طلال سلمان

هوامش

الحب كحلم ليلة صيف… في أحضان الحاصباني
افتح حلمك، وادخل فيه!. أعد صياغته، وعشه بتفاصيله! أضف اليه رعشة انبهارك بالجمال، قمراً على وشك الاكتمال، امرأة على حافة اللذة، رجلاً يحمل قلبه على يديه ويدور به على النساء فيفزعن الى المهاجع مترنّحات وما هنّ بسكارى.
ها أنت عند عتبة الحلم: الحاصباني يخترق الليل هسيساً، وبين أشجار الكينا السامقات والصفصافات التي تغزل بأغصانها البواكي صوت الشجن، يتوزع الآتون إلى الفرح بالإنجاز على الطاولات التي ستنوء عما قليل بما سوف يراكمونه فوقها من أعباء النهارات المحنيّة ساعاتها بأثقال صراعات ديكة الطوائف الذين لا يعرفون الحب.
كل من هنا أتى بشوقه الى الفرح. قطع المسافة بين همومه وبين ليلة العيد مغالبا خوفه من الليل ومن اشباح مخلفات جيش العدو المقهور بإرادة الناس البسطاء الذين يحمون حق الحياة بالاستشهاد، بقرار واع: أنت هنا عند عتبة البهجة فاقتحمها!
[[[
رف بجناحيه وطار. تخفف من أثقاله جميعا، ألقابه، أقلامه، أحلامه، أوهامه وقرر أن يرميها في مياه النهر الذي أتعبه الهجر.
إنه عرس الفلاحين: الناي الطافح بوجع الآهات والطبل الذي يستدعي العابرين إلى الحلقة حيث تشابك الأذرع النهود، وتسمح الصفوف الملتوية بالقبلات المسروقة، أما المساحة المتروكة لبعض أشعة القمر المتسللة من بين أغصان الصفصاف فتسمح بالعناق الذي يذوب همسة في سقسقة مياه الحاصباني الذي طالما شهد تلاقي العائدين إلى ذواتهم بعد فراق.
استخفه الطرب فانطلق مع نشوته خفيفا.
أصابت العدوى بعض صحبه فتسابقوا إلى حلقة الدبكة زرافات ووحدانا. وظل وحده يحلق بعيدا، بعيدا، حتى انتبه أنه قد صار في عليائه وحيدا.
قالت الأولى: خذني معك.
قالت الثانية: لن تستطيع أن تلحق بي.
قالت الثالثة: هذه نوبة جنونك!. سأنتظرك هنا. لن تبلغ السماء. أعرف أن جناحيك لن يحملاك طويلا!!
كان قد صار فوق، تصله الأصوات همهمات، وتصله الأغاني طرباً مصفى. أما الراقصون والراقصات فكانوا يندفعون مأخوذين بحماسته، ويجتهدون في أن يدانوه فإن عجزوا فلكي يستعيدوه.
قالت الأولى: أتركوه لي! أنا أعرف سره.
لكنها ما ان لامسته حتى أخذتها نشوته فانفلتت ترقص له: تتابع خطواته، تدور معه، تنعطف لتكون في أحضانه فينفر مرتفعا إلى الأعلى فالأعلى وقد صارت عيناه نجمتين.
أما الثانية والثالثة فقد انهمكتا في مباراة للسخرية من تلك التي توهمت أنها حمامة!
[[[
وحده «ابو يحيى» ارتقى إلى حيث كان ينتظره، فحمله ونزل به إلى حلقة الرقص، وطاف به على جناح الإيقاع وسط حشد الفتية الذين وصلوا إلى الحفل طائرين فاصطادتهم الصبايا المتلهفات إلى الفرح فمضوا معهن إلى الأعشاش المعلقة في أشجار الصفصاف لإيقاظ الحساسين.
قالت الأولى: إن ظفرنا بأبي يحيى كان لنا الفارس الطائر، ومن فوق جناحيه سنختار من يستحق أن نعطيه الرقصة التالية.
قالت الثانية: لا تغرنك شيخوخة أبي يحيى.. أنه في منتصف ثمانينه ولكنه أعظم فتوة من طائرنا المستوحد… سيكـــشف غربــتنا وضعفنا وشوقنا الى الرجولة التي نفتقدها في معظم هذا الحشد من الأزواج المتماوتين أمام نسائهم.
في الجهة الأخرى كانت ثمة سيدة تجدد شبابها بإرادتها، تستدرج بعينيها الفتى الطائر، بينما صديقتها التي قررت أن تسكن خارج عمرها تغمز له أنها هي الأصل تفكيرا وقرارا وتدبيرا وتشوقاً الى التجربة.
فكر في عليائه: هما دائماً معاً بحيث ينعدم الخيار.
فكر أيضا: كل منهما تستدرجه بالأخرى، حتى لم يعد يعرف أن يميز بين الراغبة والمرغوبة.
فكر أخيراً: ولماذا يضع نفسه بين ناريهما. ليس أكثر من النساء، من أرادته فلتأته تتقدمها رغبتها، فتتأكد حريته.
مال يتفحصهما للمرة الألف: الأولى أجمل ولو انها باردة، والثانية انشأت في عينيها زريبة للشياطين. الأولى مغرورة، ليس في مدى نظرها مساحة لغيرها. إن لم تجد مرآتها ذهبت إلى النهر لتتأمل فوق صفحته جمالها فتتغزل بعينيها الواسعتين، بعنقها الطويل، بشعرها الذي تستبدل ألوانه وتسريحاته كل يوم، ثم تطمئن إلى ذكائها عبر نظرات الغيرة التي ترمقها بها النساء حين تخطر أمامهن باستعلاء، وإن خصت الرجال بلفتات غواية عابرة.
