طلال سلمان

هوامش

عن الشعوب .. كإطار جماهيري للجنازات الملكية!
يغيب الملوك ولا تحضر الشعوب.
يسمح الموت »للجماهير« بأن تنزل الى الشارع، وداعاً للراحل الكبير، وإظهاراً لحجم الفجيعة ولوعة الغياب، فإذا ما عادت الحياة سيرتها الأولى أُفرغ الشارع على الفور، لكي يستطيع السلطان الجديد أن يفكر بهدوء بهموم »الجماهير« المتروكة إرثاً ثقيلاً له، وثقيلاً عليه!
تنزل »الجماهير« إلى جنازة يتقدم موكبها رئيس رؤساء الكون، ملك ملوك الكرة الأرضية وفضائها والمحيطات والبحار، وإلى يمينه »خاقان البر والبحر والجو لمنطقة الشرق الأوسط« إيهود باراك!
تتعجب الجماهير، لنقص في وعيها: إن كان »الميت« يخصها فما علاقة كلينتون بالأمر؟! وإن كانت الجنازة لمن تحب، فلماذا يجيء باراك؟!
تتساءل الجماهير، بشيء من السذاجة: إذا كان »الفقيد« طيباً فإن مشاركة »الأغراب« الآتين من خلف الخصومة إهانة له ولها، أما إذا كان غير طيب فلماذا الحزن عليه والنزول إلى الشارع لتشييع جنازته؟
تتلفت الجماهير من حولها باحثة عمّن تبثه شجونها فلا تجد غير الفراغ وغير الأسئلة المعلقة في فضاء الأحزان! فتهرب إلى الذي لا يغيب.. إلى الله!
تتساءل الجماهير بعفوية: أهو فقيدنا أم فقيد كلينتون وباراك؟! وأين المشترك بيننا جميعاً، الموتى والأحياء؟!
للحزن بوابات كثيرة، وليس للفرح نافذة أو طاقة!
ولعل الجماهير تسائل نفسها عن أسباب حزنها وهل هي ظروف »موته« أم هي شروط »حياتها«؟!
ثم إن الجماهير تأخذها الدهشة وهي ترى صورها، باكية ملتاعة معولة نادبة، تبثها شاشات التلفزيونات العظمى في العالم لساعات طويلة، فتلتفت إلى حالتها تبحث عما فيها يدعو إلى مثل هذا الاهتمام الاستثنائي!
أليس غريباً أن ينال موكب تشييع ميت من البث التلفزيوني المفتوح بمدى الفضاء وعلى مدار الساعة، أكثر مما تنال حياة شعب تعداده يقارب الثلاثين مليوناً من الآدميين، ومشكلاته من الكثافة والتعقيد والصعوبة بحيث يحتاج مجرد عرضها (من دون الحلول) إلى عشرات الساعات من البث غير المسلي وغير المؤهل لاستدراج إعلانات تغطي كلفته.
صارت »الشعوب« لقطة ثابتة في فيلم ملَكي متحرك!
صارت الشعوب مجرد إطار جماهيري للجنازات الملَكية!
وصار مصدر الشهادة »بعظمة« الحاكم العربي وخطورة دوره، أن يشارك »ملوك إسرائيل« في جنازته، مما يفرض على الرئيس الأميركي الحضور وممارسة »المشي البطيء« بدلاً من »الهرولة« التي يبدأ يومه أو يختمه بها، لمدة ثلاث ساعات أو يزيد!
وكلما أُضيف إلى رصيد عظمة السلطان الراحل تنقص قيمة الشعب الباقي بعده، والذي برغم حزنه لم يرحل معه!
الدول العربية، ممالك وجمهوريات، هي في الواقع: أفراد، إذا ما غابوا »سُحبت من التداول«، وتم وضع اليد عليها عبر »الوارث السعيد« الذي لا بد له من »تأديب وتثقيف وتدريب« ليعرف كيف يسوس الحكم فلا يخلعه.
الأحزان العربية سلعة ترويج للأميركيين وفرصة ذهبية مفرحة للإسرائيليين من أجل »التطبيع« والمزيد من التطبيع.
ولأن العرب عاطفيون فهم يحفظون الجميل لمن شاركهم أحزانهم، حتى لو كان هو السبب المباشر في الكثير من تلك الأحزان.
ولأن العرب يتهيّبون الموت، باعتباره حقاً، ويرفعون أصواتهم خضوعاً وتقبلاً لإرادة مانح الحياة: اللهم لا اعتراض! فهم يحترمون الأموات احتراماً يتجاوز أدوارهم وإنجازاتهم وهم أحياء!
تقول العرب: اذكروا محاسن موتاكم!
أي إنهم ينسون، بل يتناسون مساوئ موتاهم، أو يغضون الطرف عنها أو يمتنعون عن الخوض فيها والتشهير بها، ويحاولون ونادراً ما ينجحون ألا يذكروا إلا محاسنهم!
لكن مثل هذا الأمر ليس متاحاً دائماً!
فكثير من الراحلين لم يتركوا خلفهم من المحاسن ما يمكن استذكاره والإشادة به.
… بل إنهم في الغالب الأعم لا يتركون إلا ما يستدعى تغييره سلماً أو الانقلاب عليه بالقوة، أو الاكتفاء باستمطار اللعنات على »الفقيد الغالي« الذي غادرهم وهم في حال أسوأ مما كانوا عليه يوم »تسلَّمهم« إرثاً من أسلافه.
محزن منظر الشعوب وهي تسير في جنازاتها، تبكي نفسها، تبكي غيابها، تبكي انعدام تأثيرها، وتبكي خوفها من »المجهول« الذي سيحكمها بعد رحيل من حكمها طويلاً، ولعلها كانت تتمنى له في سرها الموت!
تخافه حياً وتتمنى له الموت، حتى إذا ما اشتبهت أن الموت قد يلبي نداءها فيحضر لاسترداد »الوديعة الإلهية« تعاظم خوفها من غيابه، فتمنت على الإرادة الإلهية أن تستأخر رحيله… فإذا ما جاء أجله الذي لا يتقدم ساعة ولا يتأخر، وافترض الموت أنه يلبي نداءها ورجاءها فيريحها ممن أرعبها وحرمها متعة الحياة، انفجر حزنها على نفسها إذ هي لم تعرف في حياتها غيره لتقيس به أو لتهرب إليه، ثم إن ما بعده نفق من الغموض والتوجس والعتمة والظنون والتقديرات الافتراضية التي لا تستولد يقيناً ولا تهدئ روعاً!
يسود الصمت، وتعم الهدأة، ولا يتبقى من الأصوات إلا ما يأخذك إلى الله: الله أكبر! لا إله إلا الله! الحمد لله وحده! اللهم إننا لا نسألك رد القضاء إنما نسألك اللطف فيه! اللهم هوِّن علينا! اللهم إنا لا نعرف من ظاهره إلا خيراً! اللهم أنت مولانا ومنشئنا ومرجعنا وإليك المآب! يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية! سبحان الله. لا حول ولا قوة إلا بالله. ارحمنا يا أرحم الراحمين.
السياسة لا تعترف بالحزن.
لذا تصير الجنازة مناسبة سياسية ممتازة لإنجاز ما يصعب إنجازه في ظرف طبيعي.
تمتد الأيادي مخترقة المحرّمات فيتصافح »الأعداء«، ويُكسر جدار الصمت وينهار »الحاجز النفسي«، ويتبادلون التمنيات لاعنين الماضي، مستبشرين بالمستقبل!
فجأة يتحول الموت إلى مناسبة سعيدة، سياسياً!
يصير الموت القدري كأنه موعد سري مضمر لإعلان ما قد يكون صعباً »تمريره« خلال الحياة.
تنتهي مسيرة الجنازة فإذا كثير من »المشكلات« أو »الإشكالات« قد تمّ حلها، مما يضيف الكثير من التقدير إلى سيرة الراحل العظيم الذي »خدم« بموته أكثر مما »خدم« في حياته.
يعود كل من حيث أتى… بمن في ذلك الفقيد: أليس إلى التراب يعود الجميع، ولو ملوكاً وأباطرة؟
تعود الجماهير إلى بيوتها وأكواخ الصفيح والجحور التي تزدحم فيها العائلات التي لا تكف عن التوالد، باعتبارها »المهنة« الوحيدة التي لا تتطلّب كفاءة عالية من الرجال والنساء، وباعتبارها تلبية أو تنفيذاً لوصية إلهية بزيادة عدد المؤمنين..
يفرغ الشارع من الجميع، فلا يبقى فيه غير صدى الآيات القرآنية والأدعية واسم الله..
وهكذا عندما يعود الناس إلى الشارع، مرة أخرى، ستكون شعاراتهم بالتحديد تلك التي لم يتبق غيرها بعد رحيل الفقيد والمعزين والآتين إلى الصفقات السياسية السعيدة في لحظة الحزن العميق!

