسيا!
واستدرك الصديق فقال: لقد حاول الحكم الحالي أن يعيد شيئا من الاعتبار إلى جمال عبد الناصر، ربما لانه صار بعيدا جداً، أو ربما لأنه يستعصي مع النسيان، ثم ان استذكاره سيكون أقرب ما يكون إلى الحنين إلى الماضي منه إلى التأثير في الواقع القائم… فضلاً عن ان ثورته هي الأساس الدستوري للنظام القائم.
انتبهت إلى ان هذه «الظاهرة» ليست خاصة بمصر بل لها شواهدها في مختلف البلدان العربية، لا سيما تلك التي شهدت مسلسلاً من الانقلابات العسكرية، والتي كان أبطال أي منها يلغون من سبقهم ثم يصفّي بعضهم بعضاً حتى ينفرد «أقواهم» بالسلطة فإذا به يجعل نفسه بداية التاريخ وكل من سبقه «عهد بائد» لا يستحق الذكر.
ثم ضبطت نفسي أذهب إلى البعيد فأربط بين هذه الوقائع السياسية وبين وقائع «كيانية» في غاية الخطورة: إن بعض الحكام العرب قد غيروا أسماء مدن لها تاريخها وابتنوا مدنا أو أحياء جديدة أطلقت أسماؤهم عليها فلما غيّبهم الموت (أو الاغتيال) أو الخلع، تم تغيير أسماء المدن مرة جديدة…
انتبهت أيضا إلى أن الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين يجهد في محو ذاكرة الشعب الفلسطيني ليس فقط بتزوير التاريخ بل كذلك بتزوير الجغرافيا وذلك عبر محو الأسماء العربية للمدن والقرى في فلسطين المحتلة، بحيث يجبر ذلك الشعب العظيم على التنكر لروايته التاريخية والقبول بالرواية الاسرائيلية التي تلغي تاريخ فلسطين ومنجزات شعبها وتصور وجوده (الأبدي) في أرضه وكأنه أمر طارئ ومؤقت… لكأنما كان الفلسطينيون مجرد «وكلاء غيبة» للاسرائيليين، فلما احتلوا الأرض بالقوة وطردوا منها معظم أهلها نزعوا عنها هويتها وشطبوا أي ذكر لأصحابها الذين توارثوها كابراً عن كابر، وبدّلوا أسماءها الثابتة بمستخرجات من التوراة أو التلمود أو أساطير أخرى…
… وانتبهت أيضا وأيضا إلى ان بعض الدول العربية قد غيرت ـ طوعاً ـ أسماء مناطق ومدن وقرى وأنهر خوفاً من أن يدعي الاسرائيليون أنهم كانوا فيها قبل الميلاد (راجع كمال الصليبي).
… وقديما ضبطت صاحب مجلة معروفة في لبنان يقص توقيع احد أركان الاستقلال على الوثيقة التي تمثل الرسم الاولي للعلم الوطني، لانه كان على خلاف معه في تلك اللحظة، فلما صالحه ذلك الركن كان مستحيلا استعادة الوثيقة التأسيسية بصورتها الأصلية…
الأخطر ان كتب التاريخ في معظم البلاد العربية لا تقدم للتلامذة او الطلاب حقيقة ما جرى، وأن المعلمين يدرسون ما هو مزوّر ومشوّه أو ناقص… هذا إذا ما قفزنا من فوق الواقع المتمثل في ان طلاب لبنان يدرسون كتباً متعددة لتاريخ وطنهم الصغير، بحيث يخرجون إلى الدنيا وبعضهم يرى في الفتح العربي غزوا واستعماراً أجنبياً، أو يرى في الانتداب الفرنسي «تحريراً» من «ربقة النير العثماني» كأنما الاستعمار الغربي هو والد الاستقلال الوطني.
ليس للبطل في التاريخ العربي صورة واحدة في كتب التاريخ، سواء منها المدرسية، أو بعض المؤلفات التي كتبها مؤرخون موتورون بالتعصب او بالغرض.
وليس للوقائع التاريخية الثابتة رواية واحدة معتمدة في مختلف الدول العربية، خصوصاً أن كثيرا من المراجع كتبها مؤرخون أجانب ومستشرقون كانوا يعملون كمدفعية ثقافية تزيّن صورة المحتل وتجعله الممدّن الذي أخرجنا من عتمة الجاهلية فأدخلنا في العصر بالصورة التي «أحبها» لنا.
أما في الجغرافيا فحدث عن الخلافات حول الحدود ولا حرج، وندر أن تجد هذه الحدود نهائية ومعتمدة رسمياً بين بلدين عربيين متجاورين، خصوصاً أن من يضعها ليس أهلها، بل من قسّم الأرض الواحدة مستعمرات او دويلات تحت الانتداب، فلما أنيلت استقلالها وجد أهلها بعض أرضهم في «الدولة» الاخرى، وكان ذلك سبباً في عداوة مستجدة بين من كانوا أخوة أو أبناء عمومة أو خؤولة، كثيرا ما تحولت إلى حروب، بينما اسرائيل ماضية في محو فلسطين وتزوير هويتها لتغدو دولة يهود العالم.
