طلال سلمان

هوامش

صباح قباني: القلم الفنان للدبلوماسي المميز
قال الصديق الذي اختار المطعم الأنيق الذي يقوم كشرفة تطل على مسرى نهر بردى، وخلفه جبل قاسيون، وهو يشير إلى تحت موقعنا مباشرة:
ـ أترى اطلال هذا البيت؟ انها بقايا منزل الشيخ احمد ابي خليل القباني مؤسس المسرح الغنائي في الشام ومصر… ولسوف تعيد الدولة ترميمه وتجعله متحفا لنتاج هذا الفن.
وروى الصديق النهاية المأسوية لذلك المسرح، الأول في بابه في مختلف ديار العرب، والذي كنا سمعنا عنه وعن مؤسسه الشيخ من اديبنا الكاتب المسرحي المبدع الذي غادرنا قبل سنوات، سعد الله ونوس، والذي عمل مع غيره من أهل القلم في سوريا، مسرحيين وكتاباً وشعراء ومثقفين، لاعادة الاعتبار الى ذلك المتقدم بين الرواد، ثم الى بعث مسرحه في قلب دمشق ليكون مركز الحركة المسرحية الحديثة.
بعد أيام، وصلني كتاب بسيط الغلاف أنيق الاخراج لمن اكتشفت انه أحد أحفاد الشيخ احمد خليل القباني، صباح قباني الذي عرفته دبلوماسيا، وعرفه غيري من مؤسسي التلفزيون في سوريا، فضلا عن انه كان بين من ساهموا في تعزيز قدرات الاذاعة السورية، وبين من اطلقوا المطرب الراحل عبد الحليم حافظ، وكان بين من شكلوا «هيئة أركان الرحابنة وفيروز» في دمشق، في الاذاعة والتلفزيون ثم المسرح الغنائي.
وكنت أعرف كذلك ان صباح هو شقيق شاعر الصبا والجمال نزار قباني، وان ثمة صلة قربى بينهما وبين الروائية المبدعة غادة السمان.
والأهم والأخطر هو الدور الذي لعبه كسفير لسوريا في واشنطن، عشية حرب تشرين 1973، وفي بعض فصول المحادثات السرية مع هنري كيسنجر حول الأسرى الاسرائيليين لدى دمشق، ومن ضمنها الرأي الصريح للرئيس الراحل حافظ الأسد في وزير خارجية نكسون وأدواره الملتبسة.
اما عنوان الكتاب فهو «من أوراق العمر: سيرة حياة في الاعلام والفن والدبلوماسية»… اما مضمونه فيتجاوز السيرة الذاتية الى ما يشبه تقديم «سيرة» مرحلة كاملة من مراحل النهوض السياسي ـ الثقافي ـ الفني العربي على امتداد القرن الماضي.
اختار صباح قباني ان يبدأ سرد رواية حياته من قلب قطار الديزل المتجه من محطة سيدي جابر في الاسكندرية الى القاهرة، في صحبة عبد القادر حاتم، وكان يومها نائب وزير شؤون رئاسة الجمهورية، وزير الاعلام في حكومة دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة، التي قامت من اتحاد سوريا ومصر بقيادة جمال عبد الناصر في 22 شباط 1958 ولم تعمر الا ثلاث سنوات ونصف السنة (حتى 28 أيلول 1961 الذي تصادف ان وقع فيه رحيل عبد الناصر بعد تسع سنوات بالتمام).
فالجد، الذي سنعرف انه الشيخ احمد ابو خليل القباني كان قد ترك دمشق بعد ان احرقت «الدهماء» مسرحه الغنائي الى القاهرة حيث احتضنته الحركة الثقافية الناهضة ومكنته من ان يلعب دور المؤسس للمسرح الغنائي فيها. وحين عاد الأب إلى مدينته دمشق جاء معه بالكثير مما اكتسبه في مصر، من اللباس، الى الاهتمام بالثقافة والفنون والعمل النقابي. ثم انه ما لبث ان اقترب من النشاط السياسي خصوصا ان الحركة الوطنية كانت تناضل، أواسط الثلاثينيات، ضد الانتداب الفرنسي… حتى اعتقله جنود الاستعمار ونقلوه، مع عدد من رفاقه، صيف 1939 الى معتقل تدمر، حيث أجبر على القيام بأعمال شاقة، قبل ان يرحلوه الى سجن الرمل في بيروت، حتى تمت هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية، فأفرج عنه وعن غيره كثير من المناضلين الوطنيين.
[[[
أرادت أمه ان يدرس الطب، لكن أخاه رشيد تدخل في اللحظة الأخيرة وأخذه الى كلية الحقوق. وقد أتاح له ذلك ان يتابع اهتماماته الفنية والثقافية، وان يظل قريباً من النشاط السياسي خصوصاً ان بيتهم في حي «مئذنة الشحم» بدمشق كان أحد مراكز الحركة الاستقلالية بقيادة «الكتلة الوطنية».
