طلال سلمان

هوامش

عن الطفل الذي يعلمنا الشعر!
.. وحين تضيق بك أو عليك مدينتك تهب طفولتك لنجدتك بريفك الذي غادرته ولم يغادرك فيُنطقك شعراً عذبا كالذكريات.
لكنها ليست ذكريات تماماً. ليست الصورة الأصلية لما كانته قريتك ولما كنته فيها. فلا هي اليوم ما تقوله فيها، ولست منها تماماً، فإن اخرجتها من الشعر فلن تجدها.
كبر الطفل. رجل اليوم ليس ذلك الطفل الا بالتمني. انت من المدينة ولست فيها فقط، حتى لو أنكرتك المدينة فأنت منها. هي أيامك ولياليك وحصيلة تعبك. هي حاضرك ومستقبلك، لكنها على كبرها وشواهق مبانيها وتعدد احيائها وأزيائها لا تختصرك ولا تلغيك. بعضك ما زال هناك وسيبقى.. حتى لو امحت البيوت التي شهدت مولدك وخطاك الأولى وغامت صورها في البال. ستظل تراها بقلبك وان اخطأت العين بعض مواقعها او عاندك الاستذكار وأنت تحاول رسمها مجدداً.
يشدك الطفل اليه كلما غفلت عنه، وتستذكره كلما تكاثفت عليك همومك في المدينة. هو ملجأك الأخير. تستعير منه ضحكاته أحيانا، تودعه في أحيان أخرى أسرارك العاطفية، فاذا ضاقت عليك ظروفك تدخّل ليذكّرك بأنك قادر، بعدُ، على المواجهة، وانك ان عدت الى ما كنته وتخففت من بعض ما صرت اليه حققت فوزا على ذاتك وعلى الظروف التي تحاصرك.
يأتيك الطفل في نومك فيغزل احلامك. ويتقدمك وأنت تغز السير في طريق الصعوبة. يتحداك في ان تلحق به، فإن امتنعت فلن يقبل منك عذر التقدم في السن. الاحلام لا تشيخ. قد يحمل ابن المئة عام أحلاماً تحمي روحه وتحفزه على تحدي الاستحالة.
وكثيرا ما يحرجك الطفل فيك امام من تفترض انك صرت منهم ومثلهم في المدينة. يطل في غفلة منك لــيبدي رأيه صريحاً عبرك فيهم، في مسلكهم، في نفــاقهم الاجتماعي، وقد يقول بلسانك ما لم تكن ترغــب في اعلانه تجنبا للاحراج، او خشية ان تُطــرَد من ناديهم المديني، حتى لو كانوا بأكثريتــهم السـاحقة ريفيين مثلك.
لكن الطفل فيك لا يخطئ ملاذه: انه يسكن وجدانك، فاذا ما امسكت بقلمك كتبك. هو من يملي عليك، وهو من يضبط الايقاع كلما شطح بك خيالك او نفاقك لرسمك الجديد. ألست ترى قصائد الشعراء جميعاً في مسوداتها الأولى وقد جرّحها التشطيب؟!. يسمح لك الطفل بان تسافر مع خيالك الى حيث شئت، لكنه يتدخل اذا وجد ان الشطط قد أخذك بعيدا عنه. هو الشاعر فيك لا انت، المصنّع حديثا، المتحذلق، الذي يكتب لغيره، او ما يرضي غيره، والذي قد يغيّب نفسه حتى لا يُحرج مع غيره.
الطفل ذاكرتك. هو ما نسيت، واحيانا ما تريد ان تنسى. وهو محكوم بعدم النسيان. في لحظات كثيرة تنفصل ذاكرتك عنك، تصيران اثنين متكاملين، وأحيانا متناقضين: كثير هو ما تريد ان تنساه، او انك تريد اعادة صوغه بما يتناسب مع مكانتك الجديدة، لكنه هو لا يعرف الكذب، وليس من هواياته تحريف الصورة الاصلية، بل انه الحارس الأمين على تلك الصورة، فهو فيها ومنها وبها.
راجح خوري يُغرق حرمون في بوابات الماء
«بوابات الماء» قصائد كتبها الطفل في راجح خوري.
ولان راجح خوري ممن يتبعهم الغاوون فقد حفظ الطفل فيه، وحماه من ركام التفاهات السياسية التي تسيء الى لغتنا وتحقر عقلنا، خصوصا ان «اقطابها» يدعون أنهم بها سيحققون كرامة مواطنيهم وسيحررون ما احتله العدو الاسرائيلي من ارضهم التي كان اسمها فلسطين وما زال اسمها فلسطين وان هي احتوت مصر وما خلفها وبلاد الشام وما بعدها حتى «بوابات الماء».
الطفل هو الشاعر، هو من حفظ زهور الصعتر والتوقيعات المنمنمة على الحبق، وهو الذي وشم الزند بجراح الزعرور. هو الذي راح يتعلم دروسه مع الغجر:
«عند حافة الشير هبطت كوكبة المساء/ لم يكن الا السكون فالصخور عائلة تتكئ على كتف السنديان».
من الأرض التي كانت واحدة فقطّعت حتى بات اصحابها اغراباً فيها، جاء راجح خوري الذي يعرف ابوه بلاد الشام بالشبر، يقطعها طولاً وعرضاً بدون ان يطالبه العسس بوثيقة السفر، او يحجزه «العدو» عنها فلا تغادره ولا قلبه يغادرها: الجبل هو الجبل، يمتد من شرق الشرق عبورا بالشمال الى جنوب الجنوب حيث تغسل قدميه بحيرة طبريا. هناك اسمه جبل الشيخ، هنا اسمه حرمون، والى الأدنى يتدرج هضابا تحمل اسم الجولان.