الياس لحود يرسم باريس بجبران وصحبه «الأنبياء»

يختفي الياس لحود دهراً ثم يظهر بغتة بنحوله الذي يتكامل مع الشعيرات الصفراء في قمة صلعته، وتلمع عيناه الصغيرتان بينما تمتد يده بديوانه الجديد.
هذه المرة زاوج الياس لحود، مستعينا بملاكه «عبقر»، بين المدينة التي هندسها شعراء وخطط ساحاتها وشوارعها عشاق تركوا في أفيائها فسحات لتزاوج اللون والنور والموسيقى وصمت النهر الذي يسري في عروقها ليمنحها الروح، وبين أصدقاء العمر ممن اخذ عنهم وتعلم من صداقتهم او من التنافس معهم على الصياغة الأرقى والأبهى للأخيلة التي تجعل الحياة جديرة بأبناء الحياة.
كان الدليل «جبران خليل جبران» يعرّفه على أقرانه من المبدعين هناك، ويستذكر معه قافلة من المبدعين هنا، حتى انتظم في الموكب البهي اميل زولا وصلاح ستيتية، سيزان ومحمد الماغوط، أمين معلوف وألبير كامو وآخرون…
«هنا نبدأ… هنا، من هذه الضحكة الصامتة على طاولة ريش الغمام هذه حيث سيسكب رامبرانت حاصداته/في ذهب/ على كرسي من نبض مقابل كرسي من ومض… هنا، في حديقة كاندنسكي للأشعار والآهات التكعيبية هذه، حيث رمموا بالهمسات بيتا وخمارة وكنيسة مقفلة بشرق وغرب معلقة باسطرلاب.. هنا قابل رودان المدمى جبران وعلمه الحفر في الأرواح المتمردة».
يسرح الياس لحود في باريس ويمرح وسط أدلائه الكثر الذين يصيرونها لعظيم عشقهم, فهي مصدر الوحي وهي سر الابداع، فيها سكبوا أرواحهم قصائد ومسرحيات وأبراجاً وأقواس نصر لقادة انتهوا منفيين أو على المقصلة. يطل طيف بودلير:
«هنا كان بيته/ لا في قصر ولا في قبر. هنا كان بيت على مقربة من جان جينيه في هذه الياسمينة المطوية في الشوك وحدها…».
حيثما التفت تطوف عيناه في أفياء الشعر الذي صار عمارات بأبواب من نعس وسطوح من نشوة وشرفات تتسع لأكثر من اللهفة… ويتزاحم رسامو المداخل «فقراء» أبراج بابل:
«وأطلت السفينة كأنها تحمل مقيدين من الأرواح المتمردة تسحبهم بسلاسل المراسي، أياد وأعناق، وعلى قمصانهم العارية وشوم لطائرات شراعية. كان في علية بروست هناك ينحت تمثالا لفان غوغ كما طلب من رودان. رسمه والله وقبعة على قدمين ـ أذنين في ممر وادي العرايش بل وادي قاديشا وأداره نحونا صائحاً على غير عادته: تأملوا هذا النبي الذي كتبته…».
اما صلاح ستيتية فلم يحصد إلا رومانسيات ريتا المعتقة:
«كتب موزعة نهار السبت. صور توزعها الشوارع ضفتين مدنيتين.
«صور لنهر السين يعرضها على الصفين مسرعة لريتا/ وسماء باريس الرمادية عمرت عشرين عاما من قصائد جدتها مقلتاك».
فإذا ما «التقاه» محمد الماغوط بادره من دون أن يسأله:
«أنام كجرح ملتفا بمسيح في وزندي حجري/ لم أحلم بالساحات/ الساحات الباذخة البرد/ اميرات الزيزان… بقايا العطش، الجوع حرير الدم/ لم أحلم بالساحات/ الساحات ـ كما يكتب لوركا ـ صفحات جبال محفورة في كل جدار او صورة/ السود ينامون كبيض/ والبيض ينامون كسود فوق مقاعد خالية بقطار بيكابيا».
عند الوصول إلى أمين معلوف انتبه الياس لحود إلى انه وجد دليله الأخطر:
«وحده كان يأتي، يجر على زنده متعة تشبه العربات، احتوت كل شيء بدوارة من زجاج/ وكانوا يهبون حالاً ويستقبلون المتّوج بقبعة من بيوت الكتب
«وحده كان يأتي (كصوتي اذا بح غنى ويرجع مني كصمتي) تعكزت برجي/ تعكزت برج إيفل فيما يجيء ويمضي سراعا ويعلو إلى… وحده كان يأتي بائع غزل البنات».