من الفرد إلى العولمة .. بلا توقف!
قال لي شاكياً: شكراً لمن اخترع الهاتف الخلوي! لولاه لما كنت أستطيع الاطمئنان إلى صحة أولادي! لقد انتهت »أيام زمان« حيث كانت الأسرة وحدة اجتماعية متماسكة، تلتقي صباحاً إلى مائدة الفطور، وظهراً إلى مائدة الغداء، ومساءً للسهر والسمر بعد العشاء. صار لكل »ظروفه« الخاصة، واهتماماته الخاصة، ومواعيده الخاصة، وصار تلاقينا بكامل هيئة الأسرة يستدعي اتصالات كثيفة ومساعي حميدة ومصالحات وضغوطاً معنوية وربما مادية… وربما لهذا كله تنعقد »قممنا« العائلية في جو من التوتر والضيق واستعجال النهايات ليعود كل إلى ما يهمه.
لم أعلِّق وإن ندت عني تنهيدة شكّلت نوعاً من الموسيقى التصويرية لخطاب صديقي، ولعلها شجعته على أن يتوغل داخل همومه همومنا، فعاد يقول:
تأملهم، أبناء الجيل الجديد الملعون.. إن واحدهم يعيش حياته وحيداً! إنهم ليسوا اجتماعيين، بل هم ينفرون من الآخرين! والعصر يساعدهم، فواحدهم غير مضطر لأن يشترك مع الآخرين في أي شيء! كنا نلتقي من حول المائدة، الأكل الجاهز الآن يغني، و»السندويتشات« متنوعة وتلبي »تسرّعهم« وانعدام ملَكة التذوق لديهم! وكنا إذا رغبنا في شيء من »التغيير« نقصد مطعماً كنوع من التقليد الاجتماعي، وهناك نلتقي بآخرين ونكسر »الروتين«. هم لا يريدون أحداً معهم أو إلى جانبهم. إن واحدهم يأكل لوحده، يسمع موسيقاه لوحده، »فالووكمان« يعفيه من ضرورة المشاركة مع الآخرين، يرى فيلمه أو أفلامه لوحده، على الفيديو، وبغير مشقة الذهاب إلى دار عرض… وها هو الآن يحمل هاتفه الخاص، فلا يضطر إلى استخدام هاتف المنزل والخضوع بالتالي »لرقابة« الأم أو الأب: يتحدث مع من يرغب في الحديث إليه، ويمتنع عن الرد على أية مكالمة ممّن لا يريد أن يحاوره أو أن يستمع إليه! هذا قبل الحديث عن الانترنت والكومبيوتر الذي قد يوصلك إلى العالم ولكن بصمت، ولوحدك، بغير حوار وبغير شريك!
كل لوحده. كل بلا شريك! وليس شريكاً مع أحد في أي شيء!
العولمة؟! وجهها الآخر عالم الأفراد الذين لا يلتقون ولا يتحاورون، وينعزل بعضهم عن بعض فيصيرون نسخاً متكررة عن »أصل« في طريقه إلى الانقراض!