«لم يكن للماء بوابات ولا للأعماق مداخل. البحر مقفل مثل شرنقة تختزن العويل والقواقع في سكون!. من اين دخل الفجر اذن؟ وكيف نبتت شجرة الظلال والمدى وانهمر قطر الندى؟!».
لكنه سيظل يتذكر ذلك اليوم القاطع كنصل: «كنت ثقيلا على وسادة الشام.. وعند حد المعضلة التي ستصير سفينة ومحبسة او زيتونة لتعليق النذورات/ حطت على الغصن المتيبس قطرة من أنامل الله..».
على ان «أيوب» يستطيع اكثر، لذا قال له السأم: قم أيها الحطام واصعد حرمون! وقام ايوب وبدأ يصعد. صار يذوب هضبة بعد هضبة.
فجأة تحضر بيروت وبحرها فتتداخل الصور التي حفظها «الطفل» قصائد وترك للمهاجر بلا وثيقة سفر أن يجعلها موسيقى: «وبقينا جميعا هناك، عند رأس الرجاء الصالح/ نشارك الميناء الشاحب وداع السفن العابرة في اعالي بلاد القلب. الولد الضائع على الأرصفة وفي أجنحة النوارس سيبقى ضائعا».
ها قد ركب راجح خوري صهوة حرمون… فكيف تراه سينزل عنها، الا اذا اعانه الطفل الذي ينطق شعراً؟!
تهويمــات/ العودة من الغرق
تحضرين مع الأغنية، وتحتلين موقع الشعر فيها وتعزف عيناك موسيقاها، واسمعها بصوتك فتأخذني النشوة الى البكاء!
امشي يرفرف عليّ ظلك يدلني على الطريق منك اليك. كيف تتعددين وتتوزعين على كل من أرى، فأجدك امامي وخلفي، عن يميني وعن يساري، تسابقينني فتسبقين، وحين أوسع خطاي أجدك الى جانبي فاذا ما توقفت امتدت يدك تمسح تعبي، اما اذا دهمني اليأس فأجدك تحملينني وتطيرين بي الى وادي النسيان.
كيف يمكن خرق الحصار، وانت الجهات جميعاً.. اشعر بأنفاسك تطوقني حتى لو كنت في قلب البحر اطارد سمكة تتبدل الوانها مع كل رمشة عين، فاتوه عنها لأغرق في غابة الاسماك اشارك في مهرجانها البهي داخل الشعب المرجانية التي تمتد كما الأوردة لترسم ملامحك بالأزرق والاصفر والاحمر والوردي والليلكي وحروف اسمك مطرزة بلون القلق؟
يهرب مني الشاطئ وتقترب مني السماء، وانت في غياهب البعد أقرب اليّ من يدي التي يُتعبها التلويح بطلب النجدة.
يهتف بي بعض السابحين ان ارجع، وانا ما تقدمت الا بخوفي. ويهب لنجدتي من لا يعرفني فأرى في وجوههم ملامحــك، ولا أمد يدي الا متى تبينت الوشم الذي يمــثل جملا امام خيمة وعجوزاً يرقص لنفسه في نوبة جنون تعطيه اسمه.
حين أعود الى الشاطئ أجد السمك قد أعطى عيني بعــض ألــوان مهرجــانه لانه قرأ على وجــهي عشـقي وشــطراً من بيــت شـعر مهجور لمجــنون ادعى انـه أكــبر من الحب فسقط شهيداً!
حكايـــة/ حريق البنفسج!
هي ولدت بهاتين العينين اللتين يسكنهما الشبق وتعجز رموشهما عن اطفاء الحريق فيهما.
قال الأول: ستكون لي! ان قلبها في يدي!
قال الثاني: اما انا فأعيش بأملي.
قال الثالث: تكفيني منها ابتسامة.
عبرت بهم فتجمعوا خوفاً خلف حائط، وتابعوها بعيونهم التي اتسعت حتى اخفت ملامحهم فصاروا واحداً.
قال الأول: لقد ابتسمت لي!
قال الثاني: بل هي قد غمزت لي.
قال الثالث: اما انا فيكفيني عطرها. الله، الله، انني في ذروة النشوة.
اما حين التفتت الى الخلف بشيء من الخوف فقد اندفعوا اليها يتصايحون: كيف تسيرين وحدك والطريق ليل؟
غمرهم صوتها بالسكينة، فقال الاول:
ـ احملك وأطير بك الى حيث تقصدين!
قال الثاني: آتيك بمن تطلبين في غمضة عين.
قال الثالث: سأنتظرك هنا، احمي موكبك ذهاباً وإياباً!
في بيتها لاقتها صورتها في المرآة: كان وجهها حقلا من ورود القبلات.
تأملت عينيها، حتى غرقت فيهما فهدأت نفسها. قالت: لقد غدوت اكثر جمالاً. ها هي قلوبهم تتفتح على خدي بنفسجاً وياسمينا.
وسمع من في الخارج صوتها تغني… اما من كان أقرب فــرآها ترقــص بينما تحيط بها ألسنة الحريق.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نســمة» الذي لـم تعــرف له مهنة إلا الحب:
ـ انظر حبيبك في عينيه تقرأ قلبه فيقرأك.
العين ديوان الحب: منها ينبع الشعر، وفيها تمتد الموسيقى نهراً من شجن، فتملأ دنياك نشوة من غنّاه حبيبه حتى أطرب الناس جميعاً.

Exit mobile version