طلال سلمان

هوامش

إميلي نصر الله تقتحم بديوان حبها الشعر
يسري بك الحب رقيقاً رقيقاً إلى الشعر فإذا حبيبك هو الديوان مرصوفة كلماته وهمساته ولمساته ولفتاته قصائد تجري في كيانك مجرى النفس وتمنحك الشغف بالحياة وقد اكتمل فيها المعنى.
ولقد تفجر الحب الذي تعيشه اميلي نصر الله شعراً عجزت القصة والرواية عن استيعاب نهره المنساب هادئاً، كما النيل، ففاض على فنون القص التي أبدعتها موهبتها الخلاقة مقدمة نمطاً جديداً من النتاج الراقي الذي لا تضيف اليه الجوائز إلا قليلا قليلا.
لم تكن المفاجأة في قدرة اميلي نصر الله على التدفق شعراً، بل في إطلاقها هذا النهر «ديواناً» أعطته عنوان «همسات» ربما للتوكيد على الرقة فيه أو على تجاوز الخجل وإطلاق عواطفها جياشة تفيض على الأوزان وتتخطى حواجز القوافي وترسم بنبضات القلب وأهداب العينين صورة لحبيبها الذي جعل العمر جنة وجعل الحياة مهرجانا للفرح.
«فيليب» هو الحب والحياة، هو ديوان الشعر الذي عاشته عمراً تظلله السعادة يكبر فيهما وبهما ويكبران فيه كأنهما في يوم ممتد من النجاحات المتعددة الميادين، وقد أزهر وأثمر صبيانا وبنات وأحفاداً يستولدون الفرح ويقيمون مهرجاناً دائماً للسعادة.
أما اميلي التي كانت تلتحف حرمون وجاءت الى المدينة بخفر بنات الريف وعينيها المفتوحتين على الرغبة في العلم، فقد وجدت في قلمها السلاح وفي الصحافة الميدان لكتابة تنبض بحب الناس والقلق على عيالهم الذين قد تبهرهم أضواء المدينة فيضيعون عن الطريق أو تضيع منهم.
وفي بيروت ذات الشواهق كان قدرها ينتظرها باسم الاستاذ الجامعي، ابن زحلة، فيليب نصر الله، فاكتسبت الحياة معناها وصارا واحداً: هو قارئها الأول، وهي النجمة التي تدله على طريق النجاح، في الصناعة التي اختارها، ثم في الزراعة التي وجد في مصر متسعاً لأحلامه فيها، فإذا مساحات شاسعة تخضر بالشجرة المباركة الزيتون، الى جانب المداجن التي أنشأها الجهد، ثم أضاف إلى الزيتون العنب وأشجار فاكهة أخرى فصارت بعض الجنان في وادي اللطرون.
هذه اللمحات الشخصية قد تساعد على قراءة أدق لهذا «الديوان» الذي أهدته اميلي ببساطة، ككل حياتها، إلى من أعاد صوغ حياتها فرحاً دائماً، عبر كلمة واحدة: «إلى فيليب».
«اليوم يمكنني أن أعلن/ أنني انتصرت/ تعلمت فن احتوائك في كلماتي/
هذا الصباح أحسّني حرة: لقد نفضت عيني من جمهرة حضورك»
لكن فيليب كان دائماً على سفر، فإن عاد كانت اميلي على سفر:
«حين لا تكون معي يعود الكون قفراً، وتتحول البحار إلى صحارى»
ولأنه بعيد فإنه في بعده يقترب فيحتل وجودها:
«يغسلني عبير حبك. اسكب عطر الكون في قطرة
أحبك، أقول، ثم تخرس الكلمات، تخجل من حضرة الحب وجلاله»
لم نتعود في الريف أن نصرح بالحب. قد نتعبد له، وقد نضحي ببعض العمر من أجل نعيش فيه وله البعض الآخر، لكن أن نعلنه مباشرة فأمر جلل لا نقدر عليه. يتعبنا فلا نشكو، ينهكنا فنطلقه عبر النظرة، اللمسة، المواكبة القلقة لتحضير المائدة، أو الاهتمام بالتفاصيل المنسية، لكن اليوم أمر يتجاوز الحياء المتغلغل عميقا عميقا حتى لكأنه في الجذور:
«قوي أنت يا سيدي، ومن مظاهر قوتك قدرتك على الحضور والتلاشي في كياني
اقترب من حضورك كنسمة عابرة، يا صديقتي الشتائية، يا محطة أحلامي ومرسى ترحالي»
مؤكد أن اميلي لم تكتب هذا الحب المتدفق في يوم أو شهر أو سنة. لعلها بعض المذكرات التي تفيض على طاقة القص نثراً. لعل الهامش الشخصي فيها أرق من أن تتحمله رواية:
«أُمعن في هذا الجنون، كتابة حبك في كلمات
أنت المستحيل وأنا سارية في خط وهمي»
حمت إميلي نصر الله أصالتها، في تقاليد حياتها، في لهجتها ذات القاف المعطشة، في وطنيتها التي تؤكد فيها انها ابنة الأرض التي خلف الجبل، وان الناس في هذا الوطن الكبير أهلها، وقد عرفتهم في معظم ديارهم فاكتشفت انهم يعرفونها كما هي، كما تحب ان تكون، كما ينبغي ان تكون… وان بقي «فيليب» هو الديوان وهو المرجع في التعرف على الذات، وهو النهر الذي تشرب منه ماء الوحي والابداع:
«سألوني: هل أحببته؟ فأدرت وجهي حتى لا ترشح أسراري من أعماق عيني
عبرك ترحل كلماتي، تتحرر، تتحول إلى فراشات ملونة ثم تتلاشى في المدى»
لكن هذا التوصيف ناقص بعد، فلتضف اليه ما يكمله اذاً:
«وحين أرتقي هبوب الريح ألمح طرف عباءتك
العباءة المفروشة وسع الكون، وأتعلق بسحرها لارتقاء أثرك
وحين نلتقي، تستكين الريح وتخرس ثرثرة الكائنات».