تهويمات
} كتبت في كراستها: تشربني بعينيك، تمد لي أرجوحة التمني، ثم يأخذك مني الخوف فتنهرني بصوتك الذي يصير مزيجاً من الحطب المحترق وحجارة المغاور المهجورة للبرد والخفافيش وأشباح التنين!
لو أنك قوي لأحببت. الضعف يأخذك إلى الخوف، والخوف إلى القنوط، والقنوط إلى الكراهية، فخذ حياتك بيديك.. هيا، أنتظرك على شفا الغفوة.
} قال الصديق بحزن: لقد انتهيت! بتّ عاجزاً عن الحلم!
قال صديقه بغير فرح: أما أنا فقد بتّ حبيس أحلامي التي لا مجال لأن تخرج إلى الحياة.
قال الصديق: لو أن الأحلام تُستعار أو تُباع لاشتريت.
قال صديقه: … ولصرت أنا واحداً من الأغنى في العالم.
} قال المراهق: تعبت من سيطرة »صورتها« عليّ. أغمض عينيّ عليها، وأفتحهما فلا أرى غيرها! وأفكاري بيضاء مثل الضباب الذي لا مطر فيه ولا هو يقيني من هجير الشوق. إنني أتأرجح بين أن أحبها بلا حدود أو أن أكرهها حتى الموت… كيف السبيل لأن أرى؟! أليس من نسمة هواء، تكشح هذا الركام من الضباب؟!
تسلّل إلى سمعه صوتها، فهدأ تماماً، وانبثق العرق غزيراً فغطى وجهه، فمسح عينيه بكمه، واندفع إليها وهو يقول: ومَن قال إنني بحاجة إلى عينيّ لكي أراها!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
حبيبي هو كرامتي ولا انفصال بينهما. ألسنا واحداً؟ كلما ابتعدت عنه دهمني الخوف، وأخذني الشعور بالضآلة إلى برد الوحشة! أنا في حبيبي، بجسدي وأفكاري، بعواطفي وآرائي. لست خارجه، به أكتمل، وبي يصير عالماً من الفرح والمتعة، فلماذا أغادره إلى القلق والخسارة. هو زماني ومكاني وأماني، وما تبقى تفاصيل مملّة!

Exit mobile version