ومن دمشق الى باريس التي كان يحدثه عنها أحد أقاربه المميزين الدكتور احمد السمان، استاذ القانون، وأحد المساهمين في وضع الدستور لسوريا المستقلة… وهناك حاز شهادة الدكتوراه وعاد ليشارك في أنشطة عدة، أولها في الاذاعة السورية الناشئة، حيث بدأ يقدم ـ بناء لطلب من صديقه مديرها ـ برامج ثقافية بينها ما يتصل بالموسيقى الكلاسيكية التي كان يحمل اسطواناتها من منزله.
بعد الوحدة وقع عليه الاختيار ليكون واحدا من مؤسسي التلفزيون السوري، الذي بني مركزه على عجل فوق قمة جبل قاسيون، وكانت امكانياته محدودة، خصوصا أن مبناه قد انجز خلال أقل من سنة، ليتم افتتاحه مع تلفزيون القاهرة في العيد التاسع لثورة 23 يوليو (1961).
الكتاب بفصوله مجموعة من الكتب، يؤرخ كل منها لمرحلة في حياة سوريا (والمنطقة) وليس فقط في حياة المؤلف. ولأن تلك المراحل تأسيسية بمعظمها يجيء الكتاب أكثر من سيرة ذاتية، خصوصاً ان «بيتهم» كان يضم مجموعة من المبدعين:
«نزار قباني أسس مدرسة شعرية، وصباح أسس التلفزيون السوري، بعد مرور مئة عام على تأسيس الجد مسرحه في دمشق. ثم ان عمه ثابت من أوائل مدرسي الفن التشكيلي وبين من تتلمذوا على يديه الرسام نذير نبعة».
الكتاب فصول من تجربة حياة غنية بأطوارها المختلفة والمهمات المتعددة التي قام بها هذا «الذواقة» للفنون، شعراً ورسماً وموسيقى، والاداري الكفء والدبلوماسي المميز، الذي يقدم في سيرته هذه صورة مكثفة لصاحب قلم مترف ثقافة وخبرة واصالة دمشقية وايمانا عميقا بالعروبة لم تهزه النكبات.
محمد جمال إبراهيم: عاشق أفريقيا في دفاتر حبه الكثيرة
اعترف، صراحة، بأنني ضعيف جداً امام الشعب السوداني، الطيب بأكثر مما تفترض، وربما بأكثر مما يجوز، والذي لم يقدر له ان يهنأ لا باستقلال دولته ولا بوحدة وطنه الذي يمتد بمساحة قارة تضم بين جنباتها عرباً اقحاحا وأفارقة متعددي القبائل، ومتشابكين في انسابهم مع العديد من «جيرانهم» الذين صاروا رعايا في «دول» أخرى، بسبب من التقسيمات التي فرضتها الحقبة الاستعمارية وغلبة الرابط القبلي على الشعور بالانتماء الى «دولة» بعينها: كيف تقوم الحدود بين الأخ وأخيه، بين ابناء العمومة، بين المعذبين في الأرض الغنية بنيليها والكنوز الدفينة التي ليس أخطرها النفط؟
ولقد عرفت فصادقت بعض المبدعين أدباً وفنا، من السودانيين، وبعض المناضلين بصدق من اجل ما يؤمنون به، بدءا بالتنظيمات السياسية شبه الدينية وانتهاء بالأحزاب العلمانية وأبرزها الحزب الشيوعي السوداني.
كذلك تلمست مباشرة ذلك الاحساس العميق بظلم ذوي القربى الذي يعيشه السودانيون نتيجة التخلي العربي عنهم وتركهم لمصيرهم، بينما المصالح الغربية التي أخرجت الحركة الاستقلالية عسكرها، عادت الى السودان عبر الخلافات السياسية في الداخل، وعبر الحساسية البالغة التي تحكم العلاقات مع مصر، التي تلبست ذات يوم دور الشريك للاستعمار البريطاني عن طريق مخادعة ملكها بتسميته ملك مصر والسودان، والتي استولدت حالة غير سوية في العلاقات بين البلدين المتكاملين في الجغرافيا والى حد ما في التاريخ، فضلا عن المصالح الاقتصادية والشعور بوحدة المصير… مع التوكيد على الرابط الحياتي بينهما ممثلا في نهر النيل العظيم.
… وعندما وصل جمال محمد ابراهيم لتولي منصبه كسفير للسودان في بيروت تحاشيته، في اكثر من مناسبة، لافتراضي (الخاطئ) انه مجرد «داعية لنظامه» الفريد في بابه، ولست في حاجة الى مصادقة المزيد من الدعاة!
غير ان هذا السفير الذي يستقبلك مبتسماً ويناقشك ضاحكاً، والذي تظلل طيبته وجهه الأسمر، فاجأني بانه، قبل السفارة وبعدها، اديب حقيقي ينطق بالشعر ويكتب القصة، ثم وجدته يوقع نتاجا جديدا في حفل اقامته دار نلسن احتفاء بصدور روايته الجديدة «دفاتر كمبالا».