حمداً لله أن قدرك الذي اسمه «فيليب» قد أنقذك من الصحافة، يا اميلي، فأعطانا قلماً مبدعاً، وأغنى مكتبتنا بالروايات والقصص وحكايات الأطفال… وها أنت تتصدين للأصعب: الشعر، فإذا عاطفتك تسعفك بأن تعيدي صوغ قصة حبك ديواناً متحرراً من الوزن والقافية لان إحساسك أرق من أن يتحمل كل هذه الأثقال.
هنيئا لك:
«قضيت وقتي فوق غمامة وردية هي نثر اسمك فوق شفتي»
ولسوف ننتظر المزيد من «لحظات الفرح والتأمل، لحظات الحزن والفراق، لحظات اللقاء والوداع والمصالحة والبعاد، تلتقي عند نقطة عميقة في الوجدان».
مبارك مولودك الجديد أيتها المبدعة التي أعتز بأني من قرائها، أمس، أيام جمعتنا الزمالة في المهنة قليلاً، ثم على امتداد العمر وقد ربطتنا الصداقة التي تزداد عمقاً مع كل نتاج جديد لك.
عوض شعبان يخرج من خزين الذكريات حكايات
نجح عوض شعبان في الانتصار على الأمراض التي تكاد تعجزه عن الحركة والتي تمتد من عينيه الى ساقيه اللتين بالكاد تحملانه، بأن ظل صديقاً لقلمه يلجأ اليه فيعينه على بؤس أحواله جميعاً، متكئا على ذاكرته التي لا تزال تحفظ وقائع أيامه الماضية بحلوها القليل ومرها الكثير.
وها ينتج، مجدداً، كتابا ضمنه 27 قصة قصيرة وأعطاه عنوانا ناطقا بمضمونه «خزين الذكريات ـ حكايات من هنا»، هو مولوده العاشر، بعد تسع روايات ومجموعات من القصص القصيرة، وإحدى عشرة رواية وقصة ترجمها عن الاسبانية التي تعلمها فأتقنها اضطراراً خلال حقبة هجرته الى بعض أميركا اللاتينية، والأرجنتين أساسا، والتي عاد منها تاركاً فيها «خفي حنين».
عوض شعبان يسكن في قلب الفقر، ومعه موهبته التي لم تطعمه اكثر من الخبز: الكتابة في الدارين، دار الولادة والمصير ودار الهجرة والتعتير!
لذلك فإن حكاياته لا تدور في القصور بل بين أكواخ الصفيح في الكرنتينا حيث عاش قبل التهجير في «الحرب اللبنانية الأولى 1975»، او في بدائلها المؤقتة في ضواحي الفقر التي صارت سكنا دائما، من بعد، او في بعض قرى الجنوب التي غالبا ما اعتمد فيها على السماع من جيرانه الذين ظلوا جيرانه في الدارين: دار الاقامة البائسة ودار البؤس المقيم.
«هي قصص قصيرة منتزعة من الواقع، لكن فيها حيزاً من الخيال المقبول وان كان يرقى الى مرتبة الفانتازيا… وقد يلامس عالم الرعب لمبتدعه ادغار ألن بو».
بديهي والحال هنا أن يكون الاهداء الى «الفقراء الذين يعانون السعير في احياء البؤس وفيافي الفقر المتضورين جوعا والمكتوين قيظا والمقرورين بردا..».