توسط أبو يحيى الحلقة الآن، وأخذ يرفع الفتيات من الراقصات بعصاه فيوزعهن على شاربيه المعقوفين ثم يرمي كلا منهن في أحضان فتاها المحترق في غيرته وهو لا يجرؤ على التباري معه، ولو تبدى عجوزاً، اذ يعيده الناي الى شبابه الأول فإذا حلقة الدبكة تنادي اليها الكهول الواثقين من أنهم سيرجعون منها وقد استعادوا الذي كانوه قبل ألف عام.
[[[
الحب مشاع، كماء النهر، كالنسمات التي تبعث بها أغصان الصفصاف وهي تصطنع النواح المشجي، كضوء القمر الذي ينساب رقيقاً فيسمح بالالتباس وادعاء اختلاط الوجوه على مختلسي القبلات او إرسالها طائرة.
قالت امرأة لزوجها الذي يرتدي ثياب شبابه: قم بنا نغبّ من نهر النشوة، لعلك تطفئ بعض عطشي.
قام معها إلى الحلبة التي كانت قد صارت حلقة من نار. انفلتت من بين يديه وأخذت تدور والأرض تدور به، فلما دانى كرسيه انطرح عليه منهكا، ثم أخذ يصلح وضع المنديل في الجيب العلوي للسترة التي يرتديها للمناسبة، توكيداً لشبابه الدائم.
وحين عادت مدت يدها إلى منديله لتمسح عرق المتعة، فإذا هو ينتصب واقفاً ويهمر: تأخر بنا الوقت.. عليّ ان أصحو باكرا لموعد مهم؟!
حادثت نفسها: وموعدي… لقد ظننته الليلة؟!
انطلقت أمامه راقصة واخترقت به الحلبة، لكنه أمسك بها من يدها وجرها نحو باب الخروج محنقا بينما هي ترمي بعينيها الى الخلف تودع الحلبة بدموع اختلطت فيها النشوة بالحنق.
غير بعيد عنهما كانت تلك السيدة التي جاءت راقصة لا تزال تدور في الحلبة، تبحث عن فارس يسحبها إلى البعيد، مركزة على من تراه ضجرا من صحبته، فإذا وجدته ظلت تتلوى أمامه حتى ترفعه زوجته اليها وكأنها تتحداها ان تجد فيه ما تطلبه.
أما تلك المرأة التي خرجت من الحلم وجاءت اليه قبل أن يطلبــها فظلــت تــتابعه، وكلما هم بالهبوط من عليائه بادرت إليه، فأعارته بعضا من جناحيها، وقد فتحت قلبها مهبطاً ومثوى لفتات الأحلام التي تــزيّن الحياة فتجعلها جديرة بالعشاق الذيـن يعطونها المعنى.
هل عرفت لماذا يتهادى الحاصباني وقد تعتعه السكر؟!
إن مياهه من أحلام ليلة حب تمتد عبر العمر لتغدو أغنيته التي من موسيقى القبلات وتنهدات الوداع الذي يأتي باكراً.. وقبل صياح الديك!
(تحية لكامل وعامل وجبل عامل)
تهويمات/عن رجل تترامى النساء على قدميه
دخل على مكتبي مشعث الشعر، وقد غابت عن ثيابه لمسات الأناقة الخاصة التي تميز بها دائماً. قال: لديك بعض ساعة من الوقت؟
وقبل أن أجيب قام بنفسه فأغلق الباب ثم ارتمى على المقعد وطفق يتكلم كمن يحدث نفسه. قال: لقد تعبت من النساء. كلما عشقت واحدة منهن اكتشفت أن غيري قد سبقني إليها، أو أنها عبثت بي لكي تستثير غيرة من ترغب فيه وتريده. وكلما عشقتني امرأة خفت من أن تكون عابثة فقسوت عليها حتى هربت مني لا تلوي على شيء.
كنت أستمع بقليل من الدهشة… وقد زادت دهشتي حين توجه إليّ يسألني: ماذا عليّ أن أفعل؟ يكاد عمري يضيع تحت أقدام النساء! لا أستطيع أن أعيش بلا عشق. لا تكرز عليّ نصائحك، ولا تبدأ بتشريح العواطف والشهوات. أريد امرأة تكون سريري وأكون فارسها وحاميها. أريد امرأة لم تعرف قبلي أحداً حتى أجعلها ملكة العالم فلا تعرف بعدي أحداً. أعرف ما أريد: أستطيع أن أعطيك مقاييس صدرها ولون عينيها وطول شعرها وأنواع العطر والكحل وأحمر الشفاه مما أحب. أريد امرأة لأكون لها إلى الأبد.
صمت، فران علينا الخرس. التفت إليّ شزراً، فابتسمت، وعندها قام مغضباً وأغلق الباب على صوته وهو يقول: عذراً، لقد أخطأت العنوان… لن تدلني عليها، طبعاً، ستأخذها لنفسك، أنا الأبله وقد جئتك على قدمي لتسخر مني. لقد خدعتك، فالنساء يترامين عليّ، وكنت أريد أن أعرّفك على بعضهن لكنك لئيم لا تستحق مثل هذه اللفتة!

مــن أقــوال نســمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا تنتظر أن يقتحم الحب عليك باب غرفة نومك. افتح قلبك تجده أمامك، فيتوارى حذرك وينقلب خوفك إلى وسادة لاثنين.
لا يأتيك الحــب جاهزاً. هو من حولك، ينتظر أن تمد اليه يدك فيــمد يــده وتغــزلانه بعينيك وعينيه، بيديك ويديــه، فإذا أنتــما في جنته. افتح قلبك يمتلئ!

Exit mobile version