في الديوان ورقمه 17 لالياس لحود، تتوزع فصول تضم حوالى ستين قصيدة، كل منها «امرأة مثل آه». مثل آه طويلة. هي امرأة من حكايا هواه. هي امرأة سافرت في يديه وعادت على شفتيه اندلاعا: كذا أنبأته يداها، كذا اخبرته يداه».
هو في باريس يطوّف عينيه في الشعر الذي من زجاج وماء وحديد شفّاف وشبابيك للموسيقى ومراكب لمطاردة الضوء. انه عازف ما بعد الوصول. سيرة بمواكب جبرانية:
«بعدما حبروا بالمواكب أولى المسيرات في صفحة علقوها على صدر مايو تابعوا سيرهم كالكمنجات واتجهوا نحو باستيلهم في الضواحي لكي يدفعوا ما عليهم من الخطو واللهث../ كان جبران ينظرهم من على غيمة في النواحي بنى فوقها كوخه شبه ناي على ربوة راحلة/ ليتهم شيدوا فوق باريس عرزاله من لهاث الكمنجات والسابلة».
يتجول الياس لحود بفقره الجنوبي في المدينة التي يحاصرك جمالها ويستعصي عليك ان تدخلها فتبقى تطوف من حولها، لا انت غريب. ولا هي غريبة عليك، لكن روحها في زمن آخر تدغدغك لكنها لا تسكنك:
ولولا ان أولئك الأدلاء قد احتشدوا من حول الياس لحود لما كان عرف نفسه، ولكان ذاب في باريس التي روحها أوسع مدى من عمرانها والتي مناخ الشعر فيها أصلب من عنصرية سكانها الذين لم يكونوا في يوم أهلها ولكنهم الآن ينامون في بيوتهم هانئين لأن حراسهم تعلموا عبر الاضطهاد الطويل الذي فرضه عليهم من بنوا باريس بجماجمهم ان يكونوا متسامحين.
حكاية/ موعد مع النسيان

تسكع عند حوافي الليل في انتظار الموعد المعلق بالمزاج المضطرب. دوى صوت القطار. انصفق الباب. علت أبواق السيارات. دقت أجراس كنيسة قريبة. عوى كلب ضال في شارع تلاشت فيه ظلال المارة. رنت هواتف كثيرة لم يكن يتوقعها ولم تكن به رغبة في أن يجيب عليها.
التقى كثيرين لم يكن يريد الجلوس اليهم. أخذه الحرج إلى اختراع أعذار وهمية عديدة. فضل ان يبقى وحده. هي ستتصل بالتأكيد. لطالما أزعجته اتصالاتها في أوقات غير ملائمة. لطالما التقاها حيث لم يتوقع. لطالما طارده شبحها حتى بات يخاف منها. لكأنها تتبعه بحاسة الشم. لكأنها تملك راداراً كاشفاً للأمكنة والأزمنة.
ذهب إلى حيث لم يرغب في الذهاب. استمع إلى نكات بائتة وتظاهر بأنه يسمعها لأول مرة. توهم انه يلمح طيفها في كل فتاة تعبر إلى الباب او منه. تمثلها تقف خلفه، عن يمينه، عن يساره، تظلل مقعده، تلامس بأنفاسها رقبته قبل ان تدفن يمناها في شعره الكث. كانت تقول انها ستغزل من شعره شالاً لليالي البرد.
الهاتف ما زال صامتا. كيف تتحرك عقارب الساعة ولا رنين؟
كيف ينام والمسافة بينهما لا تتسع لظل ثالث؟!
حسنا. سوف يعاقبها بالنسيان. ليبدأ بنسيان اسمها. سيرمي الهاتف. إن أرادته فليكن نداؤها بصوتها الحي.
ثمة من في الباب. فلنؤجل موضوع النسيان. هرع إلى الباب يفتحه. لم يكن ثمة أحد. خرج الى الممشى، تلفت يمينا ويساراً. لم يجد أحداً. عاد إلى الباب فوجده مغلقاً والمفتاح في الداخل، وهو شبه عار. فلينم هنا. لا بأس! هذا أفضل مناخ للنسيان. ولكن من أين يأتي النوم؟! تعال يا نوم، تعال يا نسيان، تعال يا أي كان. تعال ايها الجنون. ضحك! سيكون مجنوناً بلا ليلى.
انطوى على نفسه حتى نسي اسمه واسمها واسم الفندق والمدينة، ومضى يتفرج على الباعة المبكرين ليفتحوا لها الباب!

مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ قبل حبيبي لم أعرف الشعر. اليوم صرت أملك ديوانا عظيماً من قصائده التي يقرأها غيري فيراني فيها.
ما أجمل أن يعرفك الناس بحبيبك!

Exit mobile version