يستهل محمد جمال ابراهيم دفاتره العشرة التي تغطي الاعوام 1977 ـ 1978 و1979 بمقاطع من قصيدة رائعة للشاعر السوداني الراحل محمد عبد الحي من ديوان «العودة الى سنار»، من مقاطعها:
«الليلة يستقبلني أهلي: خيل تحجل في دائرة النار/ وترقص في الأجراس وفي الديباج/ امرأة تفتح باب النهر وتدعو/ من عتمات الجبل الصامت والاحراج/ حراس اللغة/ المملكة الزرقاء/ ذلك يخطر في جلد الفهد/ وهذا يسطع في قمصان الماء/.
.. فهواجس بطل الرواية «مصيرية»، وهو الاستاذ الباحث في الفن التشكيلي المتخرج من لندن، والذاهب الى كمبالا كي يدرس في كلية الفنون الجميلة في «ماكريري» القلب الاكاديمي لهذه المدينة القائمة عند تخوم بحيرة فيكتوريا التي منها يجيء النيل في رحلته التي تخترق السودان حيث يتلاقى فرعاه، الابيض والازرق، ليواصل مسيرته عبر مصر من حدها النوبي حيث قام السد العالي، وحتى المصب عند رشيد قريبا من الاسكندرية.
انه يغادر حباً مقهوراً ليغرق في بحر الشهوات، قبل ان يفيق على حب محرم، ثم يرتد الى حيث بدأ رحلته موعوداً بحب مستحيل.
تختلط في الرواية العواطف الشخصية بالتطورات السياسية في تلك الدولة الافريقية الغنية التي كان يحكمها الدكتاتور عيدي أمين، مستقويا بالهاربين من الحرب الاهلية في جنوب السودان الذين صاروا حراس سلطته… لكن التفاصيل السياسية تجيء عارضة، وكاطار فقط لتنقل هذا العاشق ـ المعشوق القلق المقلق، ثم ترفدها بعض الوقائع البوليسية عن شخصية غامضة، نعرف في ما بعد انها ضابط مخابرات اختفى في الظروف الغامضة لصراع الارادات والمصالح التي أودت بحكم عيدي امين.
على ان الرواية تظل أقرب الى قصيدة حب يظللها الشبق، وان بقيت الشخصيات عموما بملامح غير مكتملة، لأن الاكتمال يقارب الفجيعة:
«الليلة يستقبلني اهلي: اهدوني مسبحة من اسنان الموتى/ ابريق جمجمة/ مصلاة من جلد الجاموس/ رمزا يلمع بين النخلة والانبوس».
يختلط في كتابة محمد جمال ابراهيم الشاعر والروائي والرسام وتضيع الحدود بين هؤلاء الفنانين جميعاً، لكن افريقيا تظل هي البطل، بقبائلها التي اصطنع الاستعمار لها دولا مهيأة لتكون بؤرا لحروب أهلية لا تنتهي.
هل أجمل من هكذا مناخ لعشق يتهدد الموت اكتماله؟!
«بدوي أنت؟/ لا،/ من بلاد الزنج؟ لا،/ انا منكم تائه/ عاد يغني بلسان/ ويصلي بلسان».
بهذه الأبيات للشاعر السوداني الراحل محمد عبد الحي، يختتم جمال محمد ابراهيم روايته البتراء، لانه كان أجبن من ان ينتصر بحبه ولحبه، وفضل ان يمضي في هربه الذي بدأ في الخرطوم وامتد الى كمبالا ثم ارتد الى الخرطوم ثانية قبل ان يواصل تجواله وراء قلبه ليرسم مزيداً من اللوحات الممتعة التي تقدم افريقيا كواحدة من جنان الحور تغسل قدميها في بحيرة فيكتوريا التي ولدت النيل، بينما رأسها تتناهبه سيوف الفرنجة والدكتاتوريين والقبائل الذين حرموا من ان يكونوا شعوبا في دول تحمي وجودهم وكرامة حياتهم.
جمال محمد ابراهيم فنان بقلب شاعر يمارس الدبلوماسية برقة العاشق، يحاول ان ينتصر بقلبه على مخاطر الحروب الاهلية التي تكاد تعصف بأوطاننا جميعا.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسـمة» الذي لم تعـرف لـه مهـنة إلا الحـب:
ـ الحب هو الشعر، يستمد جمالياته من الاستحالة. هل رأيت عاشقاً يحدثك عن العقل؟! لكن القلب يتسع للعقل أيضاً، ولذلك يمكنك ان تعيش حبك بغير ان تخسر عقلك تماماً.
اجازة قصيرة للعقل تجعلك عاشقاً عظيماً، فإن طالت أخذتك إلى الجنون!

Exit mobile version