يستذكر عوض شعبان بعض «الغراميات» في بوينس ايريس وفي توكومان وكوردوبا ومار دل بلاتا، حيث كانت تسكره التانغو الراقصة، ويمارس الحياة بكل نبضات قلبه الذي كأنه بصلابة الجلمود: آمور ميو (يا حبي).
… مع «العودة المظفرة» لا يرى، من البحر، من بيروت الا مدينة الفقراء والجياع والمحزونين… «وعلى امتداد بصري أرى أكواخ التعاسة النامية كالفطر على جنباتك وسط العمارات الشاهقة».
بل انه لم يرَ في رحلتي الذهاب والإياب، الا أطياف أحبائه، الذين تبدوا في المرافئ الافريقية، وفي مرفأ داكار تحديدا، اكثر جلاء في الوجـوه السوداء الناضحة بالشقاء.
ولقد عمل عوض شعبان في الصحافة التي دخلها، اضطراراً، من باب إتقانه العربية وكفاءته في الترجمة من اللاتينية، لكنه ظل خارج المهنة، الى حد كبير، فقلمه ظل مشدودا الى الكتابة الروائية او الى ترجمات بعض كلاسيكيات الأدب العالمي.
عافاك الله يا أبا علي.. ولتسعفك صحتك على مزيد من العطاء ايها الانسان الطيب الذي اعطى دنياه أكثر بكثير مما أخذ منها، مع ذلك فهو لم يتذمر ولم يتأفف، وكان يحل المسألة بفلسفة الوجود.
حكاية/قبل الحب بقليل
كالتماعة برق في سماء معتمة شع الزمن الجميل في العينين الصغيرتين وافتر الثغر الدقيق عن اسنان مرصوفة بيضاء فأضاء الوجه المتلفع بالسواد، وسحّ دمع الفرح في لحظة حزن مشهودة.
لم تطفئ السنون جذوة العاطفة المكبوتة منذ دهر، والتي حسبها الأهل في حينها، طيش مراهقة لا تلتقي إلا أغراباً، فلما نزل بهم أحست بشيء من الأنس، وأحس الفتى المطارد بذل الحاجة مغامرة قد تذهب باستقراره القلق، من دون أن تفتح له الباب المرصود لحب كالذي يقرأ عنه في القصص والروايات التي يشتريها منزوعة الأغلفة غالبا، وممزقة بعض صفحاتها بأيدي من كانت لهم ثم باعوها بغيرها.
العمر محفور غضوناً خفيفة فوق الوجه الدقيق التكوين، لكن التماعة العينين عند إطلالته فضحت تشوقها الى لقائه، في حين كان مشغولا عن ذكرياته بالحرص على وقار كهولته.
لم تكن المناسبة تسمح بكثير من الكلام، لكنها عرفت كيف تحوّل المجاملة الى اطلاق المحبوس في صدرها الذي وجد الفرصة لان ينطلق فراشات ملونة مغلفة بما يقتضيه المقام.
الحياة أبهى من الذكريات… لكن النهر يتدفق بمياه السواقي التي تصب فيها لتعطيه صخب الاندفاع ورقة انسيابه متدفقا بزخم أعظم ينبت قمحا وورداً وزنابق يتخذها النحل دار شراب حتى السكر بالعسل.
لا تهم السنون! ها هما يخرجان من زحمة الملتفين من حولهما عائدين الى بهجة المراهقة المبتورة. كانت دائماً بعيدة بقلب قريب، وكان دائماً قريبا بعقل يشده إلى البعيد. لم يحن زمن الحب. لا يستطيع السرير الثالث في الغرفة التي لكل عابر فيها نصيب أن يتحول الى خميلة أو الى وعد بالجنة. الحب ترف لا يقدر عليه بعد، بل انه خيانة علنية لمبادئ لا يملك أن يخرج عليها، لا بأخلاقه ولا بحاجته. فليقنع بأن يتخذها أختا.. لكنها أكثر وأقرب.
وفّر الزمن الحل، فافترقا، ترك السرير الثالث الى غرفة في البعيد.. وظل حنينه يدفعه كلما مر بالمكان الى أن يرفع بصره الى الشرفة التي كانت تجلس اليها بعدما تفرغ من أعمالها الكثيرة لكي تدرس. مرة واحدة لمحته يرمق الشرفة فهمّت برفع يدها بالتحية لكنه اختفى بسرعة، ولم تعرف انه وقف عند الناصية يمسح عرقه، ويلوم نفسه لأنه ربما يكون قد أحرجها، ثم يمضي وقد أضاع العنوان الذي يقصده!
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أقرأ حياتي بماضيها وحاضرها والمستقبل، في عيني حبيبي.
قبل أن أحب كنت أفترض أن العين أداة نظر.
أنا الآن في حضانة العين… وبها ومنها أعرف العالم.
للعالم عنوان واحد أقرأه في عيني حبيبي.

Exit mobile version