طلال سلمان

هوامش

تخاريف رمضانية عن أحوال الأمة وإنسانها
جاءتني الرسالة التالي نصها بلا توقيع، وإن كانت تفتح الباب لجهنم الأسئلة المعلقة في سماء الضياع العربي… وها أنا أنشرها بلا تدخل، تمهيدا لأن نستكمل مقاصدها بالردود.
مع كل صباح يقف الانسان العربي امام المرآة ليعيد التعرف إلى ذاته: يدقق في ملامحه، يحاول التثبت من لون عينيه، يحف جلده بأصابعه ليستوثق من سمرة بشرته، يرفع صوته بكلمات أغنية او نشيد ليتأكد من متانة لغته العربية وقدرته على فهم الايحاءات والرموز وسلامة النطق ومواقع أحرف العلة في السياق.
يحس انه يخوض امتحانا مفتوحا لتأكيد انتسابه إلى العصر، وأهليته لاستيعاب مبتكرات العلم ومستحدثات التقنيات الجديدة التي تفرض عليه ان يطور عقله ومداركه على مدار الساعة.
وكل هذا أمره هين. لكن: كيف يمكنه حماية علاقاته مع أولاده حتى لا يختل التواصل وتسود حال من الغربة تغطيها فتموهها المجاملة أو حسن التربية فتمنع او ترجئ الانفصال الكامل بذريعة مقبولة هي اختلاف الأجيال باختلاف الأزمان.
في البيت الواحد أكثر من ذائقة، وأكثر من مزاج، وأكثر من طريقة للفهم. إن ما يسمعه الآباء من أغان تنشيهم وتشدهم الى شبابهم، ينفر منه الأبناء، بعد شيء من المجاملة المكشوفة، فيهربون ويلجأون الى غرفهم وتسجيلاتهم والبرامج المستحدثة في الفضائيات او الكنوز المختزنة في الانترنت ومشتقاتها ليسمعوا او يقرأوا ما يزيد مساحة البعد عن ذويهم.
لم يعد أحد كما كان، وانتفت المسلّمات وتهاوت البديهيات وصار لكل جيل منطق مختلف ومفهوم مختلف وذائقة مختلفة.
والمسافة بين الأجيال الى اتساع، في الشكل كما في المضمون، من الملابس، الى المآكل والمشارب، الى الموسيقى والفن التشكيلي، الى الاغاني والرقص، بل إلى العادات والتقاليد ومفهوم الدين واللياقات الاجتماعية واحترام التراتبية، فإلى نمط الكتابة نثرا وشعرا، رواية وقصة وخواطر فوضوية.
انشق البيت الواحد مجتمعات يتعاظم التمايز بين أفرادها الى تباعد ثم ينقلب التباعد الى شيء من القطيعة، بحيث يصعب ان يسمع بعضهم بعضا وان يصمد الحد الأدنى من المفاهيم المشتركة. لا الحب هو الحب ولا الصداقة هي الصداقة، ولا الموقف هو الموقف حتى مما كان يعتبر من «المقدسات».
ليس للوطنية او القومية او العروبة تعريف واحد.
ليس لفلسطين قداسة القضية. لقد وعى عليها الابناء «مشكلة». وليست لهم بها صلة المصير. لا يعرفون عنها الا انها مصدر حروب واضطرابات. لها صورة القتيل او الجريح او الأم الثاكل او الطفلة التي تبحث عن ذويها بين اكوام الجثث، بحراسة بنادق الاسرائيليين وتحت رقابة طائراتهم المن دون طيار، وموظف الاحصاء التابع للضمير العالمي.
والاسرائيلي اميركي المظهر والمخبر. هو العالم العليم، وهو القادر على كل شيء واي شيء، هو الجبار الذي يتحكم بالكون، هو الغني القوي الذي يعرف تفاصيل التفاصيل عن كل أمر من أمور الدنيا والآخرة. هو العلم والحداثة. هو التكنولوجيا ورقائق الكومبيوتر. هو الري بالتنقيط والطائرة الاسرع من الصوت والمفاعل النووي.
اما الفلسطيني (وبالتالي العربي) فهو كهل بكوفية وعقال وسيكارة مشتعلة دائماً، يشكو ويتذمر وهو جالس فوق ركام بيته وحوله أطفال، كثير من الأطفال، يرفعون اصابعهم بشارة النصر بينما جدتهم تحتضن شجرة زيتون مباركة لتحميها من أنياب الجرافات الاسرائيلية… وهي بالطبع لن تستطيع حمايتها!
اما العراق فبحر من جثث ودماء وبيوت مهدمة وجسور منسوفة، وأما لبنان فطوائف مقتتلة على إيقاع الدبكة في مهرجانات الطرب الصيفي.
وأما مصر فسحابة سوداء تظلل القاهرة ومسلسلات عن النهب المنظم وبيع التاريخ بالمناقصة العلنية، وتدمير الذائقة الفنية في مجالات الابداع المختلفة، وزوار اسرائيليون يقفون في مواجهة الاعلام وهم يلوحون بأصابع الارهاب والقدرة على اذلال النيل والاهرامات وتفجير السد العالي.
ما علينا والسياسة. لنعد الى جوهر الموضوع:
لا تواصل ولا اتصال بين الاجيال، لا في الوجدان والمفاهيم السياسية ولا في الذائقة الفنية.
الشعب الواحد يصير نثاراً من البشر بلا هوية جامعة ولا قيم مشتركة ولا رابط من التاريخ او النتاج الفكري الموحد.
يؤتى باليهود المختلفي النشأة في أوطان متباعدة وبثقافات متعارضة الى أرض فلسطين، فيغصبونها من أهلها ويتوحدون فيها ويصيرون شعبا لوطن لم يكن لهم في أي يوم.
ونختلف داخل الوطن على الوطن، وداخل الدين على الدين، وداخل اللغة على اللغة، وداخل البيت على البيت، وداخل الوجدان على الوجدان، فإذا الشعب الواحد شعوب شتى، وإذا الأسرة الواحدة أخوة ـ أعداء.
فلسطين الآن «عشرة» شعوب، وربما أكثر. لبنان عشرون شعبا، والعراق مئة شعب. اليمن أمم شتى، ومصر ضاعت عن هويتها فصارت ترطن، وقد كانت بيت الوجدان وحبل السرة بين القبائل العربية المتنافرة إلى حد الاقتتال.
لقد أفقدت الأمة اعتبارها ذاتها. صار العربي يهرب من جنسه، من لغته وأرضه ودينه وهويته. صار ينكر نفسه بوهم ان ذلك شرط لحياته بلا هموم يستولدها انتسابه إلى ذاته.
انه عصر التيه: قف امام المرآة وتأمل ملامحك. هل أنت أنت؟ فإن كنت أنت أنت فمن أنت؟!
ذلك بحث يطول. فليتأمل كل صورته، قبل ان نتعارف.
ملحوظة: واضح ان الأفكار المعبرة عن القلق يسودها شيء من الاضطراب.
لنفترض انها «تخاريف رمضانية».
غسـان مطـر وسـر المـوت
منذ دهر من الأحزان يعيش غسان مطر في قلب الموت، يدانيه فينفر منه، يحاول ان يصارعه فيستعصي عليه فلا هو يستسلم لليأس ولا هو يوقف حربه التي لا مجال للانتصار فيها، لأن الكلمة الأخيرة للقدر، والقدر غلاب.
لم يعد للحزن معناه النبيل بعدما جلبب الحياة واحتواها حتى لم يبق منها شيء خارجه… بماذا تقارن الوجع ان أنت لم تتمتع بالصحة فينبض قلبك فرحا تجلله ضحكات الاطفال وتقافزهم فوق كتفيك ليسحبوك الى دنياهم التي تعادل الجنة تدخلها، الآن، بوعيك؟
ولأن الشعر هو ملجأ الأمان فقد ترقرق حزن غسان قصائد وغنة ربابة تنزف اصابع عازفها لوعة الفراق، بينما روحه ترفرف فوق الذين غادروا وما غادرناهم وما زلنا نستأخر الوداع.
سحّ دمع غسان مطر حتى جفت المآقي. حاصرته الفواجع حتى صارت بيته ومكتبه وقلمه والطريق. احتلت لغته ونبضات القلب، هو الذي كانت طاقته على الحب غير محدودة.
ليس الماضي ماضيا لمن أُدخل اليه المستقبل أشلاء أحلام وملامح ابتسامات وصدى ضحكات كانت تجعل البهجة مسكناً للثنائي الذي كان فيض حبه يغمر الحي ويتمدد الى عواصم قريبة وبعيدة. اما بعد ان غدا ثالوثا فقد صار البيت بابا إلى جنة تجري فيها انهار الفرح.
يصعب عليك ان تقبل حياتك على انها الماضي.
لكن الماضي بات مسكن غسان ومهجعه، ينطوي فيه المستقبل في قلب الوجع. عليك ان تغني، اذاً، كي تكون في الحاضر. غنِّ كي لا يتحول غدك الى قبر. غنِّ كي تعوض الذين غابوا وتركوك وحيدا. صرت الثلاثة معاً. صرت خمسة، عشرة، مئة، الفا ممن تخلوا عنك او أضاعهم الطريق وصار عليك ان تكونهم جميعا. صار التقييم ترفاً لا يليق بالحزانى. كيف تقيم من صرتهم بعدما صاروا فيك؟
سافر مع لوعة الفقد إذاً من «لارا» إلى ماغي فإلى ممدوح عدوان فإلى يوسف سلامة فإلى محمد الماغوط وإلى كل شهيد لم يعد اليك الرسالة مقفلة، وإلى كل طفل شكا من غرابة ما أنشدت أمه قبل ان ترضعه:
«رأيان في الموت لي/ رأي يقول انا كالله باق
ورأي انني فان/ فكيف أبدأ ايامي واختمها..
وكيف انجو ولي في الموت رأيان»؟
وهكذا اندفع غسان مطر يرتكب معصية طرح الاسئلة:
«كثر الكلام وليس في الآيات ما يصل السماء بروحنا
نمضي وزورقنا السؤال وأول الموت الجواب».
الموت، الموت، الموت… هو اللازمة والقافية ومتن القصيدة:
«يحتاج الناس لأكثر من موتين لكي ينتبهوا
لا وقت امام الوقت لغير حراسة باب الموت».
فإذا ما استبد الحزن، أطل «الوالد الهاشل» محمد الماغوط الذي كان سر المحابر مختلفا في اصابعه: «أقمنا طويلا على بابه/ نتسلل مثل لصوص الحروف لنسرق احجية الكيمياء التي كان منها يفاجئنا».
هو الموت دائماً، الصاحب والنديم والرفيق، وهو هو الذي يختطف الذين كانوا بعض اسباب الحياة وبعض معناها… وهو من اختار ممدوح عدوان وقد كانت الكأس الأخيرة من يديه.
يستدرج النشيد إلى بكائية مع التي غابت وغيابها مستحيل، وصمتت وكان غناؤها لحن الحياة، ومع ان الاحبة قد رحلوا وان ظلوا في بطن العين، فهم ها هنا، بين قلب وخنقته، بين عين ودمعتها، يملأون الغياب:
«اشعلي شمعة في الرواق لأمضي ولا أتعثر نحو مدائنك المترفة
من زمان تنادينني وانا لا أجيب، فقد آن ان أعرف الآن ماذا تريدين مني
أشعلي شمعة في الرواق لامضي، تعبت من القلق الآدمي/ تعبت من الخوف وانصرف الناس/ لم يبق مني سوى جثة/ تشتهي ان يمد الغياب الثقيل على وجهها معطفه».
غسان، لا تغامر بقلبك. نحن نحتاج إلى قلبك واغنيتك، وكذلك إلى الذين سبقوا في الغياب. فأنت الشعر لا الرثاء، انت الحزن النبيل لا الدمع. انت جميع من أحببنا.

زاهي وهبي وقصيدته امرأة واحدة
يعيش زاهي وهبي عمره في قصة حب تتجدد كل لحظة، وتشعر بأنه يكتبها وهو يغمس قلمه في تفاصيلها حتى لا تسقط منها فاصلة او تقع نقطة في غير موقعها فيختل الايقاع.
انه يرسم قصة حبه، ويلحنها، ويغنيها، ثم يلجأ الى التطريب كي يستدرك بعض ما اغفله او غفل عنها، ويعود كرّة أخرى الى اللازمة فيعدل او يضيف او يزين الحكاية بشرائط ملونة ترافقه من الباب إلى الباب، من اللفتة إلى اللمسة، من الدهشة التي تأخذ الى اللذة، فإلى النشوة التي تصير مهرجانا من الفرح.
في ديوانه الجديد «راقصيني قليلا»، يجتهد زاهي لاكمال قصيدة، غنانا مطلعها قبل زمن. والقصيدة امرأة قد تكون كل النساء وقد تكون مفردة ابتدعها مفرد. لكن الأوزان والايقاعات شتى. وهو يغنيها بكل ما تحفظه ذاكرته من ايقاعات، وبكل ما تبتدعه الملامسة من ارتعاشات، حتى تكتمل سيمفونية الجسد الذي لا يكف عن التجدد ويُتعب زاهي وهو يتابع تحولاته وقد أسكره التشهّي.
لقد سكن جسدها. صار بيته وديوانه. صار كأسه وورقه. صار القصيدة التي كلما قاربت الاكتمال انتبه الى انه اغفل شهقة، او تأوهاً، فعاد يستدرك فيضيف أجراس الميلاد برنينها المسكر ليطمئن الى سلامة البدء الذي كان كلمة.
أما حين انشق الجسد عن حياة جديدة، فقد صارت «العيون معلقة على هواء صرخة جديدة». ها هو الحب يعطي ثمرته الاولى:
«يدك لينة/ تترك قفيرا في الوجنات/ نجمة في النهار
وجهك السكري/ سماوات سبع/ خيمة زرقاء».
يتوزع الحب الآن على اثنين… لكنه حبان، والحبيب الاول يظل الاول. وهو يحب امرأة بلا تعب. ويحبها في كل الاوقات، في كل الأمكنة وبكل الكلمات التي اختزنتها ذاكرته ليقولها فيها:
«في المغيب الساحلي كنا معا/ نجمان يقتربان من ليلهما معا/ كلما أرخى المساء ظلا تعانقا اكثر/ الشفتان من كرز وخرز/ والانفاس من هديل الحمام… حين لا يتسع ليلك لي/ لا ضرورة للنهار».
أخطأ من افترض ان الزواج هو النهاية السعيدة للحب. زاهي وهبي يفترض ان حبه قد بدأ قبل ولادته، وانه ممتد بلا نهاية وانه يتجدد كل لحظة، وأن قصيدته ستظل مرشحة لأن تُكتب دواوين عديدة.
زاهي يخالف القاعدة التي تقول ان من تزوج من حبيبه خسر مرتين. ها هو زاهي يباهي بجوائزه العديدة.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
متى نقص الحب غاب الجمال عن ناظــريك. ترى الدنيا بعيون حبك مسرحاً للمتــعة والبــهاء. ازرع الحــب في حياتك. اجعــله العنوان والخاتمة. افتح عينيك ترَ حبك يفتــح لك ذراعيــه كــي تكون لكما الحـــياة.

Exit